صدى الذكريات الحلقة الأولى
بقلم: صالح انجابا
تمني لو تعود سنون مفعمة بالماضى الجميل وتهطل بعسلٍ لذيذ صافى من سحاب محطات هامة لها وقع ورنين فى عمره, هذه السنوات حملت على اكتافها عهد الطفولة البريئة, وصدى الذكريات الوريفة بازهار اللوتس التى فاحت غبطة و سرور فى عهد الصِبا والعنفوان والتمرد . ما زال الماضى العتيق يرفرف بجناحيه امام شاشة عينه البراقة كفيلم يعرض فى هذه اللحظة.
تذكر وقفته المشدوهة مع جده صالح فقيه ولقبه
ابو فقى فى بداية يوليو عام 1976م , فى يومٍ كان طقسه حاراً كحرارة الحدث مع انه بداية موسم الخريف الذى تبدل فيه القضارف ثوبها الداكن بثوبٍ اخضر جذاب . فى ذلك التاريخ تفشى خبر اختفاء نميرى, و اذاع اعلام الحكومة انتشار المرتزقة الذين جاءوا من ليبيا الى الخرطوم لقلب السلطةالمركزية , ولكن تم سحقهم فى فترة وجيزة على حسب مصدر التلفزيون الحكومى .
بعد القضاء على المتمردين عادت ارتال من المصفحات والمركبات التى تقطر مدافع ثقيلة , وعلى متنها جنود مدججون بكل انواع الإسلحة, رشاشات, صواريخ اربجى , كلاشنكوف والخ…. الى الحامية الشرقية التى تقع قبالة بيت المرحومة جدته فى طوابير طويلة.
اصطف عامة الشعب على جانبى الطريق لاستقبالهم , بالزغاريد , والتهليل والصياح , وكان الجنود يرقصون, ويرددون اغانى واهازيج خاصة ترددها القوات المسلحة السودانية, ويصدرون الزعيق , والصفير, ويلوحون باسلحتهم فى الفضاء المكهرب تارةً يميناً وشمالاً , و تارة ًيرفعونها عالية لتلامس السماء .
الأصوات الصاخبة امتزجت مع ضجيج مكبرات الصوت المنصوبة على مقدمة السيارات مرددة اناشيد وطنية حماسية تزيد من حرارة الجو المتصاعد :
حبيب الشعب يانميرى ويا امل الشعب يا نميرى
بصوت فنان شرق افريقيا المرحوم سيد خليفة
وفى مسافة بضع امتار يُسمع نشيد العطبراوى:
انا سودانى انا
انا سودانى انا
بعض المتحمسون , يرفعون العصى , والسيوف, ويحركون الأيادى على انغام الأناشيد الحماسية , فعلاً كان منظراً ولد ت من صلبه لوحة شعبية رائعة تعبر عن حب, واحترام للجيش الذى شارك فى انقاذ الخرطوم , والسودان عامة من خطر المرتزقة كما ورد فى الأخبار.
الجنود عرفهم بسيماهم البدنية , لأن معظمهم نحاف كانهم هياكل عظمية اكتست بمسحة من اللحم الأسود, مع طول فارع يناطح الرياح, وعيون حمراء يتطاير منها بركان من اللهب , وشعر اسود مفلفل لا تفرقه من فروة الراس .
