شائعة موت إسياس .. أهدافها .. ومداليلها
الشائعة الإعلامية التي أطلقت بشأن تدهور صحة الرئيس الإرتري إسياس أفورقي إلى حد تأكيد موته ما هي في الحقيقة ــ أيا كانت الجهة التي نسجتها ـ إلا مظهر من مظاهر حرب الشائعات التي تظهر عادة في أوضاع سياسية مضطربة، وغير طبيعية؛ لتحقيق أكثر من هدف سياسي، حسب تخطيط الجهة التي أشاعتها، وروجت لها بين المجتمع المعني.
هناك أكثر من احتمال في تحديد مصدر شائعة موت الرئيس أفورقي، والغاية من إشاعتها، وتأتي أجهزة نظام أفورقي الاستخباراتية نفسها في مقدمة المتهمين بحبكها والإلقاء بها في الأوساط الإعلامية المعارضة، وهو ما أرجحه شخصيا وأميل إليه، بدليل اتهام وزير الإعلام الإرتري (السي آي أي) باختلاق أكاذيب، تتعلق بصحة الرئيس أفورقي، على غير عادة النظام في تعامله مع الشائعات المتداولة ضده، ومهما أظهر النظام أنه مستهدف بها من قوى معادية، فإنه المتهم الأول بها، لكن ما الذ يضطره إلى صناعة الشائعات؟.
على الرغم من أن الشائعة فرضت علي ــ كغيري من المتابعين ــ قدرا من سلطانها وتأثيرها، إلا أني أوردت احتمالية اختلاقها من قبل النظام نفسه، غير أن أسلوب تسويقها وطريقة ترويجها هز في نفسي قوة تماسك هذا الاحتمال الذي برهن ظهور الرئيس على الفضائية الإرترية أنه كان الاحتمال الأكثر صحة وصدقا.
وما ظهور الرئيس في فضائية نظامه؛ لتكذيب هذه الشائعة بالصوت والصورة، إلا الحلقة الأخيرة من حلقاتها المصطنعة، والمحكمة بخبرة ومهارة استخباراتية، وتلاحظون أنها بدأت من التلفزيون الإرتري باتهام ( السي آي إي ) وتكذيبها رسميا، وانتهت أخيرا في التلفزيون نفسه بظهور الرئيس ذاته، وعلى هذا يرد التساؤل الآتي: ما الأهداف التي أراد النظام تحقيقها من وراء إطلاق هذه الشائعة؟ وما المداليل السياسية التي يمكن الخروج بها من تصرفه هذا؟ ولماذا يعمد إلى ترويج الشائعات؟
أقرب ما يمكن تصوره أن النظام أراد تحقيق هدفين مهمين ضمن أهداف أخرى ثانوية يصعب تجاهلها، وهما:
أولا: تجريد الإعلام المعارض عن تأثيره الملحوظ
على الرغم من محاولات إعلام النظام الجادة في إخراج الوضع السياسي المتردي للبلاد من كل جوانبه، على غير صورته الحقيقية، استطاع الإعلام المعارض بكل ما اشتمل عليه من عيوب ونقائص أن يعري النظام ونهجه الإعلامي والسياسي في إدارة البلاد، وأن يفضح انتهاكاته لحقوق الإنسان في مختلف الأصعدة، وأن يحرج عددا من الموالين له على الصعيد الوطني بالذات، وأن يفتح ملفات طالما جرى تجاهلها، وأن يكسر حالة الطوق الإعلامي التي توهم النظام أنه فرضها على الإعلام المعارض باعتقاله لعدد من إعلاميي الداخل، عام 2001م، وأن يكسب قدرا مهما من ثقة الجماهير التي أخفق إعلام النظام في إقناعها بجدوى سياساته، وأن يحيد جموعا منها عندما أخذ يمدها بمعلومات ذات أهمية في كشف ما يعمل له النظام من خنق إرادة الشعب، والتكتم على مضاعفات صراعاته الداخلية التي منها بالتأكيد نبش جرائم الاغتيالات في الماضي والحاضر، من نحو إثارته لنهاية القائد إبراهيم عافة، وطرح أكثر من سؤال عن الأسباب الكامنة من وراء رفض رأس النظام جنازة نيازقي المحفوظة حتى الآن في ثلاجة الموتى بأحد مستشفيات لندن، من أن تدفن في أسمرا، وفي مقبرة الشهداء بشكل رسمي، وقد كان الرجل من أهم الأيدي الأمنية التي استخدمها النظام في الفتك بخصومه ومعارضيه .. إلى قضايا أخرى تتعلق بالمخطوفين والمسجونين من الجبهة الشعبية نفسها ومن خارجها، والقابعين بلا محاكمات عادلة حتى اللحظة بتهم لم يمنحوا بشأنها حق الدفاع عن أنفسهم في حالة من غياب قضاء مستقل.
