فى حيّنــا فــــدائى – الجزء الثالث

قـصًة فدائى من جبهـة التحرير الإرترية

يحكيهـا: عبد الفتـاح ود الخليفة

بورتنالمملكة المتحدة

الجزء الثالث

تصميم الصورة عبد الرحيم الشاعر

البحث عن ظروف الطلقـات التى أطـلقـهـنّ الفدائى

رأينا فى الحلقة المــاضية، أنًنــا أروينــا شهوة الاستطلاع  الًتى كــادت أن تتفجر داخلنــا، وبمتابعة القصًة وصلنــا إلى أنً الفدائي ألقي القبض عليه وأنه كــان محجوزًا فى سجن (الكــارشلى) للتحقيق معه، ولكنًى فى مشوار العودة إلى البيت فى ذالك اليوم مع ضوء الشمس الجميل رأيت شيئا ذهــبيا يلمع، وكــان ذاك الشيء اللمــاع طلقة نــارية أو بالأحرى ظرف طلقة نــارية (وصرخت فى الشلًة، (طلقة نــاى لا جبهتى ركبكو) أى وجدتهــا، وجدتهــا، مع أنّ الحىّ وجبل (إيتعبّر) مشهوران بوجود آثــار الحروب، وحتى النوع الخـاص بقتل الكلاب. أمّا البيوت فهي مليئة أيضًا بظروف القنــابل الإيطــالية والإنجليزية وهي من مخلّفــات الحرب الكونية الثــانية، ويستعملنهــا الأمّهــات لطحن البنْ. وفى “حوشنــا” الكبير أكثر من قنبلة، وكلّ واحدة مرتبطة بحدث، وكلّ حدث بأمسية كــاملة، تحكيه الحبوبة، وأنــا أصغي كالمذهول من شدّة الإنجذاب لحكاوي الحروب، ومــا أدراك مــا حروب.

وجدت طلقة الفدائي، وتجمًع الأطفــال حولى وكأنهم لم يرو ظرف طلقة قط فى حيــاتهم، الكلْ ينظر ويتفحًص ويعيدهــا إلىً، وكــأنًه يتبرًك. ونحن فى هذا الحــال خطرت إلى ذهــني فكرة وهــى: أنً الأصوات التى سمعنــاهــا كانت لأكثر من طلقة واحدة، وإذا كــان الأمر كذالك فأين بــاقى الطًلقــات؟؟؟؟

كــان هــذا تحدي شخصي لي مثل كثير من أشيــاء أخرى لهــا علاقة بعملية فدائية، أو جنود إستشهـدو، وأجسادهم الطًاهرة معلقة فى جزع شجرة أومفروشة على الأرض بدعوى أن يتًعظ منهــا البقية. وليتهــم مــا فعلوا، فرد الفعل الذي ترتب على تلك السياسة كــان عكس مــا رجوه، كـان حِممـًا وبركــانــا انفجر عليهــم وهــم جلوس، فتبعثرو أشلاء فى باطن الأرض وظــاهرهــا.

ولأنًي من حيث أدري ولا أدري يستهوينى كلً شيء يتعلّق بالجبهة  كنت مشهورا بحكى كلّ شيء رأيته فى الرًيف، كلً جبهتى أراه  كنت أتمنّى أن أكون مثله.

بدأت مشوار البحث عن الطلقـات الأولى التى فى يدى وجدتهــا فى الطريق المؤدي إلى منزل (عد محى الدين) وبين عد أقدوبـاي وأمـام آل يـاقوت، وأخرى عند ركن آل (بـابندر) (وأزيـما كـالآيت ركبكو) ” الآن أيضًا وجدت أخرى”… وهذا الركن العجيب دائما له علاقة خــاصة مع الفدائيين لأحداث أرتبطت به، وفى هـذا الزقاق وأنـا أبحث وجدت أخرى ثـالثة (وأزيمـا حتًى) ( والآن وجدت طلقة أخرى). البعض أصيب بذهـول والبعض منهمك بالبحث معي، فى نفس الزقـاق مـا بين منزل (عـافة بكتْ وآل شوم محمد حـامد – عد كوليرى)،  ثمّ وجدت أخريتين (وأزى هـى رأو كلإى ركبكو). وهكذا أصبح لدي ظروف خمسة طلقـات بالتمـام والكمـال، وكلً من سأل ليأخذ واحدة لا سبيل لذلك… لا أدري لمـاذا ؟! ولكن فرحتي كـانت كبيرة، وكأنًنى ملكت الدنيـا. كلً مرة يسألنى أحدهـم (إسكى، إسكى حتّي مرًت نرأيًن) (أتركنى ولو مرّة ألقي عليهــنّ نظرة).

