شهـــادة الــــراوي وشعريـــة الهـــلاك
ليس غريباً أن تتعدّد في السنوات الأخيرة الأعمال الأدبية التي ترتكز على موضوع الهجرة بجوانبها المختلفة منها الهجرة السرّيّة، ذلك أن هذا الموضوع شديد الأهمية في واقعنا الحاضر وأصبح كثيراً ما يطغى على عناوين الأخبار اليومية.
وليس غريباً كذلك أن يكون تعاطي الأدب مع هذه الظاهرة مختلفاً عن التعاطي الإعلامي الذي غالباً ما يكتفي بتقديم الأرقام الرهيبة لضحايا المراكب التعيسة عبر البحر أو بيان محاولات السلطات للحدّ من الظاهرة.. إنّ الأدب مهما كانت مواضيعه وأدواته، أوّلاً، تعبير فنّي، وهو، ثانياً، تواصل لغويّ لا يرتبط بغير قوانين الكتابة، وهو دائماً حرّيّة مشتركة بين النص والقارئ تتأصّل فيها وبينهما العلاقة التي يتشكّل من خلالها المعنى الإنساني الحيّ والمفتوح. كما لا بُدّ من التذكير بأنّ الأدب فِعلُ بقاء، وَتَواصلُ حَيَاة، وتَجاوُز ينعتِقُ فيهِ الإنسان من ضيقِ الزَّمَنِ المحدود.
تتعلّق هذه الدراسة برواية الكاتب الإرتري المقيم في الدنمارك أبي بكر حامد كهال التي تمثّل إثراءً لأدب اللغة العربية وللأدب العالمي ككل بطرحها موضوع الهجرة السرية بطريقة خاصة تسمح بإبراز خصوصيتها وعالميتها في وقت واحد.
«تيتانيكات إفريقية» (دار الساقي، لندن، 2008)، شهادة عن تجربة شخصية عاشها الكاتب في محاولته الهجرة من بلده إرتريا، الخارج من الحرب ضد أثيوبيا، إلى أوروبا؛ والرواية كذلك ملحمة إفريقية يتعدّد أبطالها وتتعدَّدُ أمكِنَتُها، مَلحمة تتجذّر في عمق التاريخ الإنساني لتكون أيضاً، إن صحَّ التعبير، «أسطورة واقعية» تحاول تأكيد معنى عمل الإنسان المتواصل من أجل الكرامة والبقاء رغم الحاضر المتأزّم والقاتل.
قد يدلّ هذا التقديم على كثافة ما تسم الرواية، لكن وجب التأكيد على بساطة كتابتها الظاهرة وسهولة قراءتها، فهي تسرد قصّة الراوي «أدرار» وتُثريها بما يتعَّلق بشخصيات أخرى ترافقه خلال رحلته : أساطير وحكايات وقصائد وأغانٍ تتكامل لتكوِّن عملاً جامعاً منفتحاً على معنى الصراع ضدّ الاندثار، على معنى «موت الموت» الذي هو تعبير عن «شعرية الهلاك» كما أودّ إبرازها من خلال قراءة لرواية «تيتانيكات إفريقية».
من المؤكّد أنه كان بالإمكان اختيار «شعرية الخلاص» لِعَنونة هذه الدراسة؛ لكن قد يكون مفهوم «الهلاك» أكثر إبرازاً لمعنى المأساة الذي تتناوله كتابة أبي بكر كهال، أي أنّ المأساة صورة لدوام مقاومة الإنسان للمصير الذي يهدّده والذي هو في وعي تام به دون أن يُحبط هذا عملَهُ الذي تتحقّق فيه إنسانيته وتُضْمَن فيه كرامته ويتأصّل كذلك فيه أثرُهُ الباقي. «شعريّة الهلاك» تعبيرٌ إذاً عن طريقة الكتابة في طرح هذا المعنى من خلال تجربة الهجرة السرية التي يشترك فيها الراوي وبقية الشخصيات.
