عقدة التطبيع في العلاقات السودانية الارترية
بقلم عثمان محمد نور
باحث بمركز دراسات القرن الإفريقي
العلاقة بين إرتريا والسودان علاقة ممتدة ومتجذرة عبر التاريخ فهي علاقات تواصل وامتداد اجتماعي وثقافي وتكامل اقتصادي, قبل أن تكون علاقات مصالح سياسية وأمنية, لذا يجب أن تراعي وتصان من الجميع, وبعيدا عن البحث في الخلفيات والروابط التاريخية للشعبين ومراحل تطور العلاقات بين البلدين عبر التاريخ القديم والحديث ندخل مباشرة في الموضوع ويختصر تناولنا للموضوع في العلاقات الارترية بالسودان في مرحلة إرتريا الدولة أي منذ التحرير في 24/5/1991م.
عند التحرير كان السودان حكومة وشعبا أول من رحب بالتحرير واعترف بالدولة وهنأ بالانتصار فكانت أول زيارة لمسئول كبير لإرتريا بعد التحرير من السيد/نائب رئيس قيادة الثورة والوزراء الشهيد الزبير محمد صالح في أغسطس 1991م والذي رافقه فيها وفد كبير من الوزراء وكبار المسؤليين, ووقعت في الزيارة العديد من الاتفاقيات الثنائية بين البلدين في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية, ومن اكبر أشكال الدعم السياسي للحكومة الارترية في ذلك الوقت أن اتخذ السودان قراراً يقضي بإغلاق جميع مكاتب التنظيمات الارترية ووقف أنشطتها كافة، ووضعها أمام خيارات ثلاثة عرفت حينها بالمآزق الثلاثة وهي :
1- الدخول إلي إرتريا ومحاولة العمل من الداخل, وهذا الرأي رغم وجاهته من حيث المنطق الاانه لم يكن عمليا لأن الحكومة الارترية رفضت أي شكل من أشكال الاعتراف بالتنظيمات السياسية
2- البحث عن بلد أخر تنطلق منه المعارضة
3- إلقاء السلاح والبقاء كلاجئين في السودان
وبالجملة ظلت العلاقة بين البلدين في الفترة من (1991إلى 1994م ) قائمة وطبيعية).
بدأت بوادر التوتر في العلاقات بين البلدين منذ 1994م سرعان ما تطورت الأمور سلبياً فأعلنت الحكومة الارترية قطع علاقتها الدبلوماسية بالسودان رسميا في 5/1/1995م, بل واتجهت فوراً نحو التصعيد وتعقيد الموقف حيث استدعت الحكومة الإرترية جميع فصائل المعارضة السودانية واعترفت بها رسميا, وقدمت لها دعماً سياسياً وإعلامياً وعسكريا بشكل مباشر, وفي يونيو 1995م استضافت إرتريا مؤتمر التجمع الوطني الأول الذي عقد في اسمرا وعرف فيما بعد بمؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية وذلك بحضور كافة أطراف المعارضة السودانية بشقيها الشمالي والجنوبي, وتم تسليم مقر السفارة السودانية بأسمرا للمعارضة السودانية وقد شكل مؤتمر اسمرا نقطة تحول سياسي وعسكري كبيرين في عمل تنظيمات المعارضة السودانية لاسيما الشمالية منها، لأنه لم يكن لديها عمل عسكري قبل مؤتمر اسمرا وأعلنت إرتريا علي لسان رئيسها (افورقي ) دعمها غير المحدود لكافة فصائل المعارضة السودانية وفي كل المجلات وحسب ما تسمح به كافة إمكانات إرتريا حيث قال (افورقي )في المقابلة التي أجرتها معه مجلة الأمانة التي يصدرها حزب الجبهة الشعبية في العدد (4)الصادر في يونيو 1996م (إن تعاوننا مع قوي المعارضة الشمالية والجنوبية ليس لتحقيق أهداف تكتيكية وانتهازية وإنما هو تعاون غير محدود ويتم تقديمه حسب ما يريدونه هم وما تسمح به إمكانياتنا, وإذا احتاجوا إلي التدريب العسكري أو السلاح فنحن مستعدون لتقديم ذلك طالما كنا قادرين عليه ).
