رحيل المفكر الإسلامي الشيخ الدكتور حسن عبد الله الترابي
في هذه اللحظة من التاريخ الحافل بالمجاهدات، بعد انقضاء أربع وثمانين سنة من عمره، كلها بناء للذات في ساحات المعرفة، ثم عطاء وبذل وتضحيات في سبيل المبادئ السامية، لبى الشيخ الدكتور حسن عبد الله الترابي، مفكر الحركة الإسلامية العالمية، وأحد أبرز رجالاتها الأشاوس نداء ربه، إذ وافته منيته وهو يؤدي عمله السياسي في مكتبه، حين سقط مغشيا عليه، وجرى نقله إلى المستشفى لإسعافه، إلا أنها كانت الخاتمة لحياة مليئة بالمواقف العظيمة في خدمة الشريعة، إذ فارقت الروح البدن، راجعة إلى ربها، راضية مرضية، بإذن من الله ورحمة منه، نسأل الله أن يحشرها مع أرواح الصالحين، من عباد الله المخلصين، فقد كانت ـــ كما نحسبها ولا نزكي على الله أحدا ـــــ عاملة في نصرة الدين، داعية إلى التحرر من هيمنة الثقافة الغربية، وإلى نفض أرجاسها، والتطهر من أدرانها، بالأوبة والتوبة إلى الله تعالى في الحكم والسياسة بخاصة، ساهرة من غير كلل ولا ملل في مجابهة خصوم الشريعة، من التيارات الماركسية، المتطرفة في علمانيتها، المعادية لسيادة الشريعة، كتابة بالقلم، ومحاججة باللسان، ومصارعة في ميدان السياسة.
الدسوقي في لندن يتحدث عن الترابي
أدرت في لندن عام 1998م، ندوة في منزل أحد الإسلاميين الشاميين، دُعِي إلى الحديث فيها الدكتور إبراهيم الدسوقي رحمه الله، أحد رجالات الحركة الإسلامية السودانية الأوائل، خريج كلية الفنون ببريطانيا، ومصمم الدينار السوداني، بعد استيلاء ثورة الإنقاذ على السلطة في الخرطوم، كنت أنا من قدمه إلى الحضور، فتحدث عن مسيرة الحركة الاسلامية السودانية من فجر نشوئها، وذكر فيما ذكر أن السيد منصور خالد اتصل به ذات يوم عقب نجاح ثورة الخميني في إيران، يستشيره في ترشيح شخصيات إسلامية، صاحبة أثر فكري بارز في العمل الإسلامي، من أجل دعوتها إلى واشنطن؛ للحديث إلى رجال الفكر والسياسة من النخبة الأمريكية عن الإسلام ونظريته في الحكم والاقتصاد.
يقول الدسوقي رحمه الله فقلت له: فارس هذا الميدان رفيق دراستك في حنتوب الدكتور حسن عبد الله الترابي، ومعه لَفَتُّ انتباهه إلى الدكتور أحمد زكي يماني وزير البترول السعودي الأسبق، والدكتور خورشيد أحمد عالم الاقتصاد الإسلامي من باكستان، فوافق منصور خالد، ووصل الفرسان الثلاثة إلى واشنطن، وهنالك أبدعوا أيما إبداع، كل في مجال تخصصه، يعرضون الإسلام، وقيمه الحضارية، ونظريته السياسية في الحكم والاقتصاد، ويومها قال الترابي رحمه الله للنخبة الأمريكية المختارة لحضور هذه الندوة: الإسلام قادم .. قادم .. طال الأمد أم قصر، ومن مصلحة أمريكا أن تصالح الإسلام، ولا تعاديه؛ فإنه دين أمة عازمة على إعادته، مهما كانت التكلفة، وقدومه أمر لا شك فيه، وإنها مسألة وقت فقط، وليس من مصلحة أمريكا الوقوف في وجه الاسلام الزاحف.
يقول الدسوقي: انفض اللقاء وبعد مضي عشر سنوات منه، كان وصول الإنقاذ إلى السلطة، عندها لا بد أن يعود الأمريكان إلى هذه المحاضرة، يستمعون إليها من جديد.