شهادة الراوي
إن الكثافة الظاهرة على أفق الكتابة قد تبرز من خلال التطرّق إلى الجانب الزمني المتّبع؛ فالكتابة، وإن اتبعت جدولاً زمنياً متواصلاً يسرد رحلة الراوي من السودان إلى ليبيا إلى تونس ثمّ عودته على متن الطائرة مطروداً بعد فشله في الهجرة، تُلخّص مُدّة خمس سنوات دامت فيها ممارسة الراوي لتجربته الشخصية. لكنّنا نعلم من صفحات الرواية الأولى جُملة هذه التجربة:
«تلقّفني الجرس، وخلع جسدي من بلدي، وعبر بي خفية في الليل حدود السودان إلى ليبيا. فعشتُ الضياع في الصحراء، ونجوتُ من موت مُؤكَّد. ثم عبرتُ الحدود إلى تونس خفية أيضاً. كنت أحسّ أنّ هذه هي دائرتي التي خُلِقت من أجلها، وأنه ليس من بدّ سوى الدوران المميت في قلبها» (ص٩).
هكذا نقرأ أن الرواية خلاصة هذه الرحلة، وهذه الأسطر تبدو بدورها كخلاصة للخلاصة، ما يدلّ على أن الأهم ليس في هذه الرحلة في حد ذاتها، بل في كونها تجربة أدّت إلى الحصول على وعي واضح يجعلنا نبحث عن حيثيات التجربة وعن المعنى الذي تقودنا إليه. إنّ «خلع الجسد عن البلد» الذي يذكُرُهُ النص، والذي يحمل عنف التجربة، يدلّنا على ما هو أعمق، على ما يدعو إلى مراجعة التجربة وكتابتها، أي على تواصل التجربة، رغم شدّة عنفها، كمحاولة إنسانية لتحقيق البقاء.
شهادة الراوي تخصّ رحلته في سبيل الهجرة، وهي كذلك شهادة على كتابة هذه الرحلة؛ ولعل هذا ما يشارك في تأكيد الناحية الذاتية للرواية التي تربط الراوي بالكاتب. إنها رحلة تُسرَد عبر مَراحلَ من التخطيط والتأهّب لها إلى نهايتها «الفاشلة»، مروراً بمغامرات عديدة وأخطار يُمثّلها خِداع «سماسرة الهجرة» و»الهمباتا» قراصنة الصحراء الذين لا يرحمون وكلاب الخلاء وأعوان الشرطة بتصرّفاتهم القانونية وغير القانونية..
من السودان إلى ليبيا وتونس، تتعدد الأمكنة تجمعها قسوة الواقع. استرجاع مراحل الرحلة كما نقرأه في الرواية يقدّم تتابع الأحداث كما نتصوّره وننتظره، دون تشويق ودون تحليل ودون توقّف: تواصل سلبي للحاضر (الذي أصبح ماضياً بوسيلة الاسترجاع) يقع تدوينه كدرس تحصّل عليه الراوي وجعل منه مثلاً كاتباَ لمسرحية «الشبح والقناع»: «فيها أحذّر من الأخطار التي تستهدف عقول الناس، الناس قاطبة دون تحديد طبقة أو فئة بعينها» (ص١٠).
قد نفهم من هذا أن الراوي نادم على رحلته وأنّ قيامه بالتجربة التي فشلت جعله يُراجع موقفه؛ لكننا نعرف إحساسه «أن هذه هي دائرتــ(ـه) التي خُلق من أجلها» (ص٩). إن الرحلة مكّنته من التعرّف على غيره ممّن يحاولون الهجرة إلى أوروبا: إرترييون وأثيوبيون وليبيريون ومصريون ومغاربة.. يتشاركون في البحث عن «الفردوس»، فتصبح شهادة الراوي شهادةً جماعية على وحدة الهدف والوسيلة وشهادة على أهمية العلاقة الإنسانية خاصة في ظروف المعاناة؛ وفي إطار الكتابة، يُظهر هذا مُجاورة الحوار للسرد وتنوّع المستويات الروائية، تعبيراً عن حركة الكتابة إبداعاً مُختلفاً مُتواصلاً ومتأصّلاً في عمق التجربة الإنسانية.
