شهداء يمشون على الأرض ….. قصص لجنود مجهولين
بقلم: صالح سيد محمد حيوتي
ثائر من جنود جيش التحرير الإرتري المجهولين، من الرعيل الأول، يمشي ويطوف وسط الناس وهو يحمل سلة الخبز على ظهر دراجة إيجار قديمة لإطعام الناس به، وهو نفسه محروم من هذا الخبز الذى يبيعه. وما يتقاضاه من هذا العمل لا يسمن ولا يغني من جوع. كل ما يكسبه يسد به رمقه ويطعم به أسرته، ولكن خريف العمر يدق مفاصل هذا الثائر بعد رحيل الشباب الذي أفناه ثمنًا لتحرير الوطن. وقد تكرم بطيب خاطر وبدون مقابل أن يعطي للوطن عينه اليسرى ويبقي بالأخرى، وسعادة الفداء تملأ وجدانه ولكنه أدرك يوم تحرير الوطن الذي أفنى حياته ثمنًا له، أن هذا المجهود الذى بذله قد سرق منه فى جنح الظلام، فوجد نفسه أمام معضلة صعبة إما أن يقف أمام أبواب المساجد متسولاً, يمد يده للمصلين في قارعة الطريق أو أن ينزل لسوق العمل الذى لا يناسب عقد السبعين من عمره.
وأخيرا قرر البحث عن العمل ثم اهتدى إلى سوق الخبز وبدأ بتوزيع الخبز على الناس والحوانيت. لكن هذا العمل لايسمن ولا يغني من جوع تحت ضربات ظروف الحياة القاسية. لهذا السبب جاءت صرخة الخيِّرين من الإخوة في الخارج لمساعدة هؤلاء الأبطال، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر هذا الثائر الذي ذكرت لكم، وهو المناضل البطل محمد آدم أمير “أبو طويلة” الذي ملأ الساحة النضالية شرفًا وشموخًا. هذا المناضل الذى فقد عينه اليسرى من أجل الوطن، يعاني اليوم من مرارة الغربة والاغتراب، واستحالة العودة إلى أرض الوطن هو أكفأ وأفضل من يمكن أن يعود إليه، وأيضا يشكو من المرض والفقر والتقدم فى السن، ومثله كثر من الأبطال الذين يتوكؤون على عكاز تنخره حجارة الأرض في مقدمته، فانكمش طوله من إرهاق المسير في الطرقات الحجرية، فما صار يصلح هذا العكاز لهذه القامات الشامخة التى أقعدها المرض والفقر وتقدم السن فأين الخيِّرين لإنقاذ هؤلاء الأبطال .
تؤكد الأرقام التي لدينا أن خمسة عشر دولارًا شهريًّا لا ترهق الجيب ولكن لو قسناها بظروفهم لها مفعول إيجابي، والمناضل محمد آدم أمير، على سبيل المثال لا الحصر، هو أحد هؤلاء الأبطال الذي أراد أن يموت واقفًا على ظهر دراجة قديمة لتوزيع الخبز الذي يطوف به في الأسواق والأحياء، ولكن خريف العمر والظروف القاسية كانت بالمرصاد لهؤلاء الأبطال.
وتمر بنا سيرة مناضل آخر وهو القائد البطل المناضل حامد صالح سليمان، وهو بطل من أبطال الثورة الإرترية، وكان نائبا لرئيس المنطقة الثالثة، وقاد معارك شرسة ضد العدو الإثيوبي. ذات يوم حل بقواته ضيفًا على قرية من قرى سرايي، كان أهلها يدينون بالولاء لإثيوبيا. وهذه القرية كانت تابعة لقوات المليشيا والمعروفة باسم “باندا جرقي”، وكان المناضل حامد صالح أكثر دراية بهذه الشريحة. وجاء وجهاء القرية ورحبوا بهم وتأكدوا من مرور الهواء إلى الجهة التي ينزل فيها جنود الثورة فأنزلوهم بها، وبدأ الباندا ورجال القرية بنشر مسحوق الشطة الحار “البربري” في الهواء بكميات كبيرة لتصل إلى عيون المقاتلين، ولتسجل إصابات مباشرة في عيونهم. فأدرك هذا المناضل الفذ حامد صالح المكيدة التي تدل على الكراهية والحقد الدفين، وأيضا تدل على الولاء المطلق لأمهم إثيوبيا. وعندها عصب عينيه بالثوب أو الشال الذي كان معه، ودخل معهم فى معركة وقتل من قتل منهم، وهرب بعضهم تاركين وراءهم الأسلحة والنساء وبعض من الرجال. ثم قال لهم “دمعة جندي واحد أغلى من دمائكم قاطبة”، تركهم وواصل بجنوده بسلام حيث أراد. وهذا القائد كغيره يعاني اليوم من الفقر والمرض والتقدم فى السن، ولا يسأل الناس إلحافًا، فأين أنتم يا أولي الألباب. ويمر بنا شريط الذكريات بسيرة قائد وبطل آخر، وهو المناضل البطل حامد جمع حزوت، الذي توشح ودخل على العدو وهو يحمل القنابل اليدوية في عملية فدائية جريئة، متنكرًا بملابس نسائية، وكانت حصيلتها قتل جنرال وضباط برتب متفاوتة وضابطي صف. وهذه العملية لم يسبق لها مثيل فى العمل الفدائي للثورة الارترية. وعاد منها هو وجنوده بسلام وهو مرتاح البال ولسان حاله يقول هكذا أوصاني أبي. وهذا القائد اليوم يعاني الأمرَّين، المرض الذي ألزمه الفراش وقصر اليد التي عجزت لإيجاد الدواء، فصار يتوكأ على عكازه، أي أصابه هو الآخر مرض التآكل والشيخوخة من تقبيل حجارة الأرض، فإن كانت عصا النبي سليمان أكلتها أرضة الأرض لتعلن عن وفاته. فعصا هذا القائد البطل والتي يتوكأ عليها أكلتها حجارة الأرض، دون أن تعلن وفاة صاحبها. وها هو اليوم طريح الفراش يعانى من مرض يسهل تداركه لو أرسل إليه الترياق الشافي من الدواء، وقليلا من النقود. فقد علمنا أن رجال الرعيل دومًا يرضون بالقليل، لأنهم تركوا سلفًا عالم الرفاهية. فمد يد العون لهم خير من التباكي على أمجادهم. وهذا الفدائي عندما دخل معسكر العدو ما كان ينتظر الشكر من أحد ولا زغاريد من حسناوات، ولكن كانت عنده رسالة كان لابد أن تصل إلى معاقل العدو، وهو اليوم طريح الفراش.
وسوف يستمر شريط الذكريات عن سيرة أبطال آخرين يمشون على ظهر البسيطة، أمثال المناضل منصور سعيد كحساي، وصالح حدوق، وبخيتة عبد الله، ونأمل أن تستمر هذه الحلقات إذا أمد الله في الآجال. نتناول في كل حلقة منها ثلاثة من المناضلين ذاكرين فيها مناقبهم وأدوارهم في التاريخ الإرتري.
من أبناء جبهة التحرير الارترية منذ الصبا
رفيق سلاح وقائد فى الرعيل الأول وقدامى المحاربين
صالح سيد محمد حيوتي
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=8932
أحدث النعليقات