كما استطاع أن يوعي الجماهير بأن كل ما يعكسه لها إعلام النظام مما يسميه إنجازا تنمويا ما هو في حقيقته إلا تزوير لمعنى التنمية ومفهومها، وضحك عليها، وتلاعب بمشاعرها الوطنية.
وفوق ذلك قدر أيضا هذا الإعلام المعارض أن ينقل إليها بصدق معاناة الشباب الإرتري الهارب من جحيم النظام؛ وهو يسقط بين يدي عصابات الاتجار بالبشر.. وهو يغرق في البحار.. وهو جثث ميتة ملقاة في صحراء سيناء … الأمر الذي جعل ذلك التأييد الجماهيري الذي عرفته الجبهة الشعبية في ماضيها النضالي، وفي أول عهدها بالاستقلال، وظهور الدولة الإرترية إلى عالم الوجود يتناقص شيئا فشيئا، وبوتيرة متصاعدة، إلى حد بات مقلقا بالنسبة لها ومزعجا.
إن أكبر دليل على تنامي هذا التناقص الحاد والكبير، من هذا النجاح الإعلامي، للإعلام المعارض، هو حالة الفرح التي عمت الجمهور الإرتري في الداخل والخارج، من سماع هذه الشائعة نفسها، وسرعة تناقلها دون تريث، ثم حالة الحزن التي أصابت هذا الجمهور بظهور الرئيس وتكذيبه لها، إذ كان عدد غير قليل من الجمهور فرحا بسماع موته من منطلق أنه العقبة في استقرار البلاد.
لهذا كله أراد النظام باختلاقه لها، وتسريبه إياها إلى الإعلام المعارض، تفجير هذا الإعلام وتدميره، ومحاولة تصويره بالدرجة الأولى والأساسية على أنه إعلام كاذب، ليس له من حقيقة يمتلكها غير ترويج الأكاذيب بغرض زعزعة ثقة الجماهير فيه.
إن لجوء النظام إلى مثل هذه الأساليب الاستخباراتية في تكريس الهيمنة الديكاتورية، والحفاظ على نهجها الشيفوني، والحد من تأثيرات الإعلام المعارض، هو أبرز دلائل موته سياسيا، وأحد أهم إخفاقاته الرئيسة في احتواء مشكلاته الداخلية وتفاقماتها، لكن الجماهير أكبر من أن تعيد ثقتها إلى نظام كهذا، فقد جدواه ومبررات وجوده، ويعاني من تصدعات داخلية، وأمراض مستعصية على العلاج، بمجرد أنه نجح في تمرير هذه الشائعة إلى بعض وسائل الإعلام المعارض؛ ليجعل منها كاذبة وفاقدة للمصداقية، ودليلا على عافيته.
الجماهير تعي جيدا إنه فعلا آيل إلى السقوط، وأن أمراضه السياسية والعضوية ما زالت تنخر فيه، وأسوء من أن تعالج بمثل هذه المحاولات، وسيأتي يوم يخر فيه ساقطا، إنه يتآكل داخليا، وينتظر ذلك اليوم الذي تأكل فيه دابة الأرض من عصاه الأمنية التي يتوكأ عليها، ويهش بها على أتباعه المخدوعين والمضللين.
وإنها حرب إعلامية، يخوضها الإعلام المعارض بقدراته المتواضعة وإمكاناته المحدودة، ضد إعلام مجهز كامل التجهيز؛ لطمس الحقائق أمام الرأي العام، وتضليل الجماهير عن حقها الطبيعي والشرعي في التمتع بحريتها الإنسانية والوطنية.