تعدّد الشهادة
إنّ وحدة التجربة لا تُلغي خصوصية كل شخصية من بين الشخصيات الكثيرة التي في الرواية. والراوي الذي يسرد الكثير أو القليل من مسيرة كل منهم يؤكّد أساساً ارتباطه بهم وانتفاعه بتجاربهم المختلفة واعتبارُهُ بها في سبيل إبداع أثرِهِ وتحقيق وُجُوده.
قد يكفي الانتباه إلى شخصيتين فقط لنتبيّن كيف تساهم الشخصيات المختلفة في توضيح وتعميق تجربة الراوي وفي تشكّل المعنى العام للرواية: مالوك الليبيري والإرترية ترحاس اللذان يمكن اعتبارهما بطلَي الرواية (مع الراوي) لما في حضورهما من كثافة وتأثير، كذلك لما في اهتمام الراوي وتعلّقه بهما من تأكيد على «شعرية الهلاك» التي نسعى إلى دراستها.
ترحاس «أمٌّ تكفي العالم»، رغم أنها في التاسعة عشرة من عمرها كما يعرّفها النص، تبرز بقلة كلامها وفهمها السريع لما يدور في ذهن من معها من آلام تطغى صامتة. وهي التي تبذل كل جهدها لمحاولة إنقاذ الأثيوبي أسقدوم من الموت عطشاً في الصحراء حين تسقيه من بولها:
«الآنسة ترحاس أسملاش التي هزل جسدها واختفى صوتها نهائياً، لم تنكسر عزيمتها في إنقاذ حياة أسقدوم مسفن. ظلت تقطر الترياق في حلقه، وكانت تحرص على إبقائه صاحياً. وفي الصباح الذي دلقت في فمه مقدار جرعة كبيرة من البول على مغارة الرمل التي صارها فمُه، كان قد عاد من غيبوبة. أحسّ لذعة البول الحارقة، وأحسّ بكل ملح الأرض الذائب في تلك الجرعة التي كانت عنيفة وهي تخترق بلعومه الملتهب. حاول أن يجعل نظراته إليها من خلال عينيه اللتين اتخذ فيهما الموت مكاناً له، محملة بالكثير من الامتنان. هي أيضاً كانت تودّ أن تبتسم في وجهه، لكنها أزالت من وجهها تلك الابتسامة التي ودّت توليدها بصفاء. لم ترد لها أن تظهر مثل تلك التكشيرات التي رأتها فوق كل الوجوه التي كانت تحاول أن تبتسم» (ص ٣٤-٣٥).
إنّ ترحاس لا تكتفي بالعمل ضدّ الموت المهدِّد، بل تسعى إلى رفض كل مظاهر الحياة الكاذبة. إنها تسعى إلى الصفاء الذي تريده حتى لابتسامتها؛ وهي لها خصوصيتها، تؤكدها الكتابة من خلال سرد تاريخها الشخصي، تاريخها الذي تظهر من خلاله بمعاناتها الإنسانية منذ الطفولة، بسبب غياب الأب الذي احترف مهنة اللصوصية، الشيء الذي يُضفي عليها عمقاً يفسّر اهتمام الراوي بها وهو الذي لاحظ نُبل إحساسها تجاه غيرها ومساعدتها لمن هو في أشدّ الحاجة، وهو كذلك الذي تشارك معها في «مساء الرغبة» حين انعتق معنى الحياة في نار الجسد ونور الروح معاً:
«أحسّ بملامسة جسديهما وانقداح الشرارة التي أشعلت الرغبة. (يجب أن أخمد هذا المسعور)، قالت لنفسها حين أحسَّت هي أيضاً بضجيج الجسد الذي لا يُردّ. كانت أصابعه مفاتيح لجسدها. مفاتيح لا حصر لها، أولجها في الثقوب، مفتاحاً مفتاحاً. كانت ممرات روحَيهِما تُضاء دُفعةً واحدة».
رغم قلة الكلام بين الشخصيتين، الراوي وترحاس، نتبيّن بشكل أكيد أهمية العلاقة التي تربط بينهما والتي تثري الرواية بمعنى إنساني يلتقي فيه الجميع في إطار العمل الدؤوب من أجل تحقيق التواصل والبقاء. وتبدو أهمية ترحاس كذلك في وجودها إلى جانب الراوي طيلة التجربة التي يشاركهما فيها كذلك مالوك الليبيري.
