فقيد الدعوة الإسلامية في إرتريا المرشد الإسلامي الشيخ محمد صالح حاج حامد رحمه الله
لقطات من سيرته الذاتية ومسيرته الدعوية.
الاسم والولادة
هو الشيخ محمد صالح، بن حاج حامد، بن عمر، آل شباللا، ولد عام 1923 م بقرية ( إيت أسرار) بوادي روماي (معت) في الساحل الشمالي من إرتريا، وهو أكبر أسرته من الذكور، يليه أربعة آخرون.
النشأة التعليمية.
تلقى تعليمه القرآني تحت عناية والده حاج حامد عمر شباللا، وفي عام 1941م اصطحبه والده إلى عدوبنا، جنوب طوكر، بالسودان، حيث خلوة ( كميلاب) التي أسسها عمدة الكميلاب، الشيخ محمد عبد القادر، وفي هذه الخلوة تعرف على الدعوة السلفية التي حملها إلي الخلوة المذكورة نفر من طلاب العلم المتأثرين بالداعية الإرتري المصلح الشيخ صالح طاهر عبد الله، رحمه الله، وهو أول داعية إسلامي شقت به الدعوة السلفية في الثلاثينيات طريقها، إلى إرتريا، وشرق السودان.
ثم رحل إلى قرية ( أسوت) شرق مدينة سنكات، قاصدا خلوة الشيخ محمد طاهر حمد الدين رحمة، وامتد مكثه فيها عاما واحدا، من عام 1944م حتى 1945 م.
عقب ذلك شد رحاله إلى بربر، إحدى مدن الشمال السوداني، حيث خلوة الشيخ أحمد ولد الفكي علي، بعدها انتقل إلى قرية (نوري) بالشاقية ولازم خلوتها مع الحرص على حضور حلقات الفقه في معهد الشيخ أحمد الكاروري، بحي حمد تياب. ثم انتقل إلى قرية (القرير) بخلوة الشيخ الفكي عوض، وبقي فيها حتى عام 1948 م مشتغلا بقراءة القرآن، ودراسة بعض متون كتب الفقه المالكي عند الشيخ محمد أحمد بن محمد علي، بقرية (الكري)، التي لا تبعد كثيرا عن قرية (القرير).
النشاط الدعوي.
عاد إلى أهله بعد أن أخذ حظه من التلاوة القرآنية، وكانوا وقتها في (ألقينا) بالساحل، ثم سافر إلى كسلا، واتصل بالسيد حسن المرغني، وأبدى له عن رغبته في بناء مشروع تعليم القرآن الكريم، فكتب له خطابا إلى رجل يدعى (أبو النصيح)، وهذا بدوره أوفده إلى شيخ عرب اللحويين بالشوك، لكن المشروع لم يكتب له النجاح. بعد ذلك عمل في تدريس القرآن مع قبيلة البوادرة، حي العقل، ريف قضارف، وظل هنالك قرابة عام، قرر بعده السفر إلى إرتريا.
في عام 1950م دخل إرتريا عن طريق مدينة تسني، وبعد شهر من وصوله إلى تسني توجه إلى أسمرا، وتعرف فيها بعدد من الجالية السودانية، فتوثقت صلته بهم.
تنامى إهتمامه بحركة الإخوان المسلمين، وهو في العاصمة الإرترية أسمرا، وخاض أكثر من نقاش في الدفاع عنهم، وعن دعوتهم، وبينما الأمر على هذه الحال وصل أسمرا مبعوث السيد علي المرغني، الشيخ محمد الحسن الفكي، من أهل بربر بالسودان، يريد تكوين هيئة شبابية، وذلك عام 1952 م. و كان هذا الشيخ معلما في معهد الشيخ الكاروري بنوري في الشاقية، حيث كان الوالد يدرس، فهو معروف له من قبل.
وبسعي من الوالد رحمه الله استطاع هذا المبعوث أن يوصل رسالته إلى السيد علي رادآي رحمه الله، وأن يعقد لقاء سريا في أكريا بأسمرا حضره كل من الشيخ إمام موسى، والسيد محمد زلقو، والسيد صالح ناصر، والسيد أحمد مري، ونفر من آل أبرا، ومنهم الدكتور ياسين أبرا رحم الله الجميع.