ومن الممكن والطبيعي جدا في زحمة وحـدَّة هذا الصراع الإعلامي، وتفاوت هذه القدرات والإمكانات الإعلامية، بين إعلام النظام والإعلام المعارض، أن يقع الإعلام المعارض في الفخ، بتبنيه شائعة من مثل هذا النوع، إلا أنه يبقى إعلاما ناجحا في هز ثقة الجماهير بسياسات الجبهة الشعبية وجدواها في النهوض بالمجتمع وبناء دولة التعايش الوطني.
نعم من الضروري أن يكون الإعلام المعارض حذرا جدا، وعلى الجهة الإعلامية التي انطلت عليها هذه الشائعة، فتبنتها أن تكون يقظة في مستقبل أدائها الإعلامي، وأن تتخذ منها درسا.
ومع ذلك لا بد من التأكيد على الدفع المتواصل في ضخ الرسالة الإعلامية بكل ثبات وجدية حتى تؤتي أكلها بإذن ربها، فالملاحظ اليوم وبفضل هذا الضخ المتواصل من الإعلام المعارض أن الأعداد المتشككة في مصداقية النظام ما زالت تتزايد، مهما حاول إعلام النظام، وحاولت أجهزة استخباراته الحد من هذا التزايد، أو توقيفه نهائيا، باللجوء إلى هذه الأساليب في صناعة الشائعة، بحكم أن ليس في جعبة الجبهة الشعبية اليوم من خطاب سياسي واقعي، وعقلاني، ومتجدد، تقدمه للجمهور الإرتري.
إنها فقط تردد ما اعتادت على ترديده من دعوى أن البلاد مستهدفة من ( السي آي إي ) وأن بقاءها وحفظ سيادتها من الانتهاك والضياع مرهون بحياة إسياس وبقائه على السلطة، وأن كل معارضيه عملاء الوياني وخونة، مجرد اتهامات تلقيها جزافا، وهو ما يزيد الشعب نفورا على نفوره، ويعزز من قناعته بأن الجبهة الشعبية باتت جزءا من التاريخ، وأنها تعيش ماضيها العسكري، وليس واقعها السياسي، وأنها ماتت سياسيا، فقد أضحت إخفاقاتها المتكررة تتسارع، من غير مراجعة حقيقية، في ظل حكم الفرد المطلق، ومع غياب مؤسسات الدولة وأجهزتها الضرورية، وأنها بحق عجزت بكل المقاييس عن بناء دولة العدالة الشاملة، وعن الوفاء بما وعدت به من جعل إرتريا (سنغافور) القرن الإفريقي!! وأن كل ما يعكسه إعلامها من جولات الرئيس على مشاريعه التنموية، ليس كافيا لأن يمنحها الحياة الحقيقية، ويجعل من إدارتها للبلد بهذا النهج القمعي إدارة شرعية.
وأنها لن تطيل أبدا من عمرها القصير، ولن تستعيد ثقة الشعب فيها بصناعتها للشائعات، مهما أبدت في ذلك من براعة، كما أن تسريب شائعاتها هذه إلى الإعلام المعارض لن تفقده تأثيره الملحوظ والفعال، بالر غم من ضعف إمكاناته وقدراته، ولن تجعل من إعلامها متفردا باحتكار الأجواء الإعلامية وتسميمها بنفاياته الملوثة بالأكاذيب والافتراءات.
ثانيا: التخلص من العناصر المشكوك في ولائها
بهذه الشائعة أيضا تكون أجهزة النظام الاستخباراتية تعرفت على قدراتها الاستخباراتية في دفع الخلايا النائمة والنشطة من أنصار ( G15 ) الاصلاحية على وجه الخصوص إلى الظهور في السطح بإبداء تصرف ما؛ يفهم منه أنها فرحة ومسرورة؛ الأمر الذي يسهل القضاء عليها بالاعتقال، والتصفية الجسدية، أو التجميد (الدسكلة) بالتنحية الجانبية، والتجاهل الوظيفي، مع حظر السفر خارج الأماكن المحدد لها للمراقبة الأمنية، بذريعة التآمر على أمن الدولة، والتورط في ترويج ما يمس استقرارها، ويهدد وحدتها، وينال من حياة رئيسها، في وقت هي على حالة حرب مع الدولة المعادية (إثيوبيا).