تذكر هذا الجنس , حين كانوا ياتون فى شكل مجموعات حاملين الحراب والهروات , بعد ان ملئوا بطونهم من خمرة شعبية تسمى المريسة (مشروب شعبى مسكر ) ويهجمون على مدرسة حى الميدان الإبتدائية بنات وينشروا الرعب والفساد , ولا تنفك المدرسة من وحشيتهم , الا بعد ان توصد الأبواب والنوافذ , وتاتى فرقة شرطة مسلحة تسليحاً كاملا ً تنقذ الأطفال من رعب هذا الإرهاب المصنوع بالقرب من دار السلام وحى كررى , اما قلة من العساكر سحنتهم اقرب الى الإرتريين , والبقية متوسطى القامة مع اجسام ممتلئة بكتلة من اللحم المفتل والعيون ذات النظرات الصارمة , وهذا النوع بالذات عمل بعض منهم فى بلدية القضارف , وكان يشتهر بمهنة ملء فناطيس تقطرها جرارات بجرادل الفضلات التى عبئها السكان من مخلفاتهم النتنة , كان على كل شخص سكن فى قضروف ام سعد ( اسم ثانى لمدينة القضارف ) ان لا يتأفف , او يظهر استيائه من الرائحة الكريهة التى تتبخر من الصهاريج المقطورة , والا جزاءه صب الفضلات على كامل بدنه . هذه المهنة النتنة والخالية من ابسط معايير الإنسانية اورثها الإنجليز لهؤلاء القوم البسطاء الذين ليس لهم ذنب سواء البحث عن لقمة العيش. الإنسان الشريف يصيبه الإحباط من مواصلة هذه الظاهرة, حتى سبعينيات القرن الماضى , بعد استقلال السودان.
لا ذنب لهذه الشريحة من المجتمع , التى كان من حقها اغتنام سبل العيش الكريم فى وطن الحرية والكرامة ولكن تواصلت هذه المهنة المهينة حتى بعد بروز سودان جديد ذو كيان على خارطة العالم فى يناير 1956م.
كان الهلع يتمَلَكَهُ من رؤيتهم لكى لا يصب ماعون بقايا البشر المتعفن على بدنه الصغير , ويرتعب اكثر حين كانوا يدخلون البيوت فى حى الزرائب ( حالياً حى الثورة ) بحثا عن اللأجئين الإرتريين , كان تعاملهم فظاً ويدل على الإحتقار اذ انهم يعتقدون ان الحبش( المقصود الإرتريون) ليس لهم قيمة بشريه , ويتحدثون معهم باسلوب رخيص للغاية .
فى احد المرات التى دخلوا منزل الأسرة غضب والده من معاملة عسكرى قصير القامة عيناه مليئة بالحقد والإزدراء ودمدم قائلاً “: انت جاهل لا تفهم حتى فى ابسط امور المعاملات وانا اشرف منك والمثل السودانى يقول ( العارف عزه مستريح) اى من يعرف قدرنفسه لا يهز مكانته انسان جاهل , ولكن صدقنى اذا تطاولت اكثر فسوف اعرفك مقامك ولا يرعبنى سلاحك البالى لأنى رأيت سلاحاً اكثر فتاكا ًودماراً :” فاراد ان يتشاجر مع والده حتى جاء الضابط المسئول ووبخه وقال له “:احترمه لأنه اكبر منك سناً , والهدف من هذه الحملة البحث عن الخارجين من تحت طائلة القانون وليس ترويع الأبرياء :”.