في عام 1959 م تكونت هيئة شبابية بعد اجتماع انعقد في دائرة السيد جعفر المرغني بكرن حضره شوم حمد ناظر قبيلة الماريا طلام، والسيد عبد الله المرغني رحمهم الله جميعا واختير الوالد رحمه الله رئيسا لها، والسيد عبد الرزاق الجبرتي رحمه الله أمين الصندوق.
سافر الوالد باسم هذه الهيئة إلى السودان للتعريف بأهدافها وغاياتها فقابل السيد على المرغني، ثم عبد الرحمن المهدي، ثم الدكتور حسن الترابي، والصادق عبد الله عبد الماجد، مرشد الأخوان المسلمين بالسودان، ثم عاد إلى كرن.
لسوء الأوضاع لم تدم الهيئة طويلا، وكان هدفها تأطير الشباب في كيان ثقافي.
في عام 1964 م ركب الوالد إلى الساحل الشمالي باتجاه وادي (أدهرة) الواقع على شرق أفعبت للتعرف على إمكانية العمل الدعوي هناك، إلا أن المحاولة لم تؤت ما كان منها مرجوا، ثم اتجه صوب إقليم بركة، وكذلك لم يكتب لهذه المحاولة النجاح.
وفي العام نفسه اتصل بالشيخ حامد فرج رحمه الله وعرض عليه مشروع تعليم القرآن وطلب منه تبني المشروع، إلا أن المحاولة أخفقت.
في العام نفسه اتجه إلى مناطق البازا والكوناما وتعرف في بارنتو عن طريق السيد عبد الكريم يوسف جابرى، والسيد إبراهيم محمد آدم قبريس، والسيد أدم طلول رحمه الله بعمدة الباريا الشيخ عبد الله بخيت كوكن رحمه الله، وبالتنسيق معه نشط في أوساط البازا يدعوهم إلى الإسلام، وتعليم أبنائهم القرآن، فاستجاب له منهم عدد كبير، وأحضر أبناءهم إلى مدينة كرن ليتعلموا القرآن تحت كفالة أسرها، ومن أبرز هذه الأسر التي كفلتهم عائلة الشيخ عثمان محمد إدريس قيحيتاي، أبوبكر عثمان ياقوت، محمد نور عثمان ياقوت، إدريس موسى رادآي، عبد الرحيم كيكيا، عبد العليم محمد علي بخيت، محمد محمود مركاب، محمود أحمد كوكو، عبد الله جبريل، حسين كافل، أحمد باشميل، الحاج عبد المولى، إبراهيم حجي صالح، آل محجب، محمد نور طه الأمين، عثمان طرارات. رحم الله منهم الأحياء والأموات، وضاعف لهم الحسنات.
ومن أهم من عملوا معه في ترغيب الكوناما وتشجيعهم إلى إرسال أبنائهم إلى كرن الشهيد محمود بلاي رحمه الله، فقد بادر نفسه بإرسال ابنه حسين، وابن أخته إدريس، وقد قتل الشهيد محمود بلاي ومعه زوجته أيضا في الستينيات ببارنتو على يد الأمن الإثيوبي عندما اقتحموا عليه منزله، لكن بعد أن قتل منهم اثنين بسيفه، فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
في هذا الأثناء من النشاط والعمل تعرف الوالد رحمه الله في مدينة كرن بمنصر بريطاني يدعى مستر (ديفد)، وكانت المنافسة بينهما على أشدها، لكنه كثيرا ما كان يصطحب الوالد في سيارته كلما سافر إلى مناطق البازا، وكان يجيد العربية، حيث عمل منصرا في مصر المحروسة.
وفي هذه اللحظة من التاريخ أسس خلوته القرآنية التي سماها مفتي الديار الإرترية وقتها الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر رحمه الله ( مدرسة الإرشاد الإسلامي) وطالب المسلمين بالتعاون معه في منشورين كتب أحدهما بتاريخ 13 فبرارير 1964 م والآخر بتاريخ 4 مارس 1964 م.
