سمراويت.. حنين الضفتين
محمد ديريه-عمان
أحد الأعمال الافتتاحية الكبرى في شرق أفريقيا.. بوابة لبلد لا يعرف عنه الناس في الوطن العربي شيئا.. قصة حنين بين مدينتين.. ليستا باريس ولندن.. ولا كتبها تشارلز ديكنز.. لكنه أشبه بضياع الملامح بين جدة وأسمرا.. يكتبها صحفي في بحر الثلاثين شوقا.. اختار دون بني جنسه خيار خوض التجربة ورسم اللوحة بلسان عربي فصيح هذه المرة.
خيار أشبه بركوب البحر عودة -هذه المرة- من “النزلة اليمانية” أحد أقدم وأعتق مناطق جدة، متجها صوب روما الصغرى كما كان يسمي الإيطاليون أسمرا سنوات استعمارها.
ضياع ممتد
عمل فني يقع في مائتي صفحة كمصافحة أولى لقلق الثنائيات على امتداد الرواية التي عنونت باسم “سمراويت”، تيمنا باسم البطلة الجميلة التي خلدها حجي جابر على امتداد الحبكة الروائية منذ نزوله أرض المدينة التي يسميها القاص السعودي سليمان الطويهر “أخضرا”، إلى آخر لحظة وقوف على ضياع الهوية بين تهجير قديم وضياع ممتد للهوية. للعلم يقيم في أسمرا 450 ألف مواطن إريتري مقابل 350 ألفا يقيمون في منفى قريب أشبه بالوطن يدعى السودان الشقيق.
سمراويت الفائزة بجائزة الشارقة للرواية مطلع هذا العام 2012، عمل يستحق الإشادة لأكثر من سبب..
مستباح كمطعم قديم
فقد نزح مئات الألوف من إريتريا لسنين.. وليس ذلك بمستغرب على بلد أفريقي طارد لشعبه كما هي الحالة في معظم شرق أفريقيا وأفريقيا عموما.. لكن موقع هذا البلد جعله مستباحا كمطمع قديم ابتدأه الإيطاليون أقدم مستعمري عروس البحر الأحمر الصغيرة.. ثم تبعتهم إثيوبيا ذات المطامع التوسعية منذ فجر التاريخ. وحين استلم أسياس أفورقي مقاليد الحكم بعد الاستقلال، وفى بوعد الرؤساء الأفارقة القديم.. ألا يترك معارضا.. وألا يكون له شريك في الحكم ما دام على قيد الحياة.
بذكاء من يمشي على خط النار دون خوذة إلا حجابا من تميمة الكلمات، يمرر حجي جابر كل أسلحة ذاكرة الحرب والتشرد وجزر المنفى وقلق الهويات القاتلة بموسيقى الثورة والجبهة إلى الجيل الجديد من أبناء إريتريا، دون عناء يذكر.
ثنائية المكان أجادها باقتدار هذا الشاب الزاعم أنه لم يقرأ كثيرا في الأدب العالمي, كذلك ثنائية الوطن البعيد القريب هنا في أسمرا، أو هناك حيث النزلة اليمانية التي نشأ وترعرع فيها, وحيث كان مواطنا كاملا إلا من ورقة الجنسية حين ينادي عليها وكيل المدرسة أو شرطي لا يعرف مكان وطنك الأصلي على الخريطة، ذات تفتيش مفاجئ عند مدخل الحارة.
نتربع أمام عمل افتتاحي لبلد لم ينل استقلاله إلا قبل عقدين من الزمن, بلد بقوميات تسع ولهجات كثيرة.. بلد يسكنه قلق الهوية متذبذبا بين العروبة التي أدارت له ظهرها في عز الظهيرة وهي الجار القريب، وبين أفريقيا التي تجره إليها علاقته الأزلية بهضبة الحبشة الكبرى.
أقلية مسيحية تحكم.. وأغلبية مسلمة مشردة في أرض الله.
قلق هوية صارخ.. ألخصه في مشهد سمراء جميلة تضع الصليب على صدرها وتقود إبل أهلها نحو ورود الماء صبحا.
إنها إريتريا حجي جابر الخضراء، حيث التقاء البحر باليابسة، وحيث الدين لا يعارض البيئة.. فالإبل التي اختص برعيها العرب دون خلق الله، لا تفرق بين مسلم وراعية يلمع صليب التثليث على صدرها، لذا استحق الجمل أن يكون شعار إريتريا الجديدة موسوما بأصالة على جواز سفر مواطنيها المسافرين دائما وأبدا.
رسالة خاصة يوجهها حجي لأبناء إريتريا المقيمين بين الرياض وجدة، فهذه الأرض التي احتضنتكم سنين لم ولن تكون وطنا بديلا في يوم من الأيام.. يختصر قلق جيل كامل في مشهد الشاب الذي يخرج مع رفاقه احتفالا بفوز فريقه في طرقات جدة، وحين يوقفهم ضابط الشرطة يختار الإريتري الأكثر انتماء منهم إلى ذلك النادي ويصفعه صفعة قوية، فقط لأنه ليس ابن البلد أو ليس سعوديا كما تقول الأوراق بين يديه.
رسائل أخرى منثورة هنا وهناك.. عتب شفيف على السودانيين لما يلاقيه الإريتريون في مخيمات النزوح، وتجارة قبائل الحدود بالإنسان النازح حد بيع أعضائه.
تخليد للقصيدة على ضفتي البحر الأحمر .. كل فصل من سمراويت يبدأ بمقطع موسيقي باذخ للمرحوم محمد الثبيتي رحمه الله، والفصل الذي يليه يستهل بموسيقى باذخة للعذب الزلال محمد مدني الشاعر الإريتري ذي الجرس اللغوي الخاص به..
هنا عمل سيتذكره الإريتريون الناطقون بالعربية لأجيال عديدة.. منها أنه الوحيد الذي تكلم باسمهم جميعا ولملم خيوط الحكاية باقتدار.. هذا عمل يصبو لجمع شتات الكثيرين.
شعب في كل بقاع الدنيا
يؤخذ على العمل أنه كتب بلغة تقريرية صحفية أفقدته جزءا من الشاعرية التي كان يجب أن يتكئ عليها الكاتب حنينا وصوت ناي.
ووجود بعض الحشو الزائد -المبرر- في ظروف كثيرة, وأتفهم شخصيا هذا الشيء ما دام العمل بمجمله رسائل من تحت الماء لشعب في كل بقاع الدنيا.
لكن يبقى للعمل خلود الأعمال الأولى لأوطان لم نزرها، ولم يكن ليكتب لنا شرف معرفتها إلا على يد حجي ومدني ورفاقهما.. رفاق النضال الطويل.
أتساءل بقلق كل من استمتع بهذا العمل الرشيق الدرامي الجميل: هل سيكمل حجي رحلة الرواية كوجه قادم من شرق أفريقيا بعد نجاح عمله الأول.
ليس الأفضل لكنه الأول
وبينما احتضن هذا العمل، تتناهى إلى مسمعي العبارة الخالدة للكاتب نوبواكي نوتوهارا صاحب الكتاب القيم “العرب بعيون يابانية” عن غسان كنفاني حين قال “لم يكن غسان هو الأفضل.. لكنه كان أول من خلد القضية الفلسطينية على ورق الذاكرة”.
ولابد أن حجي جابر قد فعلها هذه المرة باقتدار أهلّه للفوز بجائزة الشارقة لهذا العام.
المصدر:الجزيرة
http://www.aljazeera.net/news/pages/45981bc0-bfbf-4128-8f69-88b1381e65ec?GoogleStatID=21
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=25039
أحدث النعليقات