كان يستغرب حين يشع الكره فى عيون الجيش النظامى السودانى, الذى يتكون سواده الأعظم فى ذلك الزمن من ابناء مناطق معينة ضد كل من له جينات شرق السودان او ارتريا!!! ويتسائل فى عقله الصغير هل الغبن ضد ابناء الشمال يجعلهم وضع كل من يشبههم فى سلة واحدة؟ وهل سيكلوجية الكره المبطن تستعر حين يروا الوجوه الأرترية التى تذكرهم بوجوه اهل الشمال !!!!!!؟ ام ضعفهم فى الإنتقام على من يحكمهم يجعلهم يشفوا غليلهم فى قوم هربوا من جحيم حرب عنصرية استعمارية دينية فى بعض الملامح رمتهم فى بلد جار ام الخوف من اندماج اصحاب هذه السحنة فى السودان الواسع الذى خيراته تكفى وتفيض فى صف ابناء الشمال وبذلك تزيد كفتهم!!!؟
كان يلمح فى وجوه المصطفين المتصببة عرقا والمحروقة من شمس الظهيرة علامات الفخر والإعتزاز بقوة جيش الحامية الشرقية, وهو مع ابوفقيه يقف مبهورا ومسحورا بهذا المنظر الرهيب وفجأة يقطع انتباهَهُ صالح فقيه قائلا ً :
- اتعرف هذا الجيش لا يسوى شئ مقارنةً مع الجيش الإثيوبى
لم يستوعب ما قاله بل سأل باستغراب :
- ماذا تقصد يا جدى؟
- (الإثيوبيون يملكون جيش عرمرم مسلح باحدث العتاد الذى ياتيهم من اسرائيل, وامريكا, وحتى من الروس , ولكن بالرغم من ذلك استطاع مقاتلى جيش التحرير الإرترى ان يكبدوهم هزائم متتا لية)
- كان يريد ان يواصل فى الحديث ولكن قطعه سائلاً بنبرة حنينة لوطنٍ لم يسمعه الا من خلال شفاه الأهل :
- متى سنعود الى ارتريا يا جدى؟
(سؤاله كان تلقائياً لأنه دائما يسمع عن جمال ارتريا وخاصة المرتفعات التى تضاهى جمال مرتفعات سويسرا كما كان يردد والده وكل من ياتى فى زيارة سريعة من ساحة القتال. )
فيتنهد ابو فقي تنهيدة طويلة ويتحدث بنبرة فيها شوق فياض , وولع الى سنين قضاها فى ارتريا وخاصة فى مصوع
وردد بصوت منخفض:
- (سنعود حتماً سنعود واعود الى مصوع وحتما سوف ادفن فى مصوع مسقط راسى! اتعرف يا حفيدى البطل , حتى فى هذه الظروف الصعبة, والحرب الشرسة ازور ارض الأجداد بعد الفينة والفينة و اذهبً لأستمد القوة , ورباطة الجاش من ملكا وديعوت,وروبروبية حيث دفن الابطال الذين صمدوا امام غزوات الأحباش فى نهايات القرن التاسع عشر بقيادة هادش بن داود وموسى عورى وقعص وتلكى, وادريس الذين هزمو رأس اللولا فر ,حتى من ارض المعركة . فى هذه المعركة عزفت ملحمة بطولية رائعة زلزلت كيان اباطرة التقراى بالرغم من قلة العدة والعتاد ) صمت لبرهة وحدق فى وجهِهِ المشدود كحبل يتجاذب طرفاه شخصان فى مسابقة جر الحبل, ليرى هل الحديث نفذ واخترق جمجمته الصغيرة , وحينما تاكد من ذلك واصل مستمتعاً بذكر تاريخ الأجداد قائلاَ:
- (اذا زرت هذه المنطقة ستعرف كيف كان هؤلاء الصناديد عمالقة ؟ وانا عادةً اذهب لرؤية قبورهم التى يبلغ طول كل قبر منها قرابة اثنان اوثلاثة امتار. يضاهون فى ضخامتهم قوم ثمود , كانوا يقتلعون الصخور ويقذفونها على الأعداء من اعلى الجبال ويحبون الجهاد دفاعا عن العرض والأرض!! . )
واصل فى الحديث بلذة ومتعة لتخرج المفردات من فمه كشلالٍ ينحدر من الصخور ويصدر خريراً ناعماً اوكسهام تخترق عقله وتستقر فيه ويطيب لها المقام قائلا بلهفة المشتاق الى مصوع قايلاً:
- ( قبل ان اشرع فى المغادرة الى مصوع تتجول عيناى وتتفحص من اعلى جبال ديعوت الأودية والسماء الصافية والشمس التى تمدنى بطاقة عنفوان وقوة ومن قمة الحبال يلامسنى نسيم عقنبوسة وقندع ومصوع وحرقيقو وزولا وحديش وايدافلو وايروملى وكل المناطق المجاورة التى تربطنى بها صلة قرابة . اركب نسراً ضخماً يطير مسابقاً الريح , وفى بضع دقائق يهبط بى على قرقسم واول شئ افعله اسبح قليلا لأغسل من جسدى عذاب الغربة وادران المعاناة , واتطهر لتطأ قدماى راس مدر التى نزل عندها الصحابة الكرام , واعرج الى حرقيقو لان الشوق يستعر فى مهجتى لرؤيتها, واتفقد البيوت المهجورة , واسأل ارواح الأصدقاء والأقارب الذين شردتهم الحرب لعلى اعرف اماكنهم , واواصل زيارتى فى كل مناطق الصبا دون كلل وملل ).