ثناء هذا النشاط تعرف الوالد على ناظر البازا السيد فايد تنقا وكسبه إلى جانبه، وكان فايد تنقا محاطا وقتها بالقس ( د بطرس) المشهور بطائفيته المقيتة، وأخذ أبناءه إلى مدينة كرن لتلقي التعليم القرآني، وكانوا تحت كفالة محمد نور ياقوت رحمه الله.
ضمن وفد قادم من علي قدر لمقابلة (أسرات كاسا) لأعمال تخصه استطاع الوالد الدخول إلى مكتب الحاكم العام لإرتريا (أسرات كاسا) في أسمرا وطلب منه السماح له بجمع تبرعات لبناء مسجد سوسنا، فوافق له بعد تحر ومساءلة، وأحاله إلى مدير أغردات السيد الأمين إدريس الذي أشار إليه بجمع توقيعات مشايخ البازا وأعيانهم، فأخذ بمشورته، وكان من أول من وقع له من هؤلاء الأعيان الناظر القديم للبازا والكويتا الشيخ محمد بادمي، ثم من أجل هذا الغرض اتجه إلى شيشيبيا، وأمتا، وأوقاروا، وتكمبيا، حيث الشيخ موسى علي شولي، كل ذلك على ظهر جمل، يترجل عنه تارة، ويمتطيه تارة أخرى، ثم سافر مع زميله عمدة الباريا الشيخ محمد عبد الله بخيت كوكن إلى أديس أبابا، ثم دريداوى، لجمع تبرعات، وقد كتب لهما الدكتور ياسين أبرا رحمه الله خطابا إلى معارفه في العاصمة الإثيوبية، ومن هؤلاء المعارف الأفاضل الذين خاطبهم الدكتور ياسين أبرا وتعاونوا معهما السيد موسى كيكيا، ورجل الأعمال في توراري محمد برهان الجبرتي من أهل مندفرا، وعبرهما تعرفا بالسيد عثمان حيوتي رحم الله الجميع، وبهذا التعاون جمعا قدرا من المال مكنهما من بناء مسجد سوسنا، وكان وكيلهما في بارنتو التاجر الحضرمي عمر سعيد با أعمش رحمه الله، إليه يرسلان ما جمعا من تبرعات، وكان رحمه الله يشرف على بناء المسجد.
كما تقدم بطلب إلى مفتش مركز أفعبت السيد هداد كرار رحمه الله يريد منحه أرضية لإقامة مشروع تعليمي عليها، فوافق له السيد هداد رحمه الله بأرضية ذات مساحة واسعة، من الأراضي الخالية التي تقع مجاورة لقبيلة عد معلم، في اتجاه (مهيأت)، لبناء مدرسة داخلية، ومعهد ديني، ومساكن للمدرسين، ثم فيما بعد صادرها الجيش الإثيوبي.
سافر مع زميله عمدة الباريا الشيخ محمد عبد الله بخيت كوكن إلى الحج وتعرف بالشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله المفتى العام السابق للملكة العربية السعودية، وكان وقتها نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفي منزل الشيخ ابن باز قابل أمير المدينة المنورة وقتها الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود وتحدث معه عن شأن الدعوة الإسلامية في الحبشة بشكل عام، وحاجتها إلى الدعم والمساندة، ثم اتصل برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ولاحقا كاتب الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، وتلقى منه دعما ماليا عن طريق رابطة العالم الإسلامي، وكذلك الملك خالد بن عبد العزيز، رحم الله الجميع، وبمساعدة من رئاسة الحرمين أدخل كميات كبيرة من المصاحف القرآنية عن طريق مصوع، في دفعتين متتاليتين، وساعده في شحنهما وتجهيزهما كل من السيد أحمد حبيب، المشهور بشلاشاي، الذي تعاون مع الوالد بكل ما يستطيع، وجعل من منزله بجدة دارا للوالد، يأوي إليه، ويستريح فيه، والسيد محمدحجي شنقب رحم الله الجميع، وكذلك السيد علي كردي، والسيد عبد الله دنكلي، وجميعهم من الإرتريين العاملين بجدة، حملوا هم الوطن، ومساندة العمل الإسلامي، إذ سعى بعضهم لدى التاجر ( شربتلي) ليتكفل بترحيلها إلى مصوع، والبعض الآخر لدى التاجر باخشب.
