عـفوا يا هنقلا ما هكذا ” فرجتنا”!!
بقلم : ابو رامى
عندما وصلني خبر إطلاق موقع جديد في شبكة الانترنيت يحمل اسم الشيخ الرمز ” محمد عثمان محمد المعروف بـ “فرجت “، تملكتني الغبطة ، وأصابتني سهام الفرح في مقتل ، الى الدرجة التى لم تمهلني للتعليق على هذا الاختيار الموفق فعلا ، ولم يكن بكل تأكيد نتاج مصادفة عرضية بقدر ما كان اختيارا وانتقاءا مبني على إعتبارات أهمها ما ذكرت في إ فتتاحية الموقع :-” شخص بسيط مألوف الوجه في ارتريا كان يبشر الناس بالفرج القريب ورحيل الاستعمار والظلم وببسط السلام والمحبة والمودة وقد أحبه أهلنا الطيبون في ارتريا لتواضعه وبساطة مظهره , وفرجت كان يمثل وجه الخير للشعب الارتري وعبارته المشهورة كانت تعطي الأمل للناس وتزرع في نفوسهم التفاؤل بالمستقبل وهو حتى بعد التحرير لم يتخلى عن ترديد عبارته المشهورة فضاقت به الزمرة الحاكمة ورموه في السجن وهم الذين لم يرحموا الصغير ولا الكبير ولا المعاق أو المريض”
واذا ما تأملنا هذه الجزئية من الافتتاحية ندرك جزءا بسيطا من خصال الرجل ، التى تكفي لأن نستوحي مواقعا مميزة منها ومن رمزيته المعروفة قولا وممارسة ،أما اذا شرعنا في تفصيل حياته وتعداد مناقبه وقراءة مواقفه الوطنية ، فحدث ولا تتوقف حيث لا الموقع يسعها ولا الذاكرة المتهالكة قادرة على استرجاعها ..
عندما نطلق مفردة “فرجت ” هناك ثمة ذكريات تتهادي الى مخيلتنا لا نعرف الفكاك منها أبدا ..، ولا شئ منها يقودنا او يدفعنا نحو ردهات المطالب الدنيوية، حيث تسمو النفس من ضيق مطالبها الانية نحو وعود الآخرة التى يبشر بها فرجت ، أو حتى الدنيوية التى يربطها بمدي ارتكاز الايمان بالقلب ورسوخه ثم تبيانه في العمل . في درب من التواصل مع الخالق ألاحد بأحتفائية صوفية خالصة لله .
عشت بجانب الشيخ ” فرجت ” لمدة تجاوزت العقد من الزمان في حينا الشعبي العريق “اخريا “، او (آخر –الدنيا- كما كان يسميه فرجت )اطال الله في عمره ومتعه بالصحة ، ذلك بعد انتقاله واسرته الفاضلة نحو مدينة اسمرا قادمين من كرن – التى لايذكرها “فرجت” الا مترادفة مع ( طعدا).
ما جعلني أخط هذه الخواطر المبعثرة هو المقال الاخير للاخ ” محمد هنقلا” ، الذي لم يكن منصفا بل حتى لم يكن دقيقا في التعريف بالشخصية ، ناهيك من ان يعطي احكاما عنها كقوله :-
” لايمكن اعتبار سلوك فرجت باي حال من الاحوال انها سلوك صوفية ، فهذا الصوت – اي فرجت – لا يحمل اي سمات صوفية تجاه المجتمع وتجاه نفسه ، سلوكا وممارسة، انه بعيد كل البعد عن فلسفة الصوفية ، نعم انه شخصية هادئة ، تظهر بمظهر الزهد، لكن ليس في المظهر وحده تتمثل الاهداف ، وكان شغلها الشاغل –هذه الشخصية- هو كيف تجمع الهبات،وعندما نقول هذا لاننكر دوره التفاؤلي الذي كان يبثه عبر صوته اثناء منتصف الليل من قمة جبل “اي تعبر” او نهارا في حواري المدينة، وجعله هذا الصوت التفاؤلي ، أقرب الو نفوس الناس تلك النفوس التى يحاصرها الصمت وحالة الطوارئ كانت تجد في هذا التفاؤل مخرجا للذات الغارقة في هموم الحياة ومتاهت الاحتلال ، هذا هو فرجت كان يأخذ الهبات مقابل صوته التفاؤلي “..الخ
اخي هنقلا ، أشك كثيرا في معرفتك بالسيد محمد عثمان “فرجت ” ، اذا كان ذلك هو تحليلك المنطقي لفرجت كظاهرة في المجتمع الارتري دينيا وسياسيا واجتماعيا ، فالذي يعرف “فرجت” جيدا ويقاسمه حيز الزمان والمكان بأمكانه إسقاط أحكامك (الجزافية) تلك ببساطة أكثر من تلك التى يتمتع به فرجت نفسه في بداهته المعروفة ولباقته التى تكتسي حكمة الشيوخ وتلقائيتهم التى لا تحيد عن قول الصدق ، والزهد عن ما توفره دونها من الخصال من مطالب الحياة تقي الاخرين ضنك الدنيا .