مالوك الليبيري الذي لا تفارقه غيثارته القديمة والذي يبرز طوال مراحل الرواية بذاكرته العميقة وإبداعه الهام شعراً وأسطورة، كأنه يشترك مع الراوي السرد. إنّ أهمية هذه الشخصية تكمن في إضفاء البعد الأسطوري للكتابة: أي أنها تجعل الجانب الزمني يتجاوز التاريخ ليؤكد معنى البقاء رغم مصائب الدهر. يُرجعنا مالوك إلى الإنسان الأوّل وحاجته لمن يشاركه الحياة وعبء الصراع من أجل البقاء. ويرتبط مالوك بماضٍ سحيق كان فيه جدّه مالوك الأول يعمل على صنع سفينة عملاقة ليذهب بها لاسترجاع زوجته التي اختطفها القراصنة. ويرتبط مالوك كذلك بزمن ما بعد الموت، إذ تتوالى الشهادات، في آخر الرواية، من أماكن مختلفة وبعيدة في العالم، لتؤكّد أنه لم يمت غرقاً في البحر، بل شوهد واقفاً على موجتين وبيده غيثارته المخلصة. وليس غريباً أن «تنتهي» الرواية بصوت مالوك الشعري وهو يعلو في الفضاء المفتوح عرض البحر عبر أبيات ترسّخ معنى البقاء الأبدي:
«أيتها القلوب
في المراكب المولهة
سأشقّ
بقلبي الطلق
نوافذ في هذا المدى
وأقول لروحي
أن تضجّ بالرحيل الكتوم
وأن تملأ
أكفّ الطين بالندى
والغناء».
من القلب الناطق إلى القلوب الصاغية، ينعتق الصوت الحرّ مؤسّساً لمستقبل أكيد يتواصل فيه الغناء، غناء الروح الذي تمنحه الكتابةُ الكلمةَ الأخيرة للرواية وكأنها تؤكّد تواصل الصوت وعدم النهاية…
تبرز هكذا أهمية شخصية مالوك في تجاوزها لحدود الزمن بإفشالها لمعنى الموت والانتهاء، وهو الفنان العاشق الذي لا يفارق موسيقاه وشعره الذي هو «حرقة» كما يعرّفه بنفسه (ص٦٠) والذي تعطيه الكتابة مكانه في أماكن عديدة من الرواية في تعدّد ركائزها وحركتها المنفتحة على التجارب الفنية العاملة على تأصيل المعنى الإنساني المعاكس لمعنى الهلاك.
هذا ما يجعلنا لا نستغرب حين نقرأ تعريفاً للتجربة التي تعيشها معاً شخصيات الرواية كمأساة في كلام مالوك بعد أن حكى «خرافة» جدّه الأوّل: «نعم، إنها تراجيديا مثل التي نعيشها أنا وأنت. تلك كانت تراجيديا في زمانها وظروفها، لكن التراجيديا الحية هي هذه تراجيديتنا نحن» (ص ٥٨).
شعرية الهلاك
إنّ الموتَ حقيقةٌ لا مهرَبَ للإنسان منها، وهو خلاصٌ من زمنٍ فيهِ تكون الحياة أقلَّ من حياة. إنَّ تعدُّد مستويات السَّرد في فضاء الرواية وانفتاحه على المعنى الحيِّ المُختلِف يسمح للكتابة بالانعتاق من سَطوة الواقع التاريخيّ وبتأكيد حركيَّتِها الخاصّة التي تتجاوز الزمن المعروف وتواصُلِها في سبيل تأسيس وتأصيلِ نَفَسٍ إنسانيّ ذاتيِّ ومُشتَرَك في الوقت نفسه.
هكذا تظهر إشكالية الزمن في «تيتانيكات إفريقية» بشكلٍ دالّ مُغايِرٍ لمفهوم الزمن التاريخي وتواصُلِه من ماضٍ إلى حاضِرٍ إلى مُستقبَلٍ، وإنْ لن يكون. ويُمكن اعتبار إدراج الأسطورة في الرّواية تأكيداً على أنَّ الكتابة هُنا إبداعُ زمنٍ آخَر، بقدرة ريشة الفنّ، يفنَى فيه زمن التاريخ الممحدود بحسب عقارب الساعة القاتِلة.