عند وصوله أسمرا عائدا من الحج اعتقل هو وزميله عمدة الباريا الشيخ محمد عبد الله بخيت كوكن، واتهما بالاتصال بكل من الشيخ إبراهيم سلطان، وإدريس محمد آدم رحم الله الجميع، ثم أخلي سبيلهما بعد التحقيق، وأفرجت الدولة عن كمية المصاحف المحتجزة، وفي هذا الصدد كثيرا ما كان الوالد رحمه الله يشيد بدور أخيه في الله السيد وهب الباري شيخ عبد، فقد كان مسؤولا في ميناء مصوع، وكان يعمل على تسهيل مرور المصاحف القرآنية، وبهذا وزعت المصاحف على كافة الخلاوي القرآنية في كل المدن الإرترية، وكان مقر التوزيع في كرن دكان حجي صايغ في شارع الصاغة، بينما ساعد في توزيعها خارج مدينة كرن القاضي محمد طه قاضي أمحجر، استشهد رحمه الله في مجزرة السبعينيات، كذلك شيخ الأشراف بخور بركة الشريف كجر إيرا محمود كجر إيرا، رحمه الله، وقد زار هذا الرجل في الثمانينيات المملكة حاجا، فعرفه الوالد بالشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي المملكة السابق رحم الله الجميع، واتسعت دائرة التوزيع حتى وصلت إلى أوسا حيث سلطنة السلطان علي مراح، وإلى جامع الأنوار بمركاتو في أديس أبابا.
وفي الحقيقة كثيرون هم الذين تعاونوا مع الوالد وظل في حياته يردد أسماءهم وأنا أوثق منه مسيرته الدعوية في مذكراته التي سأنشرها قريبا إن شاء الله، من هؤلاء: الشاب أحمد حسن نايب في مصوع، والشاب علي سعد، والشاب المهندس عثمان عبد شيخ علي، والأخيران كانا وقتها طالبين في الجالية العربية بأسمرا، وغيرهما كثر من الشباب المستنير، ظل يذكرهم بالخير، ويدعو لهم جميعا بالأجر الجميل، والمجازات الحسنة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وفي هذه الفترة من نشاطه الدعوي ساهم في بناء جامع وعدد فصلين دراسيين في منطقة محلاب منسع، بيت شحقن عن طريق كنتيباي محمد كنتيباي أفتاي وذلك في 16 اكتوبر 1966 م. وكذلك جامع وعدد فصلين دراسيين في منطقة بن زيناي منسع، بيت أبرهي، عن طريق عمدة قبيلة زين الشيخ نافع عامر، وكان نصرانيا، تنصر والده في العهد الإيطالي، حيث كانت مناطق هاتين القبيلتين هدف الإرساليات التنصيرية.
وفي العام المذكور دخل في مساومة مع مالك الميدان الرياضي في كرن ( ملعب كرة القدم) بغرض شرائه لبناء معهد للأيتام إلا أن مدير مديرية كرن لم يوافق على إبرام العقد.
وتعاون أيضا مع الشيخ محمد علي زرؤوم في تثبيت معهد عنسبا وازنتت بمدينة كرن بعد دخوله إليها عقب حريق وازنتت.
وشارك في إنشاء زاويتين للصلاة وتعليم القرآن في ضواحي عيلا برعد عن طريق بيت شاويش علي محمد طعدا من آل معلم، وأيضا في بناء مسجد في حي عنكلت حليب بكرن عن طريق الحاج أحمد موسى شنقب رحم الله الجميع وتقبل منهم.
وساهم مع القاضي محمد يوسف رحمه الله في بناء معهد صنعفي الإسلامي للبنين والبنات، وحضر يوم افتتاحه بدعوة من القاضي محمد يوسف، وكانت صنعفي في هذا اليوم مطوقة بالجيش الإثيوبي، يمنع فيها الاجتماعات، وعقد الاحتفالات، لكن جرى التحايل على هذا المنع في هذه المناسبة بتنظيم ليلة قراءة المولد، وتحت هذا الغطاء تجمع الناس، وأعلن عن افتتاح المعهد.