ياسيدي محمد ، لقد حدثتنا ان خصال وسلوك “فرجت” لاتمت ” بصلة بالتصوف وفلسفة الصوفية ، وكنا نتمني ان توضح حديثك بعرض اصنافا من تلك السلوك ، وقيم تلك الفلسفة وتناقضها سلوكا وممارسة –كما قلت- مع سلوك فرجت ..، ثم ياحبذا لو بينت لنا مصادر تحققك من ان مظهر “فرجت” يخالف جوهره ، باعتبار انك تصفه “بالزاهد في المظهر فقط” (؟؟) بربك كيف توصلت الى هذه النتائج ؟؟ وكأنك تعلم ما تخفي الصدور
ثم نراك ترمي الرجل بتهم باطلة لاتقوى على الصمود لحظة واحدة ـ في ان شغله الشاغل كان جمع الهبات؟؟!!، لا أدري عن اي فرجت تتحدث (؟)، هل هو ذلك الرجل الذي كان يقطن بجانب دارنا العتيق ؟؟ والذي لايملك ثمن وجبة واحدة تشفي رمق ابنائه؟؟ نظرا لانشغاله بالاذكار ليل نهار وبتبشير الناس بالفرج القادم “بأذن الله” ؟؟
“أبشروا ربي هلا ” ، ” ادنيا رسحت تا حتي ألبا ” “ياودود ياودود بلوا ، ” “فرجت فرجت ” ، تلك كانت عباراته الدائمة لدي وصوله الينا في “أخريا ، ثم أضاف اليها سيلا آخرا من الادعية والاذكار والمواعظ، بعضها كان بالتجرنية لافهام أخوتنا “الجبرتا، وكذلك حتى المسيحين” الذيم كان يدعوهم للاسلام ،
” فرجت ..فرجت ، هيبكا اي تخلاء ، فتيخا أي تطلائ، معلتي ألا كلنا نحتتلا، انتاي ادالينالا ؟؟” تلك ابيات من شعره
تعني ( فرجت ، أحسن للغير ولا تمنع الاحسان ، حب الكل ولا تكره أحدا ، هناك يوما سيأتي لاريب فيه ، سوف نسال جميعا عن افعالنا ، فماذا أعددنا له ؟؟))
لم يكن بأذكار الاستشعار التى كان يطلقها ينتظر مقابلا ماديا كما يريد ان يصوره عزيزنا (هنقلا) ، ولم يحدث انني رأيت فرجت يطارد الناس بحثا عن الاموال ، كان بعد كل صلاة يجلس امام المسجد ، وهو يقراء القران ويردد الاذكار فيأخد مما احسن اليه اصحاب الخير والايدي البيضاء ليشرع في رحلة الدعوة عبر الشوارع وباعلى صوت .
ثم الشي العجاب في استطراد “ود هنقلا” ، هو قوله “وجعله هذا الصوت التفاؤلي ، أقرب الى نفوس الناس تلك النفوس التى يحاصرها الصمت وحالة الطوارئ كانت تجد في هذا التفاؤل مخرجا للذات”
هل سمعت يا ود هنقلا ، عن رجل يبيع صوته ببضعة رصاصات تخترق جسده ، ان فرجت كان يخرق كل قوانين الحكومة الاستعمارية من حالة الطوارئ الى اخر القائمة الظالمة وينادي في الناس بأن تلك الاحكام زائلة وقول الله هو الابقي ، فكيف تجعل من الرجل مجرد جامع للهبات وبائع للصوت ، في الوقت الذي نراه أكثر الناس سخاءا وعطاء حتى لو ضحى بنفسه تحت سلطة أحتلال تقتل كل شئ ، وتحرم حركة الذباب بعد التاسعه ليلا .. فنري “فرجتنا الصامد ” الزاهد لا يهاب الموت ولا عتاد القتله ليخرق كل القوانين التعسفية ويجوب شوارع (كرن سابقا) واسمرا لاحقا ،؟؟
هل من بائع رأيته يمارس تلك الفعلة ؟؟
أتذكر في عام 1990 كانت حالة الطوارئ تفرض على الساعة التاسعة والنصف، وبعد ساعة من ذلك الموعد نسمع خطر فرجت على الحارة وصوته دوما يسبق خطاه ، حيث كان يصلي العشاء في مسجد الخلفاء الراشدين ويترجل نحو أخريا ليلا ، وفي كل زاوية وحارة كانت الناس تفتح النوافذ وتردد خلفه “فرجت فرجت ..”