مرًة أعطي ومرًة أمنع، وكأنى أقول لهـؤلاء هذه بقايا الطلقات ملكي وحدي لا يشــاركنى عليهنّ أحد، ولكن يتدخل أخونــا الكبير(إ. حيلا) ويطلب منّى أن أسمح لهــم برؤية تلك الطلقــات العجيبــات، (وكــأنى أصبحت مسؤول جهــاز تسليح حتى إشعــار آخر).

تلك الطلقـات كـانت تمثًل شيئًا مـا لدى، لكنًى لم أفهـمه، رمزية لم أستطع التعبير عنهـا،  أقول أحيـانا، إنًهـا شقـاوة الطفولة فقط لا غير!!!! يــا ليتني فهمتُ أنّ تلك الطلقــات التي فى يدىّ مثل أخواتهـنّ  أرحنــا الشعب والثورة من عميل طــارد أشراف إرتريــا مثل السّنجك (الضّابط الأنجلو_سودانى) أو ربّمــا هــنّ  بقــايا من طلقــات عواتى التي تساوي كل واحدة منهنّ تســاوى وزنهــا ذهــبا، لأنهــا  أسكتت ظــالمــا أو نحرت جــائرا، أو قتلت معتديــا، إن كــان من بنى جلدتنــا، أوجــاء (من جمّا أبا جفّار) فالأمر سيــان، ليتنى عرفتُ أنً تلكم الطلقــات لامسن يدي الأبطــال الأوفيــاء ( عواتى، بيرق، كبوب) .

وبعد عقد من الزمان أتيت إلى مدينة القضــارف السودانية لاجئا، شـاهدت كلّ (الحيشان) الّتى وطأتهــا أقدام الآبــاء المؤسّسين، وفى ذاك الدار معسكر الإنطلاقة الأولى (منزل الحــاج محمد علي (ولّع) والشيخ إبراهيم عبي) وتشرفت بلقــاء جندى مجهول من جنود إرتريــا البواسل، العم (صالح قلاتى) أبو محمود، رحمه الله؛ كنت أجـالس هذا العملاق يوميًا،  ليحكي على مسامعي البدايــات في عام 1947 وتأسيس الرابطة الإسلامية فى كرن، هو يحكي وأنا أستمع مشدوهًا، يحكي ويحكي  ويحكي عن أسباب الخروج من كرن بنبرة فيهــا بحّة، ولوعة وحنين إلى أزقّة وحوارى (عد حبــاب) فى كرن مسقط رأسه، كلّ يوم ولنــا مع عمّى صـالح قصّة من ذاك المكتب العتيق، وفى نفس الحوش الذى شهد بدايــات الثورة، ويقف أحيــانــا عند محطّات مثل زيــارة المناضل محمد على عمرو، والرئيس الحالى إسياس أفورقي والمرحوم المؤسس المناضل محمد عمر أبو طيّارة عــام 1968 واللقاء مع عضوية الجبهة، وفى نفس الحوش( البداية)  ومن نفس المكتب العتيق فى (القطّية) قبضو المصروف، ورســالة التوجيه إلى المعنيين فى مدينة (دوكة) وانصرفو.

ويشير المنــاضل (قلاتى) إلى (إشلاق الجيش) المعسكر الذى لا يبعد عن هذا الحوش التأريخ إلا بأمتــار، ويقول يــا بني يــا عبدو هــنا كــانت البداية!!!!!!

وحينهــا قلت فى نفسى أو ربّمــا من هــنا خرجن تلك الطّلقــات!!!   من هذا المعسكر، كيف هرّبْن من هذا المعسكر الحصين(أرطة العرب الشرقية)، فى وقت كــان فيه كبير السودان (الجنرال عبّود) غصّة فى حلق الشرفاء الأحرار (سودانين وإرتريــن)، ويــا له من كفــاح وجهــاد وخـاصًة فى البدايــات!!! كيف دبًر ووفًر العم المقــاتل الشجــاع (طــاهر ســالم ) ومعه (عمر دامر، ومحمدعلى أبو رجيلة، وعثمــان أبو شنب، ومحمًد عمر أبو طيًارة، وإبراهيم بهدوراى ، ومحمّد إدريس حــاج  وعمر إزاز،  تلك الطلقــات ومــا تبعهــا من ذخــائر ومن يكون ذالك الحرّ الأبي العسكري السوداني  الّذى ســاهم وســاعد فى توفير الطلقــات و صنع الثورة، وشهد على العهد الذى قطعه أحرار إرتريــا على أنفسهــم  وســطًرو تأريخا جديدا فى أرض الجدود بدمــائهم ولســان حــالهم يقول:-

( وطن الجدود نفديك بالأرواح نجود).

ربًمــا جلبهنّ السيــاسى المقــاتل  طــاهر ســالم من ذاك المعسكر فى الجبل (أورطة العرب الشرقية) إلى كرن وهــو يؤسس خلايـا الحمم والــنًار الجبهجية فى كرن، وعند أيٍّ من الشرفــاء تركهنً أمــانة على الرّقــاب ( عند  أحمد دافر، أم على محمد صـالح ، أم حمًد ضرار أم يوسف كشواى أم حــامد طنبــار) أتركهنً تحسبا للعواقب، لأنه ربًمــا لن يعود إلى كرن ثــانية؟؟؟

وحقًا لم يعد أبو الشهداء( طــاهر ســالم) بل لحق بعواتى، وأحمد وللو،ومحمد إدريس حــاج إلى جنّات الخلد فى سجلّ الخــالدين.

تلك الطلقــات ربّمــا جلبهنً المنــاضل أحمد شيخ فرس من عدن، أم من( جبال لحج) أم من (المهرة) (فكّ الله أسره) أم المنــاضل آدم ملكين، أم صــالح إيــاي، الأمر سيًان والنتيجة واحدة!!!!

طلقــات من مسدس بسيط هزّت مدينة، ونزعت من قلوب الخونة والمــارقين السكينة…. كم من طلقة أطلق الجبهتى لا أدري ولكنّي وجدت خمسٍ فقط، ولإشباع هـواية طفل تملًكه حبّ الاستطلاع قمت بجمعهنّ، فقط للتمنظر، وبلا فكرة، ليتنى كنت أستطيع الإحتفــاظ بهنّ فقط لأقول لهيئة المتاحف الإرترية فى أسمرا بكلّ خشوع وأدب:

عشتم وعــاشت حكومتنــا الرّشيدة

هذه طلقــات من طلقــات البداية

هل من مكــان لهنّ فى متحف الوصاية

إن أحببتم فبجــانب البندقية البداية

بندقية (ودفــايدوم)، وإن أنكرتم بجــانب سيفه الكنــاية

وإن ضــاق المكــان، لا حرج

الموضوع برمّته تــأريخ، وقصة وطن، وتضحيات أبطــال

ليس نكــاية بأحد ولا وشــاية

فقط لئلا نعيد القصّة من البداية للنهـاية!

ولم يمرٌ علينـا زمن طويل وانتشر الخبر فى الحي كالنًار فى الهشيم (عبده طلق نـايلا جبهتى ركبـا) ( ومثلو طـابطو هلا) !!!!! أى عبدو وجد ظروف الطلق النًارية التي أطلقهنّ الجبهـتى، وهو يحملهنّ معه الآن.

وأعلنت حـالة طوارئ في الحي من الأمهـات، وأرسلت الوفود إلى منزلنـا للتفـاوض والمشـاورة، (أقيد لكفن بولو) بسرعة يجب أن يتخلّص منهـنّ!! تقول واحدة من الخـالات. والأخرى تحذر الأطفـال من الخوض فى الموضوع (حتى أيريئكم وإى سمعكم) لم ترو ولم تسمعو شيئًا (آه آه أزيمـا إلا) تقول الحبوبة  (لمــاذا يــا هذا).

لم أبــالي بمــا سمعت من كلام وتهديدات الأمهــات، بل صمدت واحتفظت بمــا وجدت من طلق.

سأل أحد الأطفــال من أين أطلق الجبهتى الرًصاص وكيف تبعثرت الطّلق هـكذا، والبعض يقف مســافة ويقول: هكذا كــان يقف الجبهتى, والآخر يقول ظرف الطّلقة وجد هــنــا، إذن أطلق الرصـاص من هنــا !!!! والآخر يمثل الشرطة ويتحدث التقرنية، وبعفوية أصبحت لدينــا تمثيلية، بلا مخرج ولا نص مكتوب.