قامت ثورة الإنقاذ وقام الترابي بجولة في الغرب، وحينها جرت محاولة اغتياله في كندا عندما اعتدى عليه سوداني ماهر بالكراتي، فاجأه بالضربات المميتة، فسقط رحمه الله مغمى عليه من الأذى، إلا أنه نجى من الموت، وعاد إلى بلاده، وعفى عن المعتدي.
زيارتي للدكتور الترابي ولقائي به
عندما دخلت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا أسمرا عام 1991م، زرنا صبيحة اليوم التالي أنا والأخ الشهيد السعيد أول خير مصطفى رحمه الله، والأخ الدكتور مصطفى إدريس، شقيق الأخ نور إدريس، وكان قادما من أمريكا، زرنا الدكتور حسن عبد الله الترابي في منزله بالمنشية في الخرطوم، وكانت هذه الزيارة بترتيب من الأخ أول خير رحمه الله واستقبلنا الترابي في منزله بكل حفاوة وترحاب، ووجدنا معه كلا من السيد السنوسي، والسيد موسى حسين ضرار رحمه الله، وبعد أن أخذنا مقاعدنا في المجلس، قال لنا الترابي مبتسما: مبارك إرتريا تحررت.
عقب مباركته هذه، تحدثت أنا مشيرا إلى أن هذا الاستقلال تحقق بنضال مرير، خاضه الشعب الإرتري لثلاثة عقود خَلَتْ، كلها آلام وأحزان، ودفع في سبيله الغالي، ولكن الأمريكان عادوا من جديد، وإن الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا يسيطر عليها اتجاه له موقف سلبي من العروبة والإسلام، وكل هذه مخاوف تثير الكثير من الشكوك والقلق، على مستقبل الإسلام والمسلمين في إرتريا. فقال لي: ما تقوله مجرد تأملات، والسودان يمتلك الحقائق، وليست أمريكا كل شيء، ولو كانت أمريكا تعلم كل شيء لما تركت دبابات البشير تتحرك نحو القصر الجمهوري، أمريكا تستقي معلوماتها عن السودان من مصر، ومصر لا تعلم عن السودان إلا القديم، وأنتم لا تكونوا كالفيلة، تتحرك ببطء، كونوا كالأرانب، تتحرك بسهولة، ولقد زارني إسياس أفورقي وملس زناوي في منزلي هذا أكثر من مرة، وتحدثنا عن رؤية مشتركة في تكامل السودان وإثيوبيا وإرتريا.
كان الزمن المحدد لهذا اللقاء نصف ساعة، إلا أنه استمر ساعة كاملة، تداخل فيها السنوسي، ومن جانبنا الأخ أول خير مصطفى رحمه الله، والأخ الدكتور مصطفى إدريس، ولقينا منه كل إكرام، رحمه الله رحمة واسعة.
انخراط إسياس أفورقي في إسقاط نظام الإنقاذ
ثم بعد ذلك نشطت كل من إثيوبيا، بقيادة ملس زناوي، وإرتريا، بقيادة إسياس أفورقي، وأوغندا، بقيادة موسفيني، والحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة جون قرنق، في العمل ضد المشروع الإسلامي، بتوجيه ودعم أمريكي، ويومها وصف كلنتون هذه المجموعة بالقادة الجدد في أفريقيا الجديدة، وأطلق على دولهم عبارة ( دول المواجهة ) وسوق إسياس أفورقي نفسه بإنتهازية كبيرة، ويومها صرح أفورقي بكل حماسة أنه عازم على إسقاط نظام الإنقاذ في الخرطوم، وسلم مقر السفارة إلى المعارضة، وحشد كل أطياف المعارضة السودانية في أسمرا، يؤلبها ويؤججها؛ لتهجم على السودان، وقد كان الهجوم فعلا من جهة قرورة، ومن جهة كسلا، مدن السودان الشرقية المحاددة لإرتريا، واقتيد شباب من الحركة الاسلامية السودانية من أبناء الشرق، معلمون في قرورة السودانية إلى إرتريا، وهنالك أعدموا في سجون أفورقي، كما أعدم معلمو المعاهد الاسلامية الذين أخذوا من مدينة كرن أحد أهم المدن الإرترية.