ومهما تكن وجهتنا تجاه سياسات افورقي الداخلية والخارجية غير المتوازنة, إلا انه من الأمانة أن نثبت بأن الحكومة الارترية ظلت وفية لهذا الوعد والالتزام الذي قطعته على نفسها منذ ذلك التأريخ وحتى اليوم وعموماً مرت الفترة من (1995-1997م ) والعداء مستحكم والقطيعة قائمة بين البلدين رغم تقدم بعض الجهات الدولية بمحاولة لرأب الصدع إلا إنها قوبلت بالرفض من قبل الطرف الارتري, مراهنا علي دعم المعارضة لإسقاط الحكومة السودانية وتأزم علاقات السودان الخارجية في المحيط الاقلمي والدولي في ذلك الوقت.
ظلت العلاقات تراوح مكانها في السوء إلى أن بدأت المساعي القطرية التي توجت بتوقيع اتفاقية الدوحة في 2/5/1999م بحضور كل من الرئيس السوداني عمر البشير, والرئيس الارتري اسياس افورقي, وبرعاية كريمة من أمير دولة قطر الشيخ /حمد بن خليفة, وعلى خلفية هذه الاتفاقية عادت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في 25/1/2000م
والرئيس الارتري (افورقي ) مستفيدا من أجواء عودة العلاقات بين البلدين, وأجواء حوارات السلام بين الحكومة السودانية ومعارضيها التي لم تتوقف محاولاتها في الأصل, تقدم بمبادرة تمكن من خلالها الجمع بين الرئيس السوداني عمر البشير والسيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع الوطني بأسمرا في 26/9 /2000م، وصفت المباحثات بأنها كانت استكشافية, وأبدى الطرفان قناعتيهما بأن السلام والاستقرار في السودان لا يتأتى إلا عبر تسوية شاملة, وإرتريا رغم إبعادها عن إعطاء دور مباشر في مفاوضات الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية في مشاكوس ونيفاشا, ومن خلال إصرارها المباشر وضغطها المستمر علي فصائل المعارضة ورغم رفض الحكومة السودانية وتعللها بأن مستوى العلاقات بين إرتريا والسودان لا يؤهل إرتريا لأن تكون طرفاً وسيطاً في المفاوضات, إلا أنها أي إرتريا استطاعت أن توجد موطئ قدم لها في مفاوضات ابوجا من خلال العضوية المراقبة, ثم أصبحت الآن بقدرة قادر راعية لاتفاق السلام بين جبهة الشرق والحكومة السودانية, والمراقب للموقف يجد تباينا كبيراً حول مدى أهلية إرتريا لرعاية مفاوضات السلام في الشرق, ففي الوقت الذي ترى فيه جبهة الشرق وبعض السياسيين من أبناء الشرق وبعض المراقبين الآخرين أهلية إرتريا معللين رأيهم بأن إرتريا بما تمثله من امتداد جغرافي وعمق اجتماعي وثقافي للسودان وبما لها من علاقات سياسية وتداخل قبلي مع الفصائل المكونة لجبهة الشرق مؤهلة لأن تكون وسيطاً بين الحكومة السودانية وجبهة الشرق, فيما كان يرى فريق أخر وفي مقدمتهم الحكومة السودانية إلى وقت قريب بأن إرتريا غير مناسبة ومستوى علاقاتها مع السودان في الوقت الراهن لا يؤهلها بأن تكون الدولة الراعية للمفاوضات إلا عبر ( قاعدة حاميها حراميها).
وفي تقديرنا أن الرأي القائل بأهلية إرتريا لرعاية التفاوض مقبول من حيث المنطق ولكن لو نظرنا إليه بحكم الواقع لربما نجده لا يخلو من التفاؤل الزائد, ولكن الآن وبعد أن أصبحت إرتريا عملياً هي الراعية للتفاوض لا نملك سوى أن نضع التكهنات جانباً وننتظر لنرى مدي قدرة إرتريا في التأثير على الأطراف المتفاوضة, ومدى حياديتها في التعامل مع أطراف التفاوض، وقدرتها في إدارة فن التفاوض وطرح الخيارات والبدائل وفك الارتباط عند لحظات الاختناق والتشابك بالترغيب والترهيب, كما تفعل عادة الكثير من الجهات التي ترعى مثل هذه المفاوضات.