وأنــا أرتدى رداء قصير بحمّالات وزّعتُ الطلق فى الجيبينّ, وأتفحصهنً كلً دقيقة وثــانية، ويدي على الجيب، وجدت الوالدة فى حــالة خوف وهــلع، والجدًة اتخذت قرارهــا بإبلاغ الوالد بمــا حصل، ووجوب معــاقبتى، وجئن الخــالات والعمًات من منــازلهنً للتشــاور فى الموضوع، إنه قد حصلت الطًـامة الكبرى. والحبوبة (الحـاكم العــام) قــامت وقعدت، والحيـاة فى الدار شبه معطلة، وجعلوني أشعر وكأني ارتكبت جرمــا أو قتلت نفسا لا سمح الله والعمًة الكبرى تطلب (إ.حيلا) كبير الشلًة للتشـاور، وأنـا جــالس خــارج المنزل تحت شجرة (القنشب) التى على الركن الشمــالى من الدار يـأتي ( إ. حيلا) ليقول لى:

عبدو: ( قيس لكفن منك إتـــا قدم عد عــافــا بكت وتخــارج إقلكــا) (روح يــا عبدو وأرمى الطلق بالقرب من منزل آل عــافة وخلًص نفسك)

رديت: إقلمي مى هــلا، حدقونــا خلاص (لمــاذا؟ ومــا الذى حصل، أتركونى من فضلكم)

يقول (إ. حيلا) (أبوتــكا زمًتكــا، يمكن إندى حزوًن إيلا أقبلو تبلكًا هليت) الحبوبة تقول لك يـــا ويلك،  ربًمـــا تعود الشرطة للبحث عن الطلقــات.

قلت: (طلق مى لحزو منًو إى لحزًونى!!! لجبهتى لإقلو لحزو علو وطبطو مى هلا بعد؟) سوف لن يبحثو عن الطًلق، كــان هدفهم الجبهتى، وقبضو عليه، مــاذا بعد؟!!

ثمً مرً على الحىً (يبًا إيلوس) الًذى كــان يجلب المــاء فى الحىً مقــابل أجر، (صفيحتين من المــاء بـخمسة سنــاتيم إثيوبية). كنت أحبً هذا الرًجل حب سرمدي لا أدري لمــاذا، لأنه يتركنــا نمتطي صهوة الحمار الذي يبـاشر به عمله، أم لأنه يحكي لنــا ويستمع إلينــا، عكس الآبــاء الآخرين، لا يحكون ولا يستمعون… نفس منقبضة وجدية فى كلّ شيء، وعند وجودهــم فى الحي (بين الواحدة والثـالثة ظهرًا)، لا صوت يعلو على صوت الآبــاء، ولا لعب فى الشّارع، ولا تجمّعـات، لا أدري إن كــان سببه الإستعمــار المتعـــاقب على البلد، أم صعوبة الحيــاة، أم الكفــاح المرير لتوفير لقمة العيش، والأسر تمتدّ رأسيّا وأفقيّا والدخل هــو هــو، والأمهــات والأخوات بلا عمل يدرّ خُبزًا ولا أرزا إلاً من رحم ربّى.

يُطلّ هذا الرجل الطيب من الزاوية الًتى يأتى منهــا (البابور) و(الترينــا) من إتجــاه أسمرا، وهى إنحنــاءة الجبل فى تلك المنطقة، لا ترى شيئا بعدهــا بالرّغم من قصر المسافة من تلك الإنحنــاءة، يطلّ عمّي إيلوس، و مع سمــاعنــا لصوت الحمار وهــو ينهق وكأنه ينــادينــا !!! قفزة واحدة…. نكون قد عبرنـــا طريق السكة الحديدية لنستقبله…. (يبّا إيلوس مطعى…. يبّا إيلوس مطعى….) (عمى إيلوس وصل…عمى إيلوس وصل….