كتابات الدكتور الترابي وفكره
الدكتور الترابي كاتب مقتدر، قرأت له كثيرا، واستمعت له كثيرا، وكان آخر ما اشتريته من كتبه أجزاء من كتابه (التفسير التوحيدي) وجدته في الدار السودانية للكتاب بالخرطوم، كما أهدى إلي الأخ عبد المحمود أحد قيادات المؤتمر الشعبي كتاب (الحكم والسياسة) للدكتور الترابي في ندوة أقامها أنصاره بلندن، وحضرها راشد الغنوشي وغيره، من رجالات الفكر الإسلامي، وكان يومها الترابي مسجونا إثر خلافه مع البشير، قرأت هذا الكتاب واستفدت منه كثيرا، وكان من أول ما كتب الصلاة عماد الدين، وكتاب الإيمان والحياة.
تتميز كتابات الدكتور الترابي الفكرية بالجرأة في الطرح، والعمق في المناقشة، والشمولية في التناول، قليل من يفهم مقاصدها، تخاطب النخبة، وتجادل المتخصصين، لا تكاد تفهم صياغتها إلا حين تُقرأُ بتركيز وشدة انتباه، وربما تطلبت الإعادة مرة بعد أخرى، اجتهد في قضايا كثيرة من الدين، أخطأ في بعضها، وأصاب في بعضها، كانت له عثرات وهفوات وزلات في بعض المسائل العقدية؛ لأنه رحمه الله كان يفكر بمنطق الاعتزال في أكثر ما كان يطرحه ويناقشه، أنكر عذاب القبر، وأنكر نزول المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا السلام ومجيئه ثانية، وأنكر وجود الدجال وظهوره، وأنكر ظهور المهدي، وذكر في مراجعاته التي أجراها معه عزام التميمي مدير قناة الحوار أن أحد أجداده ادعى المهدوية، نقد الفكر الصوفي وسخر منه، كما نقد السلفيين، متهما إياهم بالنصية الظاهرية، والجمود الفكري، ومحاصرة الإسلام في شرك القبور، تاركين من ورائهم شرك القصور على حد تعبيره، أرقه ضمور الفقه السياسي الإسلامي وأرهقه نفسيا وفكريا جموده على القديم، انضم إلى حركة الأخوان المسلمين في بادئ أمره الدعوي، ثم ما لبس أن فارقها مستقلا عنها؛ لأنه رحمه الله كان متحررا من الجمود على القوالب التنظيمية، والتعبد بالعناوين في الأسماء، يلبس لكل مرحلة لبوسها، وينشأ لها تنظيمها المناسب، وإسمها المناسب، وأسلوبها المناسب، جبهة الميثاق، جبهة الإنقاذ، المؤتمر الشعبي، كان له من الفكر والعقل ما يصعب معه طاعة المرشد في القاهرة، والانقياد لبيعته؛ لذلك ألقى قيود البيعة عن كاهله، وألقى اسم المرشد، وتسمى بالأمين العام، وإن كان أتباعه ينادونه بالشيخ، وخرج بالحركة الإسلامية السودانية من الصفوية إلى الجماهيرية، اهتم بالمرأة في حركته واجتهاداته اهتمامه بالرجل، كان له رأي في التنظيم الدولي للأخوان المسلمين، ومبايعة مرشده العام، وهو أول من أثر عنه فيما أعلم مقولة (القطرية أول خطوة إلى الأممية) فعمل في قطر السودان، وركز على السودان وهمه، واجتهد في تطوير الحركة الإسلامية بالسودان، متجاوزا تراتيب الأخوان المسلمين التقليدية في التربية، حتى وصل بها إلى القصر الجمهوري، ووقف منه بعض الأخوان في منهجيته هذه موقف الخصومة، إلى حد اتهامه بالمروق عن الدين، والتشكيك في ثوابته، أو الابتداع فيه، كما فعل معه الشيخ سليمان أبو نارو، رحم الله الاثنين معا، والشيخ الدكتور عصام البشير الذي ظل ينقد أفكاره منذ وقت مبكر، كذلك الدكتور جعفر شيخ إدريس، وكتب به في الثمانينيات عبد البديع صقر أحد رجالات الأخوان المسلمين المصريين في الخليج، يشكوه إلى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، متهما إياه بالإحداث في الدين، وكتب الشيخ عبد العزيز بن باز إلى الترابي يستفسره عن الذي قاله فيه عبد البديع صقر، أطلعني الأخ محمد إدريس برق رحمه الله أحد قياديي الجبهة الاسلامية في بور تسودان على رسالة الشيخ عبد البديع صقر ورسالة الشيخ عبد العزيز بن باز إلى الترابي، ورد الترابي على استفسارات الشيخ ابن باز، رحم الله الجميع، وجمعهم معا في جنة الفردوس على سرر متقابلين، فرد الترابي على ما أثير بشأنه في المكتوب، ومما قاله فيها فيما أذكر: وأما قوله عني يتبعني الصوفيون، فهذا تأليب من حواري شيخ صوفي لشيخ سلفي، يقصد بالشيخ الصوفي الأمام حسن البنا رحمه الله مؤسس جماعة الأخوان المسلمين ومرشدها الأول، وبالشيخ السلفي الشيخ عبد العزيز ابن باز رحم الله الجميع.
أثرت عنه هفوات فكرية شذ بها وانفرد، وفتاوى نيل بها منه في دينه وعرضه، منها صحة عقد الكتابي وزواجه من المسلمة، وهو مما خالف فيه إجماع الأمة وعلمائها، كذلك إمامة المرأة فيما نقل عنه، إلا أنها شطحات نابغة من النوابغ، آلمه تخلف الفكر الإسلامي في جوانب منه، فأراد أن يجدد فيه، فأصاب وأخطأ، وقد سبقه إلى بعضها من هو مثله في الذكاء، الزمخشري قديما، ومحمد عبد حديثا، ومحمد رشيد رضا، أحد رواد المدرسة السلفية، والشيخ محمد الغزالي المعاصر رحمه الله، وآخرون غير هؤلاء، من رجال الفكر الاعتزالي الأوائل، رحم الله الجميع، وغفر للجميع زلاتهم، ولعلها تنغمر في كثير حسناتهم، وعظيم مجاهداتهم في سبيل دينهم.
شخصية صامدة ونزيهة
لم يغادر السودان باحثا عن الرزق في ديار الخليج وجامعاتها، ولكن عاش بين سجونه، يخرج منه؛ ليعود إليه ثانية، حتى وافاه الأجل المحتوم رحمه الله وغفر له، كان أمينا عفيفا، لم يتحدث خصومه أنه مد يده إلى المال العام ورتع فيه، متحدث لبق، ذو كاريزما جذابة، يسحرك ببيانه، ويسيطر عليك بشارات يديه، وحركة عينيه، وابتسامته الساخرة، يظهر لمن يتأمل سيرة حياته، ومسيرة صراعاته السياسية، أنه رجل صلب الموقف، من غير حماقة أو تشنج، مخاصم عنيد، لا يعرف الهزيمة والاستسلام لها أبدا، ومع ذلك يظهر أيضا أنه واقعي، يتعامل مع الواقع كما هو، إذا ما أحس أن في ذلك مصلحة، لا بد من اقتنائها، وعلى هذا دخل في مصالحة مع نظام نميري رحمه الله، وشغل منصب وزارة الخارجية في حكومته، وأقنع النميري بتطبيق الشريعة التي أطلق عليها خصومها قوانين سبتمبر، وبايعه حاكما على السودان، وخلال هذه الفترة يقال زج بشباب الحركة إلى الجيش، إلا أن نميري رحمه الله سرعان ما انقلب عليه فأودعه السجن، كذلك عاد إلى البشير مصافحا بعد أن كان يطالب بتسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية، ومات وهو يشارك في مؤتمر الحوار الوطني الذي ما زال مستمرا.
