شيخنا الحبيب الأستاذ محمد عمر ، أين أنت؟
قرأت مقال الشيخ محمد جمعة في موقع عدوليس بعنوان “مثال نادر” ، فأثار ذلك المقال الشجون الدفينة في نفسي ، وأطلق الدموع الحبيسة في عيني ، وأعاد إلى ذكريات أيام مضت في صحبة شيخي وأستاذي الفاضل الشيخ محمد عمر إسماعيل. وحسنا فعل الشيخ محمد جمعة بكتابة ذلك المقال ، وإماطة اللثام عن ظلم وقع على هذا العلم الفذ ، والرمز الشامخ ، وبيان جوانب العظمة في شخصيته.
الشيخ محمد عمر إسماعيل لمن لا يعرفه علم من أعلام الدعوة الإسلامية في أرتريا، ولد في أرتريا ، وغادرها في ريعان شبابه. درس في السودان ومصر ، وتخرج من الجامعة الأزهرية ، وفرغ حياته للدعوة إلى الله عز وجل. ولم يكن شيخنا مجرد خريج جامعة يحمل الشهادات ، ويحفظ النصوص ، والمتون ، والحواشي ، ولكنه كان رجلا يحمل فكرا ، وعقيدة ، يعيش لهما ، وينافح عنهما ؛ رجلا يحمل هم أمته ، ويعيش آلامها وآمالها ، ويسعى بجد لرفع الغبن عنها ، ونشر الفكر النير الصحيح بينها. أعرض عن المناصب ، والوظائف ، وأختار عيشة الكفاف ، وفرغ نفسه للدعوة التي آمن بها ونذر نفسه لها.
عرفته شوارع وأحياء القاهرة وهو يجوبها ، طارقا أبواب أهل الخير ، لا بحثا عن نفع شخصي ، ولكن لإيصال حاجة المحتاجين إليهم ، ورفع الكرب عنهم. فكم من الأرامل والأيتام والفقراء قد ساعد ، وكم من الطلبة قد يسر لهم سبل الدراسة ، وكم من الباحثين عن العمل قد أوجد لهم فرص العمل ، وكم من شباب قد حماهم من الإنحراف ، وفتح لهم أبواب الهداية والدعوة. سماه صديقه الدكتور بيان “رسول الخير” ، لما عرفه من نشره للخير بين الناس وحرصه على مساعدتهم. قلت له في أخر لقائي به أما آن لك ياشيخ محمد أن تلتفت إلى نفسك ، وتحصل على عمل في الخليج من خلال معارفك ، وتتزوج وتستقر. فرد علي بابتسامته المعتادة ، ولم يزد على ذلك ، وكأنه يقول لي إليك عني فقد تزوجت دعوتي ، وهي حياتي ومستقبلي.
كانت علاقاته واسعة بكل الشخصيات العلمية البارزة في مصر وخارجها ، وقد وظف هذه العلاقات لمساعدة الكثيرين ، ولم يفكر يوما ما في أن يوظفها في صالحه الخاص. صحبته في زيارة لفضيلة الشيخ محمد الغزالي ، والأستاذ المفكر أنور الجندي ، والكاتب المفكر الأستاذ جمال البنا، وقد شاهدت ماكان يتمتع به من تقدير وإجلال لدى هؤلاء الأعلام.
إنتقل الأستاذ محمد عمر إلى السودان بعد سنين طويلة من الإقامة في مصر ، وفي السودان حن إلى أرض الوطن وإلى إمه التي لم يشاهدها منذ مغادرته لأرتريا ، فقرر الذهاب إلى أسمرة فنصحه بعض العارفين بأحوال البلاد بأن لا يفعل ، حيث أن البلاد قد تحولت إلى سجن كبير ، وأنها ترزح تحت طغيان لايسمح لحر ولا لمفكر ولا لداعية بالبقاء فيها. ولكن شيخنا أصر على الذهاب ليرى أمه ، وينال دعاءها وبركتها ، فدخل البلاد عن طريق البر ، ووصل أسمرة والتقى بوالدته ، وبعد عشرة أيام تقريبا خطف من أحد الشوارع في أسمرة من قبل عصابات رجال الأمن التابعة للطغمة الحاكمة في أرتريا. وقد مضت أكثر من عشرة سنوات على إختطافه ، ولا يعرف أحد حتى الأن أين مصيره ، وهو بذلك قد انضم إلى قافلة الأحرار الشرفاء من أبناء أرتريا الذين يرزحون تحت أقبية السجون.
وأنا على يقين بأن الشيخ محمد لم يفاجأ بما حدث له ، ولم يتخاذل ويتراجع ، كيف لا وهو رجل الدعوة الذي يعرف تبعاتها والمخاطر التي أمامه. وعزاؤنا وعزاء شيخنا أن بذور الخير التي بذرها قد بدأت تؤتي الآن ثمارها ، وطلبته ومحبيه منتشرون في أقطار العالم ، من أستراليا إلى أوروبا وأمريكا ، وإلى أقطار العالم العربي ، ينشرون الخير بين الناس ، ويحملون مشعل الدعوة ، وينيرون الطريق للآخرين. وذلك مما يسوء أؤلئك الطغاة الذين حاصروه وشلوا حركته ، ولكنهم عجزوا عن محاصرة فكره النير ، وحجب قدوته الحسنة.
إن مأساة شيخنا هي مأساة أرتريا كلها. أرتريا التي حولها الطغاة إلى كابوس مخيف ، وشبح رهيب ، وحولوا أحلام الحرية ، وتطلعات المستقبل إلى سراب.
والسؤال الذي يطرح نفسه : ما معنى التغني بالحرية ، وإقامة الحفلات والبلاد تعيش و تمر بأسوأ ما مرت به في تاريخها. فياحسرة على أرتريا التي يهان ويذل فيها الإنسان ؛ يخطف من بين أهله وذويه ، فلا محاكم ولا دستور ولا حقوق ، وإنما أهواء نفوس مريضة ، إستمرأت الكراسي ، وفقدت مشاعرها الإنسانية ، وتخلت عن كل القيم البشرية. ألا فليعلم أولئك الطواغيت أن دموع الأمهات ، وآهات الشيوخ ، وصرخات الأيتام ، ودعوات الأسحار ستلاحقهم أين ما كانوا ، ومصيرهم في مزبلة التاريخ مع أسلافهم هيلى سلاسي ، ومنجستوا وأشباههم.
حفظ الله شيخنا وثبته ورعاه ، وفك أسره ، وأسر إخوانه الدعاة المصلحين ، إن كان في الأحياء ؛ وإن كان في الأموات فندعوا الله أن يتقبله في الشهداء والصالحين ويحسن مثوبته.
تلميذك الوفي : محمد علي حسن
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=8832
أحدث النعليقات