- حين صمت جده صالح فقيه رماه بسؤال مباغت قائلاً : ما الذى تغير فى مصوع ؟
يتنفس نفساً طويلاً ويرد بنغمة حزينة :( يا حفيدى مصوع لم تعد تلك المدينة التى تفوح بروائح المخبازة والسمك المغلى ولم تعد مدينة الصبايا الجميلات اللواتى اختلط فيهم دم الهندى والتركى والعربى والكردى لتخرج من اصلابهم جينات وراثية تتمظهر فى لوحة جمالية رائعة جمعت أُناس من اعراق مختلفة رسمها المبدع محمد د بروم . الان هذه اللوحة بهتت وتكاد تكون اندثرت لأن ما اراه فى مصوع غير مصوع التى اعرفها)
كان الحفيد يزور مع جده فى الخيال مصوع عروس البحر الأحمر ويعيش اسطورة اغريقية مُحلِقاً بين ضفتى الحقيقة والخيال , حين ذكر طول هؤلاء الرجال ومدى ضخامتهم ساوره الإندهاش والإعجاب فى انً واحد , حتى رجح كفة ابو فقيه فى تصديق الرواية .
ابوفقى كان متعمداً فى اثارت حفيزته , ونفخ عقله بهذه المعلومات ليعيش حلماً جميلاً ويسافر عبر الخيال الى روبروبية و ملكا, وديعوت, ويكون عملاقاً و ينتقم من الكماندوس, الذين دمروا قرية اجداده الهانئة والقريبة من عدى قيح.
فى هذا العمر تمنى ان يعيش جده ابو فقى ويرى كيف يعيش ابناء عمر اساور على ماض بطولات اجدادهم وكيف انقسموا وتشبثوا ببيوتاتهم وحتى صار لهم عمدتين وطابورين من المشجعين . الطابورالأول لا يريد ترك دفة العمودية لأنها ارث تاريخى الكل يجب ان يلتزم به اى بالضبط كشيوخ الخليج يحب ان يتوارثوا الحكم والثروة اذا اصلاً كانت هنالك ثروة. الطابور الأخر يريد عمدة له تاريخ مشرف فى السودان الوطن الجديد , والإثنان يناطحان الهواء كما ناطح دون كيشوت طواحين الهواء محارباً اواهام لا يراها غيره يعيش بخياله فى زمن غابر كانت الفروسيه والدروع تلعب فيه دورمهم حتى انفصل من حاضره كما انفصل اهل ابناء عمر اساور واخوانهم الناطقيين بلغة الساهو من عصر العولمة والتشبث بالمصالح والوحدة على اساس الوجود والعيش المبنى على اعمدة التفاهم والإنسجام الأخوى النابع من جوهر الإسلام والمواطنة العادلة.
المثير للسخرية كلهم تركوا ارض الأجداد التى وحدتهم فى مواجهة الخطر وابتدعوا عداء وهمى فى وطن جديد وفى غربة نائية, اما التربة التى ضحى من اجلها اجدادهم يلعب فيها اراذل قوماً كانوا يهلعون حين تلامسهم ريح عقنبسة وصنعفى وعدى قيح وجبال ديعوت وامباسيرا .
الان يعيشون على معزوفات بطولية تاريخية عزفها الناطقون بالساهو كقرزماش على شوم ووللو والشهيد سعيد حسين وخليفة ابا سبير وسعيد صالح وعبد الله داود والخ….. والبقية المؤمنة والمصابرة.
سلنتقى فى محطة اخرى بإذن الله
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=37906
أحدث النعليقات