في فترة تحالفه مع النميري رحمهما الله معا حكم القضاء السوداني بالقتل ردة على المرتد محمود محمد طه، على الرغم من أن الترابي شخصيا لا يرى أن عقوبة المرتد هو القتل، ما لم تحمل الردة صاحبها على الثورة.
رحم الله الترابي وغفر له
وإني إذ أكتب ما كتبت عن الترابي رحمه الله أعزي نفسي أولا ثم كل الأخوة من أبناء الحركة الإسلامية في إرتريا والحركة الإسلامية السودانية، وعلى رأسها رئيس جمهورية السودان الشقيق المشير عمر البشير ثم قيادة حزب المؤتمر الشعبي، ثم أسرته الكريمة، أبناءه، وزوجه المصون وصال المهدي أجارها الله في مصيبتها وأحسن عزاءها.
رحم الله الشيخ الدكتور حسن عبد الله الترابي رحمة واسعة، ونفعه بما قدم للإسلام في حياته، ووسع له مدخله، وأنار قبره، وجعله روضة من رياض الجنة، وأراه منه مقعده إلى الفردوس، ومتعه برؤية ربه يوم القيامة، وبارك في نسله، وما خلف من عمل إسلامي، وجهد فكري، وإنتاج علمي، ولعل تفسيره للقرآن يجعل من القرآن أنيسه في قبره، ذلك ما نرجوه من الله، اللهم فتقبل دعاءنا له، إنك غفور رحيم، سميع الدعاء، ذو العفو والكرم، لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
وكتبه / الأستاذ الدكتور جلال الدين محمد صالح
الرياض25/5/ 1437ه الموافق 5/3/2016م
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=36571
الترابي أتاح فرص التعليم للارتريين وفي نفس الوقت سعى لإدماج الارتريين في السودان حيث فتح وسهل التجنيس مما أفقد هم الحس النضالي فاصبحوتجارا وأصحاب املاك وبذالك تم تهميش الإقليم الغربي في ارتريا والشرقي في السودان اذا بماذا يكون الترابي قدخدم القضية الارترية
الخ الكريم أحمد عبد الله حواي أكرمه الله بتقواه تحياتي لك واشكرك على تعليقك وأسلوبك الجميل الهادئ ونحن نشكوا في هذا الزمن من التشنج في الردود والتعليقات ولم يعد الناس يحتملون الخلاف في الرأي خصوصا إذا تعلق الكلام بمن يحبون وكثير من الناس ينظر لمن يحب ومن يبغض على أساس إما قديس وإما إبليس ولم يعد الانصاف والاعتدال يظلل تعامل الناس في حال الخلاف إلا من رحم ربك وأنا عندما علقت على كلام الدكتور جلال لم يكن قصدي الحديث عن الترابي فالرجل أفضى إلى ما قدم والله أرحم بعبده من الوالدت بولدها كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن علقت على كلام الدكتور من باب عتاب المحب. والقضايا السياسية التي تفضلة بالإشارة إليها معلومة لكن دعني أقول إن الرجل كانت له من القوة والسطوة في الحكم في عهد الإنقاذ قبل الاختلاف والانقسام ما يجعل العتب عليه أكبر ممن شاركه في الحكم والنظام لأنه استاذ الجميع في ذلك الوقت ولأنه لم يكن سياسيا أو عسكريا فقط بل كان رجل الفكر والسياسة والعلم، ولا يخفى على شريف علملك إن العتاب ينطوي على قدر من التقدير من جانب ووجود مشتركات من جانب آخر،فالإنسان لا يعاتب شخصا لا تجمعه به جامعة .
أما الدكتور جلال فالعتب عليه ليس لأنه قال ما يعلم في الترابي بل لأنه يعلم غير ما ذكر من المآخذ المأخذ الكبيرة والأخطاء الجسيمة من أخطاء الدكتور الترابي ليست أخطاؤه هفوات، بل ذلك نتيجة منطقية لمنهج ارتضاه الدكتور الترابي في التعاطي مع القضايا الشرعية وسار عليه الدكتور الترابي حتى آخر حياته وأن الكثير من هذه المآخذ أخطاء جسيمة.