سعى إلى إنشاء معهد بعلي قدر، ومن أجل ذلك عمل على عقد صلح بين أنصار السنة والختمية، إذ كانت العلاقة بينهما متأزمة، فاتصل بكل من الشيخ محمد أبوبكر شنقب، والسيد بلاتا جابر رحمه الله، من رجالات أنصار السنة، وقد تحقق هذا الصلح، ودون في المحكمة الشرعية التي كان يرأسها وقتئذ القاضي محمد جيواي رحمه الله.
اتصل بمعهد عصب وكان مديره الشيخ محمد الطيب أحد الأزهريين النشطين في مجال الدعوة وأمده بمراجع إسلامية، ومصاحف قرآنية، وظل يتردد عليه ويتفاكر معه في أمر الدعوة كلما زار مدينة عصب.
وكانت له صلاة حسنة بمعهد منصورة والتعاون معه في نشر مفاهيم الدعوة السلفية بالمدينة، ومما قاله لي أحد أعيان مدينة منصورة، وهو من أسرة (أشواك) جاء للعزاء في منزلنا بكسلا: إن مما نصحنا به الشيخ محمد صالح نزع الورقة التي عليها اسم الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المقررات الدراسية، سدا لباب الإثارة والشغب، في وجه مثيري الفتن باسم محاربة الوهابية.
أيضا كان قوي الصلة بمعهد طيعو في زولا وكان مديره الشيخ محمد سعيد أبو عيسى، وكان التعاون بين الشيخ أبو عيسى والوالد قويا ومتينا، حيث كان الوالد رحمه الله يمدهم بما يحتاجونه من مصاحف قرآنية.
انتقل الشيخ أبو عيسى إلى أوسا حيث السلطان علي مراح، سلطان عفر، وبقي التعاون بين الوالد رحمه الله والشيخ أبو عيسى قائما، حيث ظل الوالد يحمل إليه كمية كبيرة من المقررات الدراسية والمصاحف القرآنية، خصص جزء منها لأوسا والجزء الآخر للمدارس الإسلامية في دسي.
وفي (قندع) تعرف بمحسن فاضل وهو السيد ( بكري صايغ) وكان رحمه الله من أهل الإحسان الذين حملوا هم الدعوة، وأنفقوا عليها مما آتاهم الله من فضله، وكلما نزل الوالد مدينة قندع ضيفه عنده، يعاونه في أمر الدعوة، وعن طريقه تعرف بمعهد مصوع، وفي هذا المدينة تعرف بشباب ينشطون في مجال الدعوة منهم السيد يعقوب دنكلاي.
قام بحملة جمع توقيعات دعما لمشروعه الدعوي، وجاب من أجل ذلك معظم مدن إرتريا في ظروف صعبة وقاسية، واستجوب بسبب ذلك في كرن، ثم في أفعبت، ثم في مسحليت أثناء عودته إلى كرن من نقفة وأفعبت، ثم أيضا في هيكوته، أما في تسني فقد اتجه بنفسه إلى مكتب المفتش محمد أكد ليشرح له الغرض من جمعه للتوقيعات، وفي أم حجر نصحه الضابط عبد القادر محمد علي بالعودة، والإمساك عن هذا النشاط في هذه الظروف الصعبة، لكنه مضى في الأمر فوصل أسمرا، ثم صنعفي، وعدي قيح، ودقمحري، ومندفرا، وحقق ما أراد من جمع التوقيعات.
في عام 1969 م أنشأ في كرن مؤسسة تعليمية سماها مؤسسة أصحاب اليمين التعليمية وبنى باسم هذه المؤسسة في مدينة كرن نفسها ثلاثة معاهد هي معهد دار السلام لأصحاب اليمين بنين، ومعهد أمهات المؤمنين لأصحاب اليمين بنات، وأشرف على بناء هذين المعهدين معاونه الوفي ومسانده المخلص الشيخ أحمد موسى شنقب رحمه الله، ثم بعد ذلك بنى معهد الإرشاد الإبتدائي لأصحاب اليمين بنين، وأسس مكتبة إطلاع عامة بالقرب من جامع كرن حملت اسم مكتبة الإرشاد الإسلامي العامة، وزودها ببعض المراجع الإسلامية المتوفرة، وسعى إلى حصول اعتراف ومعادلة لهذه المعاهد من وزارة المعارف الإثيوبية، كما تمكن من معادلتها بوزارة المعارف السعودية، ومعاهد الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض.