من حبّنا له فقط نقول له ( يبّا إيلوس عدْنـــا مــاى بلسو إقلنــا بيلوكم) الأهــل يطلبو منك أن تصبّ لنــا المــاء، لا مــاء لنــا)

وآخر يقول:  (فجر الخميستا عدنــا لبّاس أجُمعتنـــا إقل لحطبو إقلنــا لحزو هــلو مــاى لحزو هــلّوْ ( غدا هو الخميس يبًا إيلوس الأهل يريدون أن يغسلو لنــا ملابس الجمعة يريدون مــاءً (طبعــا للاستعداد لصلاة الجمعة)

يصبّ عمى إيلوس المــاء دون أن يُعلم الكبــار، وأحــيانا يحصل خطأ فى الحساب, ولكنّه طفيف,لا خلاف على سفــاسف الأمور فى ذاك الزمن الجميل، وأحيــانا كثيرة يصبّ عمى إيلوس المـاء ويذهب حــال سبيله دون أن يسأل النّقود وهو يقول:

(ووو عبده عد أسئلُ لوم أربع قروان بالســام هلينــا سلس قرّابيت  هلا ديبكم بلْوم أى (يــا عبدو بلّغ الاسرة أنني صببت أربعة صفـائح، وأنتم مطالبون بثلاثة قراريب)  (القرّاب 25 سنتم إثيوبى)

يسألنى هــذا الرجل الطّيب المحبوب من الحىّ كلّه بلا استثناء، مرًة بعفوية وبطيبة نــاس زمــان، وسؤال تقليدى! وكنتُ وأسرتى الصغيرة قد عدنــا لتوّنــا من الريف!!

” أهــا عبدوتــاى أقبلكم، مى رإيكم، وعدوتــات منّا مطعكم مى هــلا؟) (أهــا يــا عبدو هل عدتم؟ ومــا أخبــار الّذين أتيتم منهم؟)

و بلا تفكير قلت: جبهة رإينــا ديب (فــانــا) محمد عــافة رإينــا إب مسدسه وقنبلته، إنت تأمرّو) رأينــا الجبهة، رأينــا محمد عــافة بمسدسه وقنبلته، هــل تعرفه؟ فهمت السؤال فهــم مباشر على السليقة، ولا أستطيع أن أتمعّن المعــاني فى ذاك السّن من عمري، وصيغة السؤال مــألوفة بالتقرى، و المقصود هـو: كيف حــالكم، وكيف تركتم الأهــل؟ هذا مــا قصده العمّ الطيّب (يبّا إيلوس) ولكنى فى ذالكم زمــان من أين لى فهــم صيغ التورية فى لغة (التقرايت) ووقع الخبر كالصـاعقة على العمّ (يبّا إيلوس) وذهــلت الوالدة، والبعض حلّلْ وفسًر، وتدخلت الحبوبة (الحــاكم العــام) قــائلة: (هـقيــا أجنيت تو أب نسريت( كمــا تنــاديه هى) قــارو إيتودى جبهوتات إلّى أزى هــىّ ولاد تلهـيا أجنّيت قبأو، كرا عبدو إقل لرْأووم، قنحكا لجنا إلّى حســاي تو، حسّاي( أب نسريت)… هذا كلام عيال أب نسريت لا تهتمّ به، هل أصبح المنــاضلون لعب عيــال حتى يشــاهدونهم أمثــال عبدو!!!!!!

وصـال الخبر وجــال في الحى، وكـأنّه صنع له قدمان ليذهب وينتشر فى كلّ أنحاء وزواريب الحىّ، ويــا ليته (يبّا إيلوس) لم يسألنى ذاك السؤال المحرج لكان عفــانى من تلك الإجــابة (الزلزال) وبسببهـا مُنعت من زيــارة الأهل فى الريف، والصورة لذاك المنــاضل أبت أن  تمحى من الذّاكرة، لأنّهــا ارتبطت بحدث وهــو قرار منعي من السفر إلى الريف الحبيب، الذي أعشقه و”أتمرمق” فى ترابه و تعلّقت نفسى وروحى بالرّيف أكثر وأكثرولا زلت أحسّ بالظمــأ حتى لو شربت من أنقى ينــابيع الأرض، لأنى فطمت بمــاء (حشفيراى) فى ذاك الرّيف الجميل الصّامد. أمّا الجبهتى والّذى بسببه منعت من السفر إلى الرّيف قــابلته فى سوق هيكوته فى كسلا بعد عقدٍ من الزمن، بنفس شموخه وعزّته وكبريــائه، ولكنّه مجروحــا جُرحــا عميقــا وأصيب بكسر فى يده اليمنى فى معركة بطولية عــام 1968 فى حقّــات.

أعود بكم للطلق التى معى…..

