رحل مربي الاجيال وستظل القيم الفاضلة خالدة بيننا
بقلم محمد طه توكل 12.8.2015
المواقف كثيرة هي التي تجمع الانسان بأخيه الانسان لكن لحظة الأسى والحزن تظل هي الاقوى تأثيرا في النفس.. وعليه اتقدم بأسمى آيات الشكر والتقدير والعرفان إلى الذين وقفوا معنا في فقدنا للمربي الكبير “صالح حمدي” رحمة الله عليه فقد تواردت علينا التعازي من كل الاخوان والاصدقاء وشركاء النضال ومحبي الفقيد.
وتنوعت رسائل العزاء كل بما توفر له من وسائل التواصل الاجتماعي ومنهم من تكبد مشاق السفر وشكل حضورا خفف عنا الحزن والفراق. وكلها مواقف ماثلة ستبقى فينا ما حيينا سأئلين الله ألا يريهم مكروها في عزيز لديهم.
ونتقدم بالشكر لكل الذين شاركونا بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم السياسية التي تعدت القبائل والمناطق ومساحات الوطن الواحد من اصدقائنا واصدقاء الراحل من مختلف البلدان العالم وإرتريا.
وهذا يؤكد أن الراحل الأستاذ حمدي ” كان شخصية عامة من خلال معارفه عبر تجربته الطويلة في مجال التعليم ومواقفه الثابتة نحو قضايا الوطن ومبادئه الراسخة في مسيرة النضال الوطني التي ظل يحمل كل معانيها وقيمها كمعلم ومرب للاجيال ورفيق درب في العمل الثوري الذي كان يمثل احد اركانه منذ بدايات الثورة الإرتيرية.
ولم يقتصر دور الراحل الأستاذ حمدي في التعليم النظامي في مراحله ومستوياته المختلفة بل تجاوز ذلك إلى تعليم الكبار خارج الأطر النظامية متعاونا وأخذا بيد الجميع كبارا وصغارا ليشقوا طريقهم في الحياة. وهو ما ساعد الراحل ” الأستاذ حمدي ” في وضع لمسات واضحة ومشرقة على نطاق واسع بين مختلف شرائح أبناء اريتريا.
فالراحل المربي صالح حمدي بدأ رسالته التربوية داخل إرتريا في(كرن؛ أغردات؛نقفة؛ وأسمرا) وانتهى بها إلى المهجر حيث عمل مديرا لمدرسة اليونسكو في كسلا بشرق السودان ايمانا منه برسالة التعليم التي هي وسيلة لكل تغيير اجتماعيا كان أم سياسيا.. جعل الأستاذ الراحل حمدي من رسالته التعليمية والتربوية سلاحا للتحرر والانعتاق وضعه الأستاذ بيد ابناء وطنه لا ليكافحوا الاستعمار فحسب وإنما ليتحرروا من الجهل والفقر والجوع.
وتعتبر الفترة التي قضاها الراحل المربي بإدارة مدرسة ” اليونسكو في كسلا ” هي من أبرز السنوات في حياته حيث كان مثالا للتميز والحيادية في خدمة التعليم والمتعلم بعيدا عن اهواء القيادات السياسية في التنظيمات الإرتيرية التي كانت تسعى وقتها إلى إلحاق أبناء الموالين لها بالمدارس الامر الذي ظل يرفضه الراحل الأستاذ حمدي انطلاقا من مبدأ أن التعليم لا يعرف الانتماءات السياسية وانما يعرف الطالب الجاد والملتزم والمؤمن بأهمية التعليم.
وهذه المواقف النبيلة للراحل أحبها الجميع والكل شهد له بقوة الشخصية والتميز الاداري وهو ما أهله ليكسب محبة واحترام الجميع.وكل هذا ظهر جليا في كتابات الكثيرين من المعزين من تلامذته وأبنائه الذين تربوا على يديه معبرين عن حزنهم العميق للفقد الجلل.
وتربطني بالراحل الأستاذ حمدي” علاقات خاصة وكان اللقاء الأول الذي جمعني به في الخرطوم بفندق “مريدين” بحضور الراحل عبدالله ادريس في عام 1999. وسرعان ما تطورت العلاقات وأخذت بعدا اجتماعيا .. ترحلنا معا من السودان إلى كل من إثيوبيا؛وجيبوتي حتى وصلنا معا إلى أستراليا التي بها وافته المنية ألا رحم الله الأستاذ الراحل حمدي.