محنة في طريق الدعوة.
أدخل مناهج الدعوة السلفية في كرن، وطبقها في معاهده، وتعرض في عام 1970 م من جراء ذلك لفتنة كبيرة استهدفته في حياته ودعوته، اتهم فيها بإفساد عقائد المسلمين، بنشر الوهابية، والإتيان بأموال من الخارج بطرق غير شرعية، وصرفها في أمور مجهولة، ورشق الغوغاء معاهد أصحاب اليمين بالأحجار، وقادوا مظاهرات ضد نهجها السلفي، بحجة مقاومة الوهابية، وحجرت الدولة على ممتلكات المؤسسة، ووضعت الوالد قيد المساءلة والتحقيق، وترافع عن الوالد أمام المحاكم الإثيوبية السيد محمد عمر قاضي رحمه الله، مطالبا باجتماع العلماء والنظر في هذه الكتب، وإصدار حكم الإسلام فيها، واجتمع فعلا بطلب من الحاكم العام بأسمرا إثنا عشر عالما من علماء إرتريا وقضاتها برآسة القاضي عثمان صالح عمر، قاضي أسمرا والحماسين، لإصدار حكم الإسلام في الكتب المتهمة، ومن أتى بها، وصدر من هؤلاء العلماء قرار في عام 1974 م يحمل توقيعاتهم، يقضي ببراءة الوالد رحمه الله والكتب التي جلبها من تهمة إفساد عقائد المسلمين، عدا ثلاثة أنفار من هؤلاء العلماء امتنعوا عن إبداء الرأي في الكتب، كما صدر قرار آخر من مكتب المدعى العام (بيني أسفها) في العام نفسه، تحت رقم 40/69443/66 يقضي ببراءة الوالد من تهمة جلب الأموال بطرق غير شرعية، وصرفها في ما هو مخالف للقانون.
ووقف معه في هذه المحنة ساعده الأيمن في الدعوة الشيخ محمد آدم إدريس حفظه الله ورعاه، ورجال آخرون أفاضل، شُمَُ الأنوف من الطراز الأول، من وجهاء القبائل وأعيانها من أهل كرن، يدافعون عنه ويناصرونه، حيث تشكلت لجنة أهلية للدفاع عنه أمام الجهات المسؤولة من كل من السيد محمد علي عبد الله باناي، والسيد محمد سعيد فكي علي، والسيد إدريس رادآي، والكولونيل المتقاعد السيد محمد علي عمر قرقوش، والسيد محمد عثمان محمد إدريس، والسيد الناظر حامد سعيد، والسيد محمد علي عمر شيخ، والسيد أبو آمنة محمد باره، والسيد محمد إبراهيم باشاي، والسيد عمر مسلم، رحمهم الله جميعا، فقد انتقل جميع هؤلاء ما عدا السيد عمر مسلم إلى الدار الآخرة.
بجانب هؤلاء الأعضاء في اللجنة لقي دعما ومساندة من كل من الشيخ محمود موسى شنقب رحمه الله، والسيد حسين كافل رحمه الله، والشيخ الأمين بن الشيخ محمد، بن الشيخ عامر رحمه الله، حيث أبى الاستنفار باسم محاربة الوهابية، والناظر السيد حامد عبد الكريم، ناظر الأسفدا بالساحل، وكذلك ناظر الأساورتا بالساحل الشيخ عثمان سليمان حفظه الله.
منحة بعد محنة.