والآن دعونا نتفاءل ونقول بأن المفاوضات بين الحكومة السودانية وجبهة الشرق ستصل إلى نهايتها والسلام سيتحقق في الشرق إن شاء الله و يبقي السؤال هل التوصل إلى اتفاق سلام مع جبهة الشرق سيؤدي إلى تطبيع العلاقة بين السودان وإرتريا ؟
في تقديرنا لا تزال توجد العديد من التحديات التي قد تقف عقبة أمام إتمام موضوع تطبيع العلاقات السودانية الارترية, وهذه العقبات ليس المقصود منها التقليل من أهمية اتفاق السلام في الشرق، فتحقيق السلام في الشرق هام جداً بالنسبة لأهلنا في شرق السودان الذي يعيش بين مطرقة الفقر والجهل والمرض خاصة في ريفه الذي تدار فيه رحى الحرب, وبين سندان المعارضة السودانية وكذلك السلام هام للحكومة السودانية، لأن الخلل الأمني والعسكري في الشرق ذو تأثير على المستوى المحلي في الإقليم وعلى مستوى الاتحادي في المركز لاعتبارات سياسية وأمنية واقتصادية معلومة, كما انه مهم أيضا بالنسبة للحكومة الارترية التي تعيش في حالة تدهور اقتصادي واختناق سياسي, ولذا سارعت إرتريا كثيراً حتى تفوز بدور رعاية سلام الشرق, أو حتى لاتخرج من المولد دون حمص كما يقولون رغم احتضانها لجميع فصائل المعارضة السودانية والتي لم يبق منها الآن إلا القليل.
ومن أهم تحديات التطبيع وجود العديد من تنظيمات المعارضة الارترية في السودان, وهذه التنظيمات ليس من السهل التخلص منها بمجرد اتخاذ قرار سياسي بحظر نشاطها، لأن الأمر من الناحية العملية تعتريه الكثير من العقبات, والسودان بما انه من أكثر الدول تأثراً سلباً وإيجاباً بما يحدث في إرتريا يجب أن يكون صريحاً في مواجهة النظام الارتري بضرورة التصدي لمشكلاته الداخلية التي تنعكس سلباً على استقرار الوضع السياسي بين البلدين، فلا يمكن من الناحية العملية والواقعية أن ترتقي العلاقات بين البلدين إلي مستوى التطبيع مع وجود فصائل تنظيمات المعارضة الارترية داخل السودان, وهؤلاء المعارضين سيظلون موجودين في السودان حتى في ظل حظر مناشطهم لأنهم في الأصل مقيمون في السودان كلاجئين, والوضع الراهن في إرتريا غير مساعد على التشجيع للعودة الطوعية لأن إرتريا تعيش أوضاعاً سياسية واقتصادية وأمنية غير مستقرة, بل نزيف اللجوء لا يزال مستمرا بشكل شبه يومي حيث بلغت أعداد اللجوء الجديد المحصورة فقط منذ يناير 2004م -4/ابريل 2006م (12.371) لاجئاً معظمهم من منسوبي الخدمة العسكرية والطلاب, كما لا يزال في السودان عدد 22 معسكراً للاجئين في الولايات الشرقية, هذا كما أن الحكومة الارترية في الأصل غير حريصة علي عودة هؤلاء اللاجئين لأنها تعتبرهم امتداداً طبيعياً للمعارضة الارترية.
القوى السياسية الارترية بما لها من خبرة سياسية وعسكرية طويلة في العمل السياسي منذ أيام الثورة من داخل الأراضي الحدودية في السودان, ووجود الحدود الطويلة بين البلدين والتي يبلغ طولها نحو (605)كلم ووجود الامتداد الاجتماعي والتداخل القبلي فقوى المعارضة الارترية مستفيدة من كل تلك العوامل يمكنها أن تظل تقاوم لأطول فترة النظام الارتري الحاكم, ومهما كانت المعارضة ضعيفة إلا أنها يمكن أن تشكل وبأبسط الإمكانيات المادية والعسكرية هاجساً أو قلقاً امنياً للنظام الارتري.