وحتّى إن انتبهنا إلى تصرُّف الكتابة في تتابُع مراحل زمن التاريخ الموضُوعيّ نُلاحظ تحرُّراً واضحاً من الزمن الماضي نحو الموت وفرضاً لحركةِ الزمن الحُرِّ الذي تُقرِّرُه الكتابة خدمةً لمعناها ولمبدأ البقاء، فنحن نقرأ في بداية الرواية استرجاعاً يؤكّد حضور مُستقبَل يُحيلنا إلى زمن ما بعد المحكيِّ، وهو ما يجعل ما بعد المحكي يرتبط بما قبله في إطار زمنٍ دائريٍّ كأنّه يحفظ، مُسبَقاً، من بطش زمن الحكي القاتل؛ كما يُشير السارد، في نهاية الرواية، إلى سنوات بعد تجربته تتواصلُ فيها الذكرى المتأصِّلة (ص١١٠)، هذا بالإضافة إلى إدراج الكتابة الشعرية التي تطغى على الصفحات الأخيرة للرواية وتُلغي مفعول الزمن الموضوعي والموت المُهدِّد المرتبط به، وهي كتابة شعرية في شكل غناء يُحيي «ضجيج الرّوح» التي لا تموت ويملأ الفضاء شعلة حياة لا تفنى، «ضجيج الرّوح» يؤصِّل الذات الحيَّة مع «ضجيج الجسد الذي لا يُرَدّ» (ص٥٠).
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الزمن الأسطوري الذي تفسح له الكتابة مجالاً مهماً، ليس فقط الماضي الأسطوري الذي تمثِّلُهُ أسطورة الجدّ مالوك الأوّل، بل هو أيضاً مستقبل أسطوري يتواصل فيه مالوك وهو يمشي متقدّماً في رحبِ البحر.
إنّ الرواية، على طريقتها في إبراز تعدّد الزمن بين الواقعي والشعريّ، تتّضح كفضاء تنعتق فيه الكتابة من أجل تأسيس شعريّتها الخاصّة، وهي شعريّة تبقى منفتحة على المُختَلِف وواعية بالواقع التاريخي الذي تفرض نفسها فيه وتُعاكسه بإطلاق حيَوِيَّتِها التي تجعل الكتابةَ واقعية وأسطورية في الوقت نفسِهِ، سردية وشعرية وكذلك تحليلية تشهد بوعي ذاتي بظروف التاريخ وتداعياتِهِ المسؤولة عن تجربة الهجرة السّرّيّة موضوع السرد الرّئيسيّ.
ومن بين الأنواع النصية التي ترتكز عليها كتابة أبي بكر كهال، يشارك التحليل في إثراء اختلاف مستويات الرواية و إنارة أسباب الهجرة التي ترمي بالكثير في مغامرة تراجيدية، وهذه الأسباب مُتعدّدة يُمكن تلخيصُها في الجوانب التالية:
– استغلال الشركات الأجنبية لثروات إفريقيا بوسائلها الحربية العنيفة كما يدلّ عليه «دويُّ ديناميت شركة ديبوتني الإيطالية وهي تُحطّم جبال إراتريا» (ص٩).
– الحرب التي تجعل «بلدكم يطرُد ناسَهُ» (ص٢٢).
– الثّراء الفاحش لدى البعض خاصة جراء امتهان أعمال اللصوصية (ص٥١).
– الأنظِمة البوليسيّة القمعيّة كما نتبيَّنُه في تونس حيث يقول العون: «نحن الشرطة نحكم العالم»! (ص٩٩).
– «الوهم» الذي يستثمرُهُ «سماسرة الهجرة» وهم يغذُّون «الجرس الساحر» ويعِدون بجنة «الفردوس» (ص٨-٩).