كانت هذه المحنة بالنسبة لمؤسسة أصحاب اليمين بمثابة منحة ربانية، إذ حققت المؤسسة انتصارا دعويا، أدى إلى تحقيق مزيد من التوسع والانتشار في القرى والمدن القريبة من كرن، عدردي، حقات، حلل، مناطق الماريا….الخ، يشرف عليها الشيخ محمد آدم إدريس، الرجل الذي صبر وصمد في وجه كل التحديات، وما زال حتى هذه اللحظة، يقوم بواجب الدعوة إلى الله، وانضم إلي المؤسسة مثقفون مستنيرون من المجتمع، منهم الأستاذ حامد عثمان، حفيد الشيخ عامر، والاستاذ حسنين عافه رحمه الله، وبلغ عدد الطلاب والموظفين فيها ألفين وخمسمائة وستين طالبا وطالبة، وتسعة وخمسين موظفا وموظفة حسب تقرير عام 1403 ـ 1404 هـ. وأصبحت دعوة أصحاب اليمين محل قبول وترحاب من المجتمع، وانحصرت الخرافة في كرن في أضيق الطرق، وامتد نطاق التدين الصحيح، والممارسة الواعية لمفاهيمه السليمة.
في عام 1976 م تعذر عليه دخول إرتريا لكثرة الوشايات والملاحقات الأمنية بالرغم من صدور قرار براءته مما اتهم به، الأمر الذي حمله على الاستقرار في كسلا، ومواصلة نشاطه بين اللاجئين الإرتريين، دون الانقطاع عن نشاط الداخل.
في عام 1977 م تحررت مدينة كرن على يد الجبهة الشعبية، وزار إسياس أفورقي الرئيس الإرترى الحالي مدينة جدة وكان وقتها الأمين العام المساعد فقابله الوالد عن طريق محمد علي الأمين ممثل الجبهة الشعبية بالكويت وقتها، وطلب منه تسهيل أمر نشاطه الدعوي في مدينة كرن، فأبدى له الاستعداد في التعاون ما دام لا يتدخل في السياسة، وكان يريد منه الوالد السماح له بإدخال المعونات العينية والغذائية التي تحصل عليها من المحسنين بالمدينة المنورة، مصحوبة بمصاحف قرآنية، من أوقاف المدينة المنورة.
في عام 1980م جلب مقررات دراسية من المملكة العربية السعودية إلى السودان للإستفادة منها في المعاهد والمدارس القرآنية بمعسكرات المهاجرين الإرتريين، وجرى توزيعها على الجميع.
الوالد وثمار عمله الدعوي.
أول إنجاز دعوي حققه الوالد رحمه الله وتقبل منه هو تعليم أبناء الكوناما الذين استقدمهم إلى كرن وعادوا إلى قومهم وهم يحسنون قراءة القرآن، ومنهم من واصل تعليمه في السودان، وفي الدول العربية، ومنهم من استشهد في الثورة، وظل نفر من هؤلاء الأبناء يترددون إليه في منزله بكسلا، ويتفقدون أحواله الصحية، ويتفاكرون معه في مستقبل الدعوة الإسلامية بمناطقهم، وقد جاء بعضهم للعزاء عندما سمعوا بوفاته بارك الله فيهم جميعا.
ثم كان الإنجاز الثاني وهو إرسال البعثات التعليمية إلى المملكة العربية السعودية من شتى أبناء المسلمين الإرتريين، وقد آتت هذه البعثات ثمارها، حيث تخرج عدد كبير من هؤلاء المبتعثين في مختلف التخصصات الشرعية وغير الشرعية، صيادلة، تربويون، تخصص الحاسوب، علوم، ومنهم اليوم محاضرون في جامعات، ومعلمون في مدارس، ومعمليون في المستشفيات، ومحاسبون في مؤسسات، ودعاة في الميدان الدعوي في السودان، واليمن بين أبناء العفر، وداخل إرتريا، وساسة ينشطون في المجال الوطني، ومن هؤلاء الذين ابتعثهم الوالد رحمه الله السيد محمد طاهر شنقب رئيس المؤتمر الشعبي، ومسؤول التوجيه الجماهيري في التحالف الديمقراطي الإرتري، ضمن بعثة طلابية درست في جامعة الإمام محمد بن سعود، ومازالت مؤسسته التعليمية مؤسسة أصحاب اليمين تقوم بنشاطها التعليمي في كرن يقوم عليها خريجون من أبنائها الذين ابتعثتهم وعادوا إليها ليقوموا برسالة الدعوة.