من مسافة شــاهدت الحبوبة والوالدة يتهــامسن مع يبّا إيلوس والحوار أولى أجندته ظرف الطّلقــات التي فى حوزتى، وفهمت من إيمـاءاتهم أنهم يضعون خطّة تجعلنى أستسلم وأنفذ طلبهــم لأعيد الطّلق الى حيث وجدتها!!

عدلت من الجلوس وإنتصبتُ واقفـا تحسًبا لأى طـارئ. اتّجه يبّا إيلوس إلىّ ولا زالت يداه مبلّلتان بالمــاء فى إحدى يديه الخشبة التى يهشّ بهــا الحمار، والأخرى يقبض بهــا على الصفيحة أم خشب لتسهّل عليه الحمل وهى مليئة بالمـاء، وخفت ألا يؤثر علىّ عمي إيلوس لأنى أحبه كبقية الأطفــال أو أكثر وبسرعة أخفيت الطّلق تحت الشجر.

نــادى يبّا إيلوس: ( يبّا عبدوتــاى يبّا نعــا نتقــامى) … عبدوتـــاى تعــال نتشــاور

قلتُ: ميتو يبًا إيلوس(مـاذا يــا عمى إيلوس)

قــال :إنتا عبدوتاى أبوك فتّيو؟ (يا عبدو هل تحب أبوك ) قلت: أيوا (نعم)

قــال: (يبّا إيتقلل إلى إتــا إديكــا لهلا حكومة من تأمّر إبو أبوكا سجنو منك سنى تركب إنت حرى أبوك من لسجّن) .. لا تكن غبيّا، لو أن الحكومة عرفت بمــا فى يدك، فسوف تسجن والدك، هل تريد أن يسجن أبــاك؟؟

قلت لا لأ ….

قــال: (هــباتن منكــا إقل نلكفن) سلمنى إيــاهن لنرمى بهن بعيدا.

قلت: (حتى ألبو مسلى أنــا بدير لكفكوّن) …ليس معى شيئًا، لقد رميت كل مــا كــان معى)

إب أمــان ؟ (صدقًا) يقول عمى إيلوس.

قلت:إب أمــان تو ( نعم بصدق) ونفضت له جيوبى كلّهــا  حتّى اطمأن. وإقترب مني كل من الوالدة والحبوبة وهى ملتفحة ثوبهــا البنغــالى العتيق أبيض الّون غــالبا تشتريه من نســاء البرشوت اللاتى يـأتين به من كسلا تهريبا!!!!

قـالت الحبوبة: (يبّا إيتنأش إلى أورو أبوك من بنا إمبليه إقل تأسجنً منينا تحزى هليكــا)..  (أعقل حبيبنا والدك هو عمــاد بيتنــا أتريد أن يسجن)

(إلّى سمو إيسمو لكفو منكا أنــا سولدى نؤوش هيبكــا، تعريفة أو خمسة سنتم). تقول الحبوبة أرمي “المــايسمّاش” الموجود فى يدك وأنــا أعطيك(سولدى نؤوش) وهى تقصد تعطينى خمسة سنتم إثيوبى ولكنّهــا الحبوبة الزمن عندهــا توقّف من أيــام الإنجليز والطليــان. وقيل لى (السولدى نؤوش) هى عملة نقدية حديدية مدورة ومثقوبة فى الوسط، الحبوبة العجيبة كـانت أحيـانا كثيرة (تستعمل كلئى فرنكت، وسلس فرنكت) للعشرين والثلاثين سنتم إثيوبى تلخبطنى ولا نتفاهم أنــا وهى بسهولة (صراع أجيــال).

تواصل الجدّة فى الحديث: (وحر هى يبّا لا حــافتنـا (الحى) كم بديرا إيهليتنى أتلى قوارى كورويام لهلو إينأمرومنى)… تقول الحبوبة: والحـارة ليست كمــا كـانت من قبل والمؤجرون الجدد هـؤلاء  لا نعرفهم.