وكان الراحل بانسايته وعطفه الأب والأخ والمعلم والسياسي الملم بكل مفاتيح العمل الإداري الذي يعرف كيف يجيد فن إدارة العمل الذي يليه.
وأكتب اليوم عن الراحل رغم ما أجده من الصعوبة في الكتابة عن قامة مثل الراحل والمربي الأستاذ (حمدي) لأني أعرف جيدا مهما كتبت عنه صفحات من الورق لايمكن أن أوفيه حقه.فالراحل المربي تعلمت منه ماهية الحياة البسيطة وكيف تدار بكل التقلبات التي لاقرار فيها.
فالراحل كان قليل الكلام كثير الصمت يجيد الاستماع وله القدرة على الاستنتاج والابلاغ عما وراء الحدث.. لم لا وهو المربي الذي تمكن من اجادة لغات اساسية ” العربية والانجليزية والايطالية ” الى جانب التجرينية والتقري والبلين.
وكنا نعرفه عن بعد بانه الشخصية القوية الصارمة في العمل الاداري التربوي. لكنني منذ ان التقيت به وجدته الاب الرحيم والصديق الوفي والمعلم الملتزم والسياسي الذي تأخذه هموم الوطن وتضبطه المبادئ والقيم.. شجاع وقت المواقف.. كريم لا يتردد في القضايا الواضحة .. وله القدرة في التعبير عن الفكرة والمبدأ بأوضح ما يكون واقوى ما تحتاجه المواقف والقضايا .
وحينما تحدث الراحل الأستاذ حمدي يمنحك الثقة ويسمع منك إلى مالا نهاية وفي حديثه وأسلوبه تجد الصدق والاخلاص وتنقاد لفكره ورؤيته بكل أدب واحترام هكذا ظل حتى رحل عنا عليه الرحمة.
فكان الراحل الأستاذ حمدي لايعرف الحدود والحواجز فبمجرد ما تعرفت عليه رغم فترة تعرفي به كانت من أحلك الظروف التي مرت بها المعارضة الإرتيرية من صراعات واتهامات متبادلة بين مختلف الفصائل والأطياف السياسية.. واستفدت كثيرا من حكمته وقدرته في التسامح .. علمني كيف اتقبل واتعامل مع هذه القضايا بكل وعي وصبر دون ان تؤثر في حياتي.
وكان الراحل الأستاذ حمدي حكيما يحاول تقريب المسافات بين الفرقاء ويسعى لتوحيد الخطاب الوطني وجمع كل القوى حول الثوابت الوطنية المتفق عليها.
لم يكن الراحل الأستاذ حمدي معلما فحسب وانما كان قياديا اجتمعت حوله قلوب المعارضة الإرتيرية بشتى اتجاهاتها فكان منزله بالخرطوم وكسلا ملتقى لكل قادة المعارضة .. يأتون إليه لحل خصوماتهم لانهم كانوا يرون فيه القيادي الذي يتمتع بالحيادية والحكمة في حل الخصومات.. يأتون لمنزله بحثا عن معلومة تاريخية أوتجربة سياسية تفيدهم في معترك الحياة السياسية والنضالية..فرصيد الراحل الاستاذ حمدي النضالي الكبير والمامه بالقضية الإرتيرية كان يمكنه من ذلك.
وأن موقفه الثابت وعدم عودته الى ارض الوطن الذي ظل يحلم به دليل على انه من اوائل الذين ادركوا ما آل إليه حال الوطن والمواطن في ظل الجبهة الشعبية حيث عرف الأستاذ الراحل مسبقاً طبيعة وهدف النظام عرف أن الحرية التي جاء بها النظام حرية منقوصة ما لم يتحرر الانسان الأريتيري.. فلم يعد الى اريتريا بالرغم من انه كان وقتها في كسلا . وهذا المبدأ هو الاخر جعل منه قبلة لكل رموز المعارضة الإرترية.
فالراحل لم يكن محل اتفاق من المعارضة فحسب وانما كان صديقا مقرباً لدى القيادات السودانية المهتمة والمرتبطة بالقضية الإرتيرية.
وما يجدر ذكره هنا مائدته لفطور الجمعة الثابتة في منزله بالخرطوم.. التي كانت تجمع الاصدقاء والشركاء من السودانيين والإرتيريين .