وخلاصة القول على النظام الارتري أن ينزل من أبراجه العاجية ويتخلى عن توزيع التهم والشتائم لمعارضيه ويلتفت لحل مشاكله الداخلية ومفتاح ذلك يكمن في توحيد الجبهة الداخلية التي بدأت تهترئ حتى على مستوى الحزب الحاكم (الجبهة الشعبية ) الذي خرجت منه حتى الان أربع مجموعات معارضة ولا يتأتى ذلك إلا من خلال أن يتحاور النظام مع معارضيه ويتصالح مع شعبه وأقطاب حزبه لاسيما أن قوى المعارضة السياسية حاليا أكثر توحدا في تكوينها ورؤاها، حيث يضم التحالف الديمقراطي الارتري ثلاثة عشر تنظيما هي ابرز الفصائل في الساحة, وأعلن استعداده للحوار والتفاوض مع النظام، حيث أصدرت القيادة المركزية للتحالف في الاجتماع الذي عقد في الفترة من 15-24 ديسمبر 2005م قراراً سياسياً حول مسألة الحوار مع النظام جاء فيه (يبدي التحالف استعداده للحوار مع النظام لحل الأزمة السياسية في إرتريا من أجل تحقيق مبدأ نقل السلطة السياسية بطريقة سلمية وديمقراطية)، ونأمل أن يستفيد النظام الارتري من مارثونات التفاوض في شرق السودان، ويكون له ذلك حافزاً لكسر حاجز الخوف من الدخول في الحوار وقبول الآخر.
هذا الرأي ليس المقصود منه الحفاظ على المعارضة الارترية مهما كلف الأمر إذ يعتبر من البديهي أن السودان فيما يتخذه من مواقف وسياسيات معني بمراعاة مصالح السودان العليا قبل أي اعتبار آخر, كما أنه ليس المقصود به الإشفاق على المعارضة الارترية بأنه لو أغلق السودان الباب أمامها سوف تنتهي وتتلاشى، فقد حدث أن حظرت الإنقاذ نشاط فصائل المعارضة كما ذكرنا سابقاً دونما يؤدي ذلك إلى اختفائها من الخارطة, ولكن مبعث هذا الرأي هو الخوف على المصلحة الارترية العليا لان الوضع في إرتريا الآن غير طبيعي وربما تكون هنالك جهات من مصلحتها أن تستمر المشاكل التي تنخر في جسد الدولة الارترية حتى تخر وتنهار فنصبح أمام صومال آخر في القرن الافريقي الجريح، هذا كما أن السودان لا يمكن أن يستقر ويستريح على الأقل في شرقه في ظل وجود دولة غير مستقرة في إرتريا.
والتحدي الآخر هو وجود فصيل حركة (العدل والمساواة) في الأراضي الإرترية والتي لا تزال ترفض التوقيع على اتفاق ابوجا, فحركة العدل ستظل تشكل هاجساً امنياً في المنطقة مالم تنجح جبهة الشرق في استقطاب بعض الأفراد الموجودين فيها من أبناء البحة, والتزمت الحكومة الارترية بفرض حظر على النشاط العسكري لهذا الفصيل على الولايات الشرقية كشرط مكمل لتحقيق السلام في الشرق.
وهنالك تحدي إقليمي يدخل ضمناً في تكامل عملية السلام في الشرق وهو النزاع الإثيوبي- الارتري وأثاره على دول الإقليم لاسيما السودان, فإن كلاً من إرتريا وإثيوبيا تعيشان في حالة عداء وترصد منذ تفجر النزاع بينهما حول تبعية مثلث بادمي الحدودي, والجدير بالذكر أن النزاع بين البلدين في عام 1998م كان يمثل عاملاً من عوامل إسراع تطبيع العلاقات بين السودان وإثيوبيا, وانفضاض سامر ما عرف حينها بدول الطوق ضد السودان, والسودان هو احد دول تجمع صنعاء الذي ظل الرئيس الإرتري يعمل من أجل اختراقه وعزل السودان عن التجمع, وإضعاف دور التجمع في دعم (التحالف الديمقراطي الارتري المعارض), وإذا أخذنا في الاعتبار الحساسية المفرطة بين البلدين (اثيوبيا وإرتريا ) نستطيع أن نتكهن بعدم إمكانية اقامة علاقات مستقرة ومتوازنة للسودان مع كل من اثيوبيا وإرتريا في آن واحد في الوقت الراهن, لأن ما يرضي طرف يغضب الآخر.
وهذا يؤكد مدى تعقيد الأوضاع وتقاطع المصالح في منطقة دول القرن الافريقي بحيث يصعب النظر في حل مشكلة معينة دون الأخذ في الاعتبار ظروف دول الإقليم الأخرى.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6949
أحدث النعليقات