ولأن مجتمع الداخل بكل فئاته وشرائحه المختلفة خاض في تعاطي هذه الشائعة، وتداولها فيما بينه، فإننا بانتظار حملة تطهير كبيرة، صامتة ومتكتمة، سيجريها الجهاز الأمني وتطال أوساط المجتمع المدني، بمثقفيه، ومعلميه، وصحافييه، وأفراده العاديين، والمجتمع العسكري بألويته العليا، وضباط صفه، ومجنديه العاديين، والمؤسسة الأمنية نفسها بفرز العناصر الجادة فيها من الهزيلة، والمخلصة في ولائها من غير المخلصة، وتحسس عما إذا كانت مخترقة وإلى أي مستوى.
هكذا كان نهج (استالين) في التخلص من كل من كان يرى فيهم خطرا على تسلطه وبقاء ديكتاتوريته من رفاقه (المنشفيك) و(البلشفيك) واليوم يثبت لنا ظهور الرئيس إسياس أفورقي على شاشة فضائيته، مكذبا هذه الشائعة التي أطلقتها أجهزة استخباراته، أنه استنسخ النهج (الستاليني) نفسه؛ للقيام بحملات تطهير أمني، وإقامة محاكم التفتيش، يراها هو ضرورة لابد منها لتثبيت أركان نظامه في هذه اللحظة الحرجة من تساقط الأنظمة الديكتاتورية، وثوران الشعوب عليها، ويقظتها المفاجئة بخروجها في تظاهرات حاشدة، تهتف بالتخلص منها، وتتحدى آلاتها القمعية، وبطشها العسكري، لكن ما دلالة كل ذلك؟
حي .. إلا أنه ميت
ليس من دلالة للكل ما ذكرت سوى أن نظام أفورقي بلجوئه إلى نسج شائعات من هذا النوع، يعاني من أزمات حقيقية وقاتلة؛ ويهدف إلى تنفيذ خطة أمنية استئصالية، يحمي بها نفسه من غضبة الشعب الإرتري، بمزيد من ممارسات الإرهاب ضده، وبمحاولة شن حرب نفسية عليه من أجل تحطيمه نفسيا، وتعميق مشاعر اليأس والقنوط في داخله، بإيهامه أن النظام ما زال يتمتع بقدرات عالية في التحكم، وأنه فوق كل المآمرات المحاكة ضده، وأن لا سبيل إلى تغييره، وأن رئيسه في كامل العافية من كل ما يقال بشأن صحته، وأن المرضى هم أولئك الذين يعارضونه ويروجون الشائعات ضده حسب تعبير الرئيس نفسه!!
لكن ليس بالضرورة أن يصبح الإنسان جسدا بلا روح، ويختفي كليا عن مسرح الوجود البشري؛ لكي يصدق عليه وصف الموت، ويقال: إنه مات فعلا، ولكن قد يموت الإنسان وهو حي، يمشي على قدميه، ويتكلم بلسانه، وهو ما حصل للرئيس إسياس أفورقي… فقد مات منذ وقت مبكر.. إلا أن جنازته لم تدفن بعد .. مات في قلوب الجماهير العريضة بإفلاسه السياسي.. ومات خارج قلوب الجماهير أيضا بانتهاكات الفظيعة لحق الإنسان الإرتري .. إنه الآن يتنفس برئة الأجهزة الأمنية المركبة فيه.. ويتغذى على هذه الشائعات التي تطبخها أجهزته الاستخباراتية في نار هادئة؛ للتخلص من كل عنصر ترى فيه خطرا حاليا أو مستقبليا على بقاء النظام واستمراريته، ولكن إلى متى؟
كفى بهذا دليلا على موت النظام ورئيسه.. بالرغم من تظاهره بالعافية السياسية .. والسلامة من كل الأسقام السرطانية، والتليفات الكبدية التي تقال في شخص رئيسه.
وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=22634
أحدث النعليقات