انتقل الراحل إلى أستراليا في عام 2008 .. وله اسهامات مقدرة في تعزيز وتوحيد موقف قوى المعارضة في استراليا وبصمات الأستاذ الراحل حمدي قوية وواضحة من خلال تصدره واجهة العمل المعارض في عام 2009 – 2010. وترأس وفد أستراليا إلى ملتقى الحوار الوطني الذي تمخضت عنه المفوضية الوطنية في عام 2010.
وكان الأستاذ الراحل حمدي وعبده عثمان كنتيباي قد مثلوا استراليا في المفوضية حيث كان لوفد استراليا دورا هاما في ذلك الملتقى الذي مهد لمؤتمر (هواسا) بإثيوبيا والذي تكون منه المجلس الوطني الإرتري للتغير الديمقراطي في العام 2011.
ومن باب الانصاف لم يكن الأستاذ الراحل حمدي متحمسا لتولي رئاسة المفوضية حيث تم ترشيحه من قبل تنظيمات التحالف بعد أن إجتمعت معه قيادات من الحزب الإسلامي وجبهة الانقاذ الوطني وحزب النهضة والإصلاح والمؤتمر الإسلامي وقدموا له مقترحا لكي يتولى رئاسة المفوضية نظرا لأهمية المرحلة والتحديات..وهذه هي شهادة للتأريخ فقط لاغير.
وكنت أنا أتابع وقتها عن كثب ما كان يدور من نقاش وعلى إثر اللقاء تحدثت مع الراحل أحمد ناصر ويوسف براهنو والدكتور حسن سلمان ونورو إدريس؛ ومحمد سفر..نقلت إلى الجميع رغبة الراحل بعدم القبول للترشح لرئاسة المفوضية.. وكذلك تحدثت في هذا الموضوع مع بشير اسحاق ووفد استراليا (عامر حقوس؛ عبدالقادر محمد حامد؛ والراحل عمر جابر) وتناقشت معهم حول مقترح التنظيمات السياسية وتحفظ الراحل في الترشح. وكان موقف وفد استراليا موقفا موحدا في دعم مقترح القوى السياسية في حال قبول الراحل بالمقترح..وسرعان ما تتطورت الأمور وعقدت المفوضية اجتماعها الأول.. والقوى السياسية التي كانت تدعم الراحل من منظور استراتيجي حيث رشحت الراحل بأن يتولى رئاسة المفوضية باعتباره أكبر أعضاء المفوضية سنا وعلما ومكانة وتجربة وتولى الرئاسة المؤقتة للمفوضية حتى إجراء الانتخابات واختيار رئيس للمفوضية.
وأخيرا تمت العملية بسلاسة وترأس الراحل الاجتماع الأول بفندق (ناشنال بأديس أبابا) وحدد موعدا لمقابلة رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ملس زيناوي لأعضاء المفوضية البالغ عددها 53 عضوا.
وفي ذلك اللقاء التأريخي لأعضاء المفوضية وهو أول لقاء من نوعه جمع ممثلي القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني ورجال الدين وممثلي الجاليات والنساء والشباب برئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ملس زيناوي..في هذا اللقاء كان أول المتحدثين هو الراحل الأستاذ حمدي الذي تحدث بلغة دبلوماسية عالية شاكرا رئيس وزراء وشعب وحكومة إثيوبيا على دعم نضالات الشعب الإرتري من أجل التغيير الديمقراطي من أجل التخلص من النظام الدكتاتوري في بلادنا.
ولم يفت على الأستاذ الراحل حمدي أن يثني على رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي على الدعم الذي قدمه بقبوله نتيجة الاستفتاء واحترام خيارات الشعب الإرتري.
كما نقل الأستاذ الراحل حمدي إلى رئيس الوزراء الإثيوبي رغبة الشعب الإرتري لبناء علاقات استراتيجية مع الشعب الإثيوبي. وفي أخر كلمته قال الراحل (حمدي) سوف أعطي المجال للمتحدثين من بعدي وكان أحدهم باللغة العربية والأخر باللغة التجرينية ليقدموا كلمة الشكر باسم أعضاء المفوضية على الدعم الذي تقدمه الحكومة الإثيوبية للشعب الإرتري..وكانت كلمة الراحل في هذ اللقاء موجزة .. شرح من خلالها أهداف المفوضية ونتائج ملتقى الحوار الوطني الجامع.
