في انتظار الغائب الذي لا يأتي

عبدالرحيم الشاعر.

الى خالد محمد علي … الانسان.

الانتظار..الوجع المتسرب الى دواخل المنتظرين.. العيش على الذكرى حتى استهلاكهما، نجمع اشياءنا القديمة ، نحاول استرجاع المواقف التي تخللت حياتنا معا .. صورنا كتاباتنا.. جلسات المقهى.. حلقات النقاش وذلك حتى نملأ الفراغ العاطفي الممتد بلا نهاية في دواخلنا. لكن كيف نملأ الفراغ الذي تركه فينا رفيق درب وصاحب يراع.

في انتظارنا واستهلاكنا للذاكرة المتورمة نذهب الى الأماكن التي مازلنا نسمع فيها وقع خطواتك يا صديقي. نطارد شبحك من صباحك الحزين الى صباحك المتفائل في اليوم التالي.. ها أنت تصحو من منامك.. تحاول التخلص من الغطاء اللعين الذي يلتف حولك كحبال العنكبوت.. تتحسس خطاك الى الحمام.. اللعنة السخان لا يعمل فليكن نصف حمام فليس هنالك من كمال في هذه الحياة الشقية.. تعود الى الغرفة.. تنزل بنطالك المعلق بطرف الباب تبحث في جيوبه عن ” بريزة” .. تخرج.. تقف عند طرف الشارع الكبير في انتظار البص الذي سيأخذك الى وسط البلد.. تأخذك الحركة السريعة والضجيج وأبواق العربات عن سرحانك وخيالاتك.. يقف البص العتيق ومكنته المعطوبة تسعل دخانا قاتما.. تهرول نحو باب البص.. تدفعك الاكتاف الضخمة الى الداخل.. يستقر بك المقام امام ” الكمساري” فتدفع بـ ” البريزة ” المبتلة بعرق راحتيك اليه.. وبحركة متمرسة يقطع التذكرة ويمدها اليك ثم يصيح بلهجة آمرة ” عدي يا باشا..” فتحاول السباحة في بحر من الاجساد المتلاطمة.. وعندما تجد ماسورة خالية تتقبض عليها وتستعيد توازنك وتبدأ في سرحانك وخيالك وتبدأ الرحلة من ” حمدايت ” الى ” كسلا ” الى ” بغداد ” الى ” القاهرة” .. سيناء.. شريط من الوجع المتواصل .. وقبل الاسترسال تسمع نفس اللهجة الحادة ذات الصوت الأجش تنادي ( النازل تحرير يا بهوات )، فتبدأ رحلة أخرى نحو طاقة يدخل منها قليل من الضوء وكثير من الهواء الملوث بالدخان تسمى باب البص.. تنزل الى الميدان الكبير الضاج بالحركة والبشر والأبواق.. تقطع الطريق نحو الجزء الآخر من الميدان.. تعبر الممر الضيق بين باعة الصحف والمجلات والأشرطة الغنائية.. ودخان بائعي الذرة.. يسرقك الفضول تتطلع الى المعروضات.. تواصل سيرك تقطع الميدان.. تسير في شارع يفدي بك الى ميدان آخر .. وأمام مكتبة ” مدبولي” تتوقف أمام الكم الهائل من المطبوعات المعروضة داخل وخارج المكتبة، تجلس على الرصيف امام الكتب المعروضة .. تقلب في عدد من مجلة أدبية .. تنظر الى الثمن تشيح عنها نا حية جريدة ” الحياة” يجذب نظرك عنوانا في صدرها ” القوات الارترية تغزو جزيرة حنيش ” تبتسم ثم تمضي.. تواصل سيرك تعبر نا حية المبنى العتيق لوزارة الأوقاف.. تقف عند التقاطع ثم تعبر الى الرصيف المقابل من شارع شريف عندها يدق قلبك بعنف .. دار الاتحاد على بضع خطوات لكنه يبدو على بعد ميل عليك.. تدخل الدار.. تتوجه نحو دفتر البريد يطالعك الدفتر القديم تتشابك بقع الزيت والقهوة والشاي وتمتد كخرائط كنتورية غير مفهومة.. تفتح والحلم يراودك.. أهناك رسالة من هيفاء.. رسالة من صديق.. من أمي .. من أبي.. الاجابة لاشيئ ، ترجع مكسور الخاطر.. تنزل الى المقهى .. مقهى اللامبالاة والآمال العريضة حيث الرواد من الذين سحقهم الزمن.. والسماسرة والمخبرين والقواد.. يأتيك صوت صديق يدعوك الى فنجان قهوة وانفاس سيجارة.. يليهما نقاش حاد حول ملكية حنيش ومواضيع أخرى..