موضوع الهجرة موضوع مرتبط بواقع الإنسان التاريخي الذي يطغى عليه منطق الهيمنة وقانون الغطرسة والتصرُّف الوحشي، ما دفع مالوك بالقول إنّ «الهجرة ستظلّ في الأرض ما بقي الإنسان. دُلّني على أرض لم تطأها قدم مهاجر (…) شخصياً لا أستبعد في التاريخ المقبل أن يشدّ جزءٌ من العالم الرِّحالَ نحو إفريقيا الطاردة هذه» (ص٦٣). ولعلّ الهجرة مُحاولة لاسترجاع ما سُلِبَ، كما فعل الجدّ مالوك الأوّل الذي قضى عُمرَه في صُنع سفينة ليتمكَّن من الإبحار في سبيل استرجاع زوجته المخطوفة.
إنّ نهاية الرواية، ونهاية مالوك -التي هي في الحقيقة ليست نهاية كما سبق أن بيَّنَّا- يمكن اعتبارُها تحقيقاً لبرنامج انخرط فيه مالوك من مُدّة طويلة، برنامج يؤصِّل جانب المأساة؛ ذلك أنّ مالوك اعتاد الوقوف أمام البحر والحوار معه في وحدةٍ وتحدٍّ يؤكّدان تمكُّن الشخصيّة من معنى وجودها وأفق مشروعها الذي تتشارك فيه مع بقيّة الشخصيّات. والكتابة تنتهج سبيل الخطاب المباشر لنطّلعَ على حديث مالوك للبحر الذي يُشبِّهه بثور لوحة بيكاسو «جرنيكا»: «سأحرق غصباً عنك المسافة من هنا وحتى اليابسة في لامبيدوزا أو سيشيليا. نعم كل المسافة التي من هنا إلى هناك. سأمتطيك وأعبر» (ص٦٥).
ويعبر مالوك حدود المستحيل، يبقى منتصباً على أمواج البحر في حضور فنيّ متواصل، حاملاً غيتارته التي لا تفارقه أبداً، شاهداً على معنى صراع الإنسان وأفق البقاء الذي يتحقّق في تجاوُز الموت.
هكذا تكون العلاقة بين زمن الحكاية المروية وزمن السرد علاقة فترة تاريخية محدودة (خمس سنوات). إنّ الحكاية سفرٌ هو مغامرة هجرة سرية فاشلة؛ والسرد تسلسل زمني فيه استرجاع وتجاوز، يتواصل في زمن ما بعد، يبقى أثرُهُ في زمن القراءة المفتوحة. تتجدّد الكتابة في نهاية الرواية فتُصبِحُ شعراً يتشكَّل به وفيه زمنٌ مُطلق لا تحدُّه حدود التاريخ؛ كذلك يُمكن القول إنّ الأسطورة التي تبرُزُ من خلالها شخصيّة مالوك بعُمقِها التاريخي والأسطوريّ، في بداية الرواية، تأكيد على هذا الزمن المُطلق الذي يتحقَّقُ قولاً شعراً بصوت الشخصية نفسها، مالوك، في نهاية الرواية. وهكذا يتعدّد المعنى في رواية «تيتانيكات إفريقية» حيث يكون الفشل نجاحاً، كما يحدثُ أن يكون النجاح فشلاً!
تسرُد الرواية تجربةً واحدة لهِجرة سريّة ناجحة تسمح لعطيّة المصريّ بالالتحاق بالنرويج، لكنّها تفشل في فترة لاحقة حين تكتشف رفيقةُ عطية أنه يُصلّي فتُخبر البوليس بوجود إسلاميّ في بيتها، ما يؤدّي إلى طردِهِ. وكالعديد من جوانب الرواية، تتّبع هذه التجربةُ حركةً دائرية، إذ يعود عطية المصري إلى نقطة البداية، تعبيراً عن هشاشة التجربة وإن نجح عطية في هجرته السرية بوصوله إلى شمال أوروبا. إنّ السّخرية التي تبعث إليها هذه التجربة تساهم في التعبير عن المأساة الإنسانية المتواصلة، فلا بُدَّ من إعادة التجربة في ظل واقع لا يتغيّر.