وادخل الأستاذ الراحل بهذا السلوك عرفا جديدا مثل مدرسة جديدة وفريدة في جو كان يسوده الحديث والتعبير عن الرأي الواحد فقط في مثل هذه المناسبات.. الامر الذي وجد استحسانا من اعضاء المفوضية وقبولا ورضى من رئيس الوزراء الاثيوبي الراحل ” ملس زناوي”.
وهذا ما وقفت عليه (أنا) بالتفصيل خلال لقائي فيما بعد بالراحل ” ملس زناوي ” الذي عبر لي عن ارتياحه بنتائج اللقاء الذي جمعه بأعضاء المفوضية وكان حينها رئيس الوزراء الإثيوبي متفائلا عندما شاهد الراحل الأستاذ حمدي الذي رفع من معنوياته بأن المعارضة الإرترية بدأت تخطو خطوات في المسار الصحيح.
وقال لي وقتها رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل زيناوي ان وجود مثل هذه الشخصيات في صفوف المعارضة الإرتيرية اعطاني الامل الكبير في التغيير الديمقراطي الذي ننشده في اريتريا.
وكان نفس هذ الانطباع عن شخصية الراحل ” صالح حمدي ” عند وزير الخارجية الاثيوبي السابق ” سيوم مسفن ” والقيادي ” سبحت نقا ” والسفير الاثيوبي بمصر ” محمود درير ” الذين التقى بهم الراحل خلال زيارته لإثيوبيا.
وكذلك كانت للراحل “حمدي” لقاءات مماثلة مع رئيس الوزراء الجيبوتي السابق ” دليتا محمد دليتا ” وقيادات بارزة أيضا في السودان الذي كان يكن للراحل احتراما وتقديرا كبيرين واستطاع الراحل أن يكسب كل من يلتقي بهم ويحولهم إلى أصدقاء من أجل قضية شعبه.
ولم يأتي هذا الاجماع في الإعجاب بشخصية الاستاذ الراحل حمددي من فراغ فقد تمتع الرجل بصفات كبيرة وعديدة جعلت منه رمزا من رموز اريتريا .
فإن التمسك والتحلي بالقيم الفاضلة يكسب الإنسان حب وتقدير الأخرين وهو الامر الذي وجدناه في الاستاذ الراحل ” “حمدي” الذي ظل قويا في مبادئه إلى أن أصابه المرض الذي لم ينل من عزيمته وقوته التي عرف بها حتى رحل عنا بذات البسمة التي عرفناه بها وهي لم تفارق محياها..
وفي ختام مقالي هذا أتعرض لتأثير الراحل الذي تركه على الصغار قبل الكبار في لحظة لاتفارق الذاكرة قال لي “فارس حفيد الراحل” وهو في الصف الاول الابتدائي يوم أن ودعنا جثمان الراحل:(لماذا كل هذ العويل والبكاء ..؟ وثم تدخل بشير الحفيد الأخر للراحل وسأل بدوره لماذا رجع الناس من المستشفى ولم يعد معهم جدي ..؟ حقا إنها أسئلة محيرة من صغار في هذا السن لم يدركوا بعد معنا للحياة والموت إلا أن الرد يكون حتميا في مثل هكذا موقف .. وجاء ردي بالقول:(إن جدو سافر بعيدا ولن يعد إلينا وسنلتقي به إن شاء الله في الجنة).. وبعد قليل عاد وقال لي سعود جدو في العيد القادم ليوزع علينا العيدية .. وكانت الأسئلة بالتناوب بين الحفيدين (فارس ؛وبشير) حيث تدخل بشير مؤكدا أن جدو سيعود إليهم .. وهذا الحوار كان يدور بين الطفلين بعد 3 ساعات من دفن جثمان الراحل الأستاذ حمدي وأنا في طريقي إلى يقام العزاء بـ “فلامنتون” مصطحبا لهم من المدرسة.. وببراءة الطفولة عبر الحفيدان عن ارتباطهم بالجد الراحل الذي كان على صلة خاصة بحفيديه (فارس؛ وبشير) لايمضي يوما إلا كان يلاعبهما ممازحا ومعلما.وحديث البراءة بأن جدهم الراحل سيعود يذكرنا بقول الله تعالي(الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون) وإن فارقهم جدهم بجسده فهو حي باق في ذاكرتهما..
الا رحم الله الفقيد ” صالح حمدي ” وكل شهداء الوطن والقضية. انا لله وانا اليه راجعون .
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=35096
أحدث النعليقات