، تصفر الشمس في الأفق البعيد.. ترحل نحو المغيب تاركة ظلالا واشباحا لاتهدأ.. ومدينة لا تنام.. فتبدأ رحلة العودة الى من حيث أتيت، هذه المرة لا تملك ” بريزة ” ويمنعك الكبرياء عن السؤال.. اذاﱟ .. سيكون المشوار كداري .. يمنعك الضجيج من التفكير .. تقف برهة عند كوبري النيل تتخلص من أصوات أبواق العريات الذي ينزل كالمطارق على طبلة أذنيك.. وضباب دخان العربات السموم.. الذي يترسب على ياقة قميصك.. تواصل .. عند العشاء تصل مقصدك تقف عل باب مقهى آخر ونقاش آخر .. يتسرب الملل الى مسامك.. تعود أدراجك الى الغرفة الرطبة.. ترمي بنفسك الى السرير .. تجوش بداخلك ألوانا من الخواطر االمتباينة.. ترتطم بعظام قفصك الصدري وتحترق انفاسا ساخنة .. وتخرج دميعات ساحنة تنحدر نحو وسادتك التي فقدت شكلها المستطيل.. وفي ظلام الغرفة الرطبة تتقلب يمنة ويسارا.. تحاول جر قدميك اللتان انفلتتا خارج الغطاء القديم.. تتكوم في شكل همزة … تزفر آهة وراء آهة.. تمد يدك في مدارات الظلام تتحسس طريقها الى كأس به بقايا من قطران تسكبها في جوفك وتزفر آهة.. تتراقص أمامك صورة المعلم “وهدان” وشاربه الكث ودخان شيشته الضباب وهو يصرخ بوجهك ( متأخر ليه يا واه..)، تتحسس كتفيك وعلامات قدح المونة.. اذا لا بد من الذهاب الى سيناء غدا، فقد مللت جلسات المقاهي ، و لا بد من العمل حتى ولو كان في مجال البناء . تحاول طرد صورة وهدان من خيالك.. تصل الى مسامعك أصوات الباعة والخضرجية في ركن الشارع القصي.. تنصت تأخذك الأصوات قليلا عن وجع التذكر والتخيل والانتظار هنيهة ثم ما يلبث أن يعربد الوجع في دمك… تنتفخ شراينك تهتز.. تود الانفجار تتأوه تنقلب الى الناحية الأخرى .. تصل الى أنفك رائحة رماد السجائر النتنة من المنفضة الموضوعة على الطربيزة أمام السرير.. فتدير جسدك الناحية الأخرى. تبرز من عمق ظلام الغرفة صورة هيفاء.. ممشوقة القوام والطرحة الزرقاء تغطي جزءا من عنقها الجميل تدلى من أحدى يديها النحيلتين قفة الخضار.. تبتسم لك وأنت واقف عند ركن الشارع.. تتبدد الصورة الجميلة ويحل الظلام من جديد.. تصرخ الأعماق منك ( أين أنت يا هيفاء .. انتشليني من ضياعي وظلامي وفسقي وجنوني)، ربما هيفاء لم تسمعك أو ربما هيفاء في انتظار الغائب الذي لا يأتي .. ربما هيفاء في مصيدة الجاهز ذو الحقيبة السوداء الذي من هوايته جمع عيون العذارى.. أنت تعلم لن يحبها مثل حبك.. مسكينة ستجد من يوشوش في اذنها ( مكان البنت بيت زوجها )، .. تعتدل في رقدتك والبرد الزمهرير يشق طريقه الى مداخل الغطاء القديم.. تشعر بامتلاء مثانتك ورغبة في القيئ والتبول .. تقاومها.. وعندما يشتد وطئها تنزل من السرير حافيا تقطع البهو المظلم نحو الحمام.. تعود متثاقلا ، تقفز الى زهنك قضايا الوطن .. المناقشات.. تستحضرك صور الشهداء وتأريخا مليئا بالرعب والجوع والذل والموت.. وطنا طاردا لأهله ومعارضة معارضة لنفسها…وتفسيرات جديدة للديمقراطية والحرية .. يشتد النقاش يتورم رأسك التعب.. هل الحرية تعني الخيار بين يافطة باهتة وأخرى كاذبة .. وثالثة متاجرة.. ورابعة تقود عقلك الى التحنيط وجسدك الى المقصلة.. هل الحرية تعني الخيار بين النار والنار .. بين الجحيم وسقر.. هل الحرية تعني حدود جغرافية ونشيد وطني؟ .. تأئه أنت بين خارطة الخيارات المرسومة والحريات المقننة ، سيأتيك من ينبئك ان تمسك العصا من الوسط.. وجعلناكم أمة وسطا..وعفا الله عما سلف..سيسألك أن تأكل مع الآكلين وترقص مع الراقصين..كيف؟.. وانت ترى الوطن المحرر بعد الثلاثين يتحول الى فخذى امرأة عاهرة .. أهله تقتاتهم الملاريا والجراد وبواباته ترتع فيها سفن الأمريكان وابناء صهيون.. وانت الذي ركبت صهوة الكتابة وتمنطقت سنان القلم، ترى رفاق الأمس تحولو الى متملقو سلطة ولا عقو أحذية.. وكتاب مذكرات وأوراق صفراء أخرى.. فكيف لا تقرر الرحيل، اذ لا خيار سوى خيار الرحيل.. الى مدن أخرى دامية وحقول أخرى صفراء يمكنك فيها على ألأقل ان تختار الموت وقفا على الرصيف.. يمكنك أن تختار فيها على ألأقل الخيار بين وضع الجلوس أوالوقوف اثناء التبول . الرحيل دائما خيار اذا أمكنك عبور نقاط التفتيش وموظفو الجوازات.. فأرفع رايات نصرك فقد حررك الرحيل عن خزينا وعارنا وتركتنا للمخنثون وأشباه الرجال .. غارقون في بحيرة لزجة من الهزائم الدائمة.