نعم كــان رجل غريب من (واسدنمبا) وزوجته وكــان له بنت وولد فى عمرنــا أجّر غرفة عند الجيران، يختفى أحيانـا لأيــام وأسابيع وكــان يقول أنه يعمل فى مشروع دنداى فى عيلا برعد، ومرًة سـأله صاحب الدار لمــاذا لا تسكن فى عيلا برعد إذن  إن كــان عملك فى عيلا برعد؟؟ وعد الرّجل بالرّحيل ولكنّه لم يفعل؟؟؟ ولكن توسيع مسجد الخليفة جعفر فى الحىّ وبنــاء غرف إضافية لتأسيس (معهد أصحاب  اليمين) بفضل الشيخ محمّد صـالح الحــاج حــامد (المرشد) رحمه الله (والد الدكتور جلال الدين). رحل الرّجل لأن الغرفة أصبحت لا تليق للسّكن، فرحل آخذا معه زوجته وإبنه قرى مسقل وابنته رشــان وهم يبكون، ولم يودعه أحد لأنه كــان غريبا فى الحىّ.

قيل لى أن الحىّ كان معسكر من معسكرات  الرّابطة الأسلامية وفيه شيوخ فوق التسعين كــانو أسـاسيين فى حزب الرابطة الأسلامية، ولكن لكلّ قاعدة شواذ، حيث كــان أحد الأعمــام من مؤيدى حزب الإنضمــام إلى إثيوبيــا (الأندنت) رغم أنه من دمنــا ولحمنــا كما يقول العوام،  وتلكم قصّة لهــا شجون. هذه الخاصية كــانت تؤرّق الحي، وتركتهم لا يتحدثون عن شئون الثورة بصوت عالِ، وهذه الطلق التى معى لهــا صلة بالموضوع وتلك كــانت واحدة من الأسباب الّتى أرّقت الأهل والأقــارب في الحىّ.

صديق طفولتى (م.سمرا) كــان الوحيد الّذى يعرف أنّ الطّلق لا زالت فى حوزتى، بعد التلميحـات إيــاهــا من الحبوبة بدأ الخوف يدبّ فى داخلى، وتخيّلت والدى وهو مكبل بالسلاسل مثل جــارى وعمّى  إسمــاعيل محمود سليمــان لمحته وسط الجوقة ومعه مــا لا يقلّ عن خمسين شـابّا كلّهم أيديهم مكبّلة بالكلبشــات، وأرجلهم مقيدة بسلاسل، يتحرّكون ببطئ، خط سير طويل  بدأ من (الكارشيلى) وآخره وصل إلى  بيـاسا (موقف البصّات) وعبر روشــان ريبا مرورا بسوق الدجــاج وشــارع (محــاز) وسوق عطى القديم(سوق الحطب القديم) إلى دقــانــا السجن الكبير والأوغــاد يحرسونهم يمينــا وشمــالا( كــانت عملية نقل للسجنــاء السياسيين, من مكتب,التحرّيــات, إلى السجن الكبير.وتلك كــانت مسرحية مقصودة,وكأنّهم كــانو يريدون أن يقولو إنتبه أيّهــا الشباب, لا تتجرّأو أكثر من هذا على (هيلى قمــّام) وإلا مصيركم,سوف يكون هكذا……

بعد صلات المغرب وبعد العودة من المسجد، كالعــادة يجب أن أَؤوى الدواجن إلى الأكواخ، وأنــا أطــارد واحدة من العـاصيات الّتى أبت دخول الكوخ، خطرت إلى ذهنى فكرة لمــاذا لا أخبئ الأمــانة فى عش الدواجن وذاك أأمن وأسلم، تركت العــاصية، وإتجهت إلى الشجرةالمخزن وعدت ومعى الطلق ورميت بها فى جزء عميق من الكوخ ومعها الدجــاجة العــاصية، وأحكمتُ القفل كمــا نفعل كلّ يوم حتى نقى الدواجن شرّ النينى(كديس الخلا).

وأخبرت صديقي (م. سمرا) بالتغيير الذي حصل فى الخطّة ونمت في تلك الليلة مطمئنا.

وفى صبيحة اليوم الثــانى للعملية ونحن عــائدون من المدرسة يقول لى (أحمد شقير) أحمد محمود أمــان طه(إستشهد فى الميدان قــال أحمد: السوق محــاصر والجيش والبوليس أحضرو الفدائي فى( محطّة أجيب),وأخذو الصّور، ولا زالو هــناك وممنوع الإقتراب….. شلّ تفكيرى ودبً الخوف فى جسدى مــاذا يجب أن أفعل إن سـألو عن الطلق ,,,,

وتلكم قصّة أخرى

وأترككم فى رعـاية البــارئ حتى الحلقة القــادمة

للتواصل

Khulafa20@yahoo.com

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=3076

نشرت بواسطة في أبريل 18 2010 في صفحة التاريخية, المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010