***
في تعدّد مستوياتها والتجارب التي تعرضُها، تؤكّد الكتابة معنى الجُهد المتواصل والحركة الدائبة تركيزاً لمعنى البقاء رغم كل العراقيل؛ فمسيرات الراوي ومالوك وعطية المصري… عبارة عن تجربة إنسانية واحدة. كما إنّ الأشكال الأدبية المتعدّدة تجعل من الرواية كتابة جامعة تخدم مُتعة القراءة دون أن تنسى أصالتها وانتماءها إلى الإبداع الإفريقي المتركز على الأسطورة والملحمة والحكاية والنشيد معاً. وهي بتأصّلها تتواصل مع الإبداع العالمي كنصّ إنسانيٍّ مفتوح يبقى حياًّ في أفق القراءة بفضل نبرتها الصادقة كتجربة حياة ومقاومة للموت.
إنها رواية الإخلاص للإنسان، حتى وإن كان قدَره قدرَ سيزيف وهو يعيد عمله رافضاً أن تسحقه صخرة الحاضر التاريخيّ. إنّ شرف الإنسان في حُرّيّته النشطة التي لا ترضخ لحدود الواقع المعاكس المتغطرس، تتجاوز سيطرة القويِّ وحَواجِزَ السياسة. وكتابة أبي بكر كهال لا تعبأ حتى بالحدود القُصوى، تتحدّى الموت بأنواعه المتعدِّدة وحتميّته المؤكَّدة؛ لا تتوقَّف الكتابة عند مواعيد الموت، تعترف بها عند اشتداد العطش في عمق الصحراء وعند الإشارة إلى وحشية قراصنة الرمال وتهديد الحرب وخطر الخوض في البحر على متن مراكب لا علاقة لها بالتيتانيك غير النهاية القاتلة… وقوّة السخرية . والسخرية هي أحياناً وحدها التي يملكها الإنسان ليشحذ بها طاقته العازمة على الحياة.
«تيتانيكات إفريقية» رواية إرادة الحياة، ولعل شخصية ترحاس، تلك «الأُمّ التي تكفي العالم»، هي التي تعبّر بالشكل الأوضح عن معنى الوفاء للإنسان في أضيق الحالات، ترحاس التي تريد وتعمل دائماً على أن تحفظ صفاءَ ابتِسامتها (ص٣٥). ومع غيرها من شخصيات الرواية تشهد على مواصلة الفعل الإنساني سعياً لإنتاج أثر تتحقّق فيه الإنسانية وتُثبت دوامَها. قد يكون هذا ما يُضفي نسقاً سريعاً للكتابة، كأنه لا يترك مجالاً لفعل الموت بل يُلغيه بفرضِ نَبْضٍ مُنتظِمٍ كنبضِ القَلبِ الحَيِّ، كأنّه يختَصِرُ الزَّمانَ ليؤكّد أن موت اللحظة ليس إلاّ ميلاد اللحظةِ التي تليها. إنّ شعرية الخلاص في الرواية لا تنفي الهلاك إذ تُواجهُهُ وتُقاومُهُ وتبني ملحمة إفريقية في حركة متواصلة بين أماكن مُتعدّدة (إرتريا، السودان، ليبيا، تونس…)، كما تتواصل في الفضاء الرحب الرهيب (الصحراء والبحر)؛ ليس المكانُ إلاّ نقطة مُرور إلى مكان آخَر، في تحوُّل مُستمِرٍّ أفقياًّ وعمودياًّ إن صحّ التعبير، كما يتحوَّلُ مالوك من حارق مُحاصَرٍ في واقعٍ ضيِّق إلى مسيح أسود، إلى أسطورة حية تفرض نفسها حتى خارج حدود إفريقيا.
إنّ رواية أبي بكر كهال ملحمة مُستمرّة. إنَّها ملحمة الهزيمة، أبطالُها من المَنسيّين الذين لا تعرف نشرات الأخبار أسماءَهُم، تردّ الكتابةُ لهم الاعتبار وتعبُرُ بهِم من الهامش إلى المركز؛ وهي ملحمة انتصار الحياة، ملحمة الإنسان القادر على الخلاص بفضل وعيِهِ الحيّ وثِقتِهِ في طاقاتِه اللامحدودة وقُدرتِهِ على الإبداع.
* ناقد تونسي/ أكاديمي في جامعة نانت الفرنسية
نقلاً عن : الرأى
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=39507
أحدث النعليقات