فهل كان ذلك ايضا إستثمارا مربحا لصوته في زمن الرصاص ؟؟، مواقف فرجت مع “دارنا” ايضا كثيرة اسوة بكل ديار أخريا وناسها ، ومفارقاته الكثيرة التى تحكي بها كل العاصمة .
أكثر الامور التى لايمكن ان انساها في حياتي كانت في اليوم الثاني للتحرير ، حيث صلينا الظهر في مسجد ابوبكر الصديق ( رضي الله عنه ) بأخريا وكان فرجت من ضمن المصلين ، وأثناء خروجنا من المسجد صادف قدوم شاحنتين تحملان جنود ..، فهرول كل من بالداخل نحو تلك الشاحنة مرحبا بالجنود الذين وطأت أقدامهم لاول مرة أرض اخريا ، وتعانق معهم من تعانق بينما النسوة في البيوت المجاورة اطلقنا الزغاريد والطبول ، وحينها شاهدنا “فرجت” وهو يقول ” نعنان ندينان زخنوا يقبرلنا بلواا** طر طر مبال اي تبزحوا ، طبح كي تطعسوا ”
لاتزال تلك الكلمات راسخة بوجداني استرجعها كل مرة يزورني فيها طيف فرجت .. والمعني هو :
(( أدعوا بأن يكونوا أولئك خيرا لنا ولديننا ** ولا تبالغوا في الافراح حتى لايأتي يوما تندمون فيه على ذلك الفعل))
وهو ما حدث بالفعل … وصدق “فرجت”
وكان من أوائل من ذاق ويلات العذاب في سجون الشعبية بمبررات واهية ..
وأذكر مفارقة أخري بعد خروجه من السجن حيث حضر لتعزية جماعة من “اهلنا” فسأله الناس ، لماذا سجنت “يافرجت” ، فرج عليهم بتلقائية ، “لأن الشعبية قالت ان لا أحدا يحق له التسول غيرها!!” ، وعندما سالناه عن معاملتهم له في السجن قال بانهم استجوبه وقيل له: لماذا تجلس على عتبات المسجد متسولا ؟؟ فرد عليهم “لانني مسلم ولايمكنني دخول الكنيسة او الاقتراب من عتباتها”، اما السؤال الاخير فكان حكما نهائيا وانذارا ” التسول في دولة ارتريا ممنوع قانونا ومن اليوم فصاعدا نحذرك ..ان وجدناك ..، فرد عليهم ، بما ان القانون يحكم الكل فلتوقفوا تسولكم عبر المذياع!!!.
وهنا –وعلى لسان الراوي نفسه- انفجر المستجوب بالضحك واستدعى رفاقه ليقص عليهم تلك الجراءة التى يتحدث بها فرجت وتلك السرعة في البديهة.. فلم يسمح له بمغادرة “ماي تمناي” الذي تحول الى سجن بعد ان كان مستشفى متخصص في الامراض الصدرية ، وماكان سيغادر المكان ابدا – لولا ان اصبح وجوده بالداخل اخطر من الخارج – حسب تعبيره-، لانه شرع في تنظيم المساجين لحلقات التصوف والاذكار ليل نهار .
( حكي لنا “فرجت تلك القصة” في عام 1994 بمنزل الاستاذ محمد عمر –بينعامراي- بأخريا )
اخــيرا :
ان رجلا بعظمة “فرجت” ورمزيته لا يعقل ان يرمي جزافا بالاحكام والتهم دون بينة ، فإذا كان البعض منا لايعرف الرجل عن قرب ، فليبتعد على الاقل من السقوط في مستنقع الافتراضات الجاهزة ، حفاظا على مصداقيته، وإحتراما للقراء ولرموز شعبية نعشقها لصدقها وتلقائيته وورعها وزهدها ، وفي الختام ليس مطلوبا من أحد تقديم تحاليل نفسيه وأحكام حول النفس البشرية وتناقضاتها الداخلية والتشريح لمعرفه المظهر من الجوهر ..لان تلك ليست مهمتنا بالاساس.
شكرا
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5880
أحدث النعليقات