وبالقدر نفسه من الاهتمام بالذكور في المجال التعليمي اهتم بالبنات إذ سعى إلى توفير المنح الدراسية للفتيات واستطاع بتوفيق الله الحصول على عشرين منحة دراسية من رآسة تعليم البنات بالمملكة العربية السعودية، بموافقة رئيس تعليم البنات الشيخ محمد بن ناصر رحمه الله.
وقد اتصل مبتعثوا أصحاب اليمين معزين ومترحمين على شيخهم، كل من موقع وجوده، ومكان عمله، فجزاهم الله خيرا، ونفع بهم الإسلام والمسلمين، ونفع الوالد بما أسلف في الأيام الخالية، وبما يقوم به اليوم هؤلاء المبتعثون الخريجون من عمل خيري، من غير أن ينقص من أجورهم شيئ.
وفاته والصلاة عليه.
لكل أجل كتاب، ولن تموت نفس إلا بعد أن تستوفي رزقها وأجلها، لقد تخطاه الموت في عام 1973 م إلى غيره يوم انفجر لغم على الحافلة التي كانت تقله من أسمرا إلى صنعفي، فأخذ اللغم أرواح من كانوا في المقاعد الأمامية منها، ولأن في أجله كان بقية، لم يجد حجزا إلا في المقاعد الخلفية، فركب في الوراء على خلاف عادته، وهكذا لم يمس يومها بضرر، وشاء الله أن يقبضه إليه الآن وهو على سريره في منزله بكسلا، بمرض أصابه في بطنه ولم يمهله طويلا، إضافة إلى ما كان يعانيه من ضغط الدم، ومشكلات البروستات، والروماتزم، والسكر، فأسلم روحه إلى باريها يوم الأربعاء ليلة الخميس 14/محرم/1426 هـ الموافق 23/2/2005 م بعد صلاة المغرب، في حدود الثامنة مساء بتوقيت كسلا ـ السودان.
وبهذا أحسبه من أهل الشهادة إذ عد النبي صلى الله عليه وسلم ضمن الشهداء ـ كما في الحديث الصحيح ـ من مات بداء البطن، تقبله الله عنده مع الصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وجعله من أصحاب اليمين، كما سمى مؤسسته بذلك تيمنا.
كان آخر ما طلبه مني هو سماع القرآن، إذ قال لي بعد أن أدخلناه منزلنا، خارجين به من مستشفى الشرطة وهو على السرير في حجرته بالبيت: أسمعني القرآن، فأخذت أتلو عليه من المصحف ما فتح الله علي، ثم ركبت شريطا على المسجل، وكان آخر ما نطق كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وكلما اشتد عليه الألم ما زاد على قوله: يا الله، اللهم إنك تعلم ضعفي، وقلة حيلتي، إنا لله وإنا إليه راجعون.
غسلته بيدي، وكفنته بيدي، وصليت عليه إماما، ومن ورائي المجاهدون من شباب الحركة الإسلامية، وطلاب القرآن الكريم، ورواد المساجد من أهل الحي، ووضعته في لحد قبره بيدي، وحضر وفاته كل أبنائه، وكل أشقائه، وكل أحفاده، وشارك في دفنه جمع كبير من أحبائه، والمناصرين لدعوته، والمقدرين لجهده، تقبله الله عنده في العليين، وجمعنا به في جنة الفردوس على سرر متقابلين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. اللهم أمين.
شكر وتقدير.
والشكر موصول لكل من عزا هاتفيا، أو حضوريا، أو عبر البريد الإلكتروني، أو على صفحات المواقع الإرترية، أو دعا للفقيد في ظهر الغيب، تقبل الله من الجميع تعازيهم، وأثابهم عليها، وغفر لموتاهم وموتانا، ولكل موتى المسلمين الذين سبقونا بالإيمان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه/ ابنه الدكتور جلال الدين محمد صالح
لندن
19/3/2005
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=8823
أحدث النعليقات