وقصدي من هذا أيضا أن الناس ينبغي عليهم أن يحذروا من أخطاء المشاهير والكبار وخصوصا عندما يكون الرجل في حجم الترابي وأثره وتأثيره على قطاع كبير من شباب الأمة. فعندما يكتب د. جلال بهذه الطريقة ربما ظن البعض أن المسائل التي خالف فيها الترابي غيره هي من الأمور التي لا تخرج من دائرة الخلاف السائغ وذلك لما لمثل كلام د. جلال من مكانة ولما لشهادته من قيمة علمية.
وعلى كل حال أنا لا أحب أن يفهم الكلام على أنه محاكمة للترابي بين يدي ربه فلا ينبغي لعاقل فضلا عن طالب علم وفضلا عن مسلم أن يدخل بين العبد وربه وإنما يقتصر الكلام على الأخطاء خصوصا إذا أفضى الإنسان إلى ربه. وكنت لا أحب أن يكون الكلام على أخطاء الترابي في هذا الوقت حتى لا نؤذي مشاعر محبيه وذلك لقرب وفاته.
وأختم هذا التعليق على كلام الأخ الكريم بمقولة جميلة للإمام الشافعي رحمه الله تعد كلمة نورانية من هذا الإمام الكبير في التعامل مع من خالفنا الرأي حيث أورد الذهبي في السير القصة التالية وعلقه عليه
قال رحمه الله: قال يونس الصًّدفيُّ : ما رايتُ أعقل من الشافعي ، ناظرتُه يوماً في مسألة ، ثم افترقنا ، ولقيني ، فأخذ بيدي ، ثم قال : يا أباموسى ، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة .
قال الذهبي : هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام ، وفقه نفسه ، فما زال النُّظراءُ يختلفون.
أبو اليقظان المكي الرجل قال في الترابي ما عرفه عنه أما تتبع السقطات وما قيل فيه فليس الآن الحديث عنه لأن الرجل قد رحل عن الفانية وهو في ذمة الله.
ورغم ما قيل عنه ورأيي الشخصي فيه ومواقفه ما بعد الاستقلال فقد كان الرجل الوحيد الذي كان يجاهر بموقفه المساند للقضية الارترية ويكفيه وحزبه (جبهة الميثاق الإسلامي) موقفه المشرف في قضية السلاح الذي كان فيه موقف الأحزاب الكبرى سلبياً للغاية بينما كان موقفه صابا وواضحاً أما ما حصل منه بعد الاستقلال وابلاغ المعارضة بالموقف الرسمي للحكومة السودانية فلا يمكن أن يحكم على الرجل فيه لأنه كان ضمن النظام والحكومة.
أما الشرور والبلاوي التي قلت أنه نشرها فقد سبقه إليها الكثير، ويحسب له فيما يحسب أنه كان سبباً في تخليص السودان من المرتد محمود محمد طه
وقد ختمت تعليقك بعبارة جميلة تدل على نقاء سريرتك إن شاء الله وهي (والله يعفو عن الجميع) وتقبل تحياتي
للأسف هذا المقال يفتقد الحياد في المنهجية والغيرة على الثوابت التي عبث بها الترابي في حياته والشرور التي نشرها في واقع الحياة الإسلامية السودانية خصوصا.
وفي الواقع أن المقال عبارة عن الر دح على الميت وهذه الليونة في المقال غريب والرجل كان عنده الكثير من البلاوي في عقيدته وفقهه وفكره وهناك ردود عليه من أهل العلم في السودان أهم مما ذكر د جلال وعلى كل حال ما كنت أتوقع أن يكتب هذا المقال بهذه الطريقة التأبينية ومن اللافت للنظر موقفه من قضيت الشعب الإرتري ونظرته لنظام أفورقي وهذه تدلك على أن محبي الدكتور الترابي يبالغون المبالغات المقيتة في تقييم الرجل فكرا وسياسة. والله يعفو عن الجميع