قبائل الليوجيرقا وتأثيرات البيئة الرعوية في تعاطيها السياسي
في مقال لي سابق، نشرته قبل عام مضى تقريبا، بعنوان ( يا قبائل اللويوجيرقا اتحدوا ) شرحت المعنى المراد من مصطلح ( اللويوجيرقا ) وهو ( مجلس القبائل ) في لغة البشتون، ويطلق على البرلمان الأفغاني، واستعرت المصطلح حينها، قاصدا به قبائل البجة، تحديدا في غرب إرتريا، وساحليها الشمالي والشرقي، بزعاماتها ومجالسها القبلية، وما البجة إلا قبائل عديدة، تنطق بالتجرايت، والتبداويت، والبلينايت، والكنامايت، والباريايت، والعدنانايت ( العربية ) وتمثل كلها كيانا واحدا.
ما فعلت ذلك إلا أملا في بعثها واستنهاضها، نحو حراك سياسي، يفرض هيبتها، ويحمي مصالحها، لا لمجرد عصبية أشعر بها، وإنما لإيجاد نوع من التوازن المفقود في الساحة الإرترية، في مواجهة النظام الأكسومي المتفرد بالسلطة والسلطان في البلاد، من منطلق أنها الأكثر عددا، والأوسع نطاقا، وبإمكانها أن تكون مركز الاستقطاب والتجمع لكل الجماعات الإرترية المهمشة، من العفر، والساهو، والجبر، لو بادرت هي برفع اللواء، ولملمت الشتات، وتوجيه النداء، وتصدرت مسيرة التصدي والتحدي لنظام الفرد الأكسومي في أسمرا، متعاونة ومتحالفة في كل ذلك مع الأكسوميين الإرتريين، الوطنيين، الأحرار، الذين لا يمانعون من أن تكون السلطة حقا مشاعا بين الجميع، وليس حكرا على طرف دون آخر.
في هذا العام التفت النظام إلى قبائل اللويوجيرقا لفتة لفتت نظري، وأثارت تساؤلاتي، بعد أن أهملها لسنين طويلة، وتهكم من ثقافتها وكيانها الاجتماعي، إذ دعا أفورقي القيادات البجاوية، في شرق السودان: ناظر البني عامر، وناظر الهدندوى، وناظر الحلنقة، وناظر الأمرأر، الا أن الأخير اعتذر، إضافة إلى الرشايدة… لحضور الحفل الذي أقامه بمناسبة مرور خمس وعشرين 25 عاما على تحرير البلاد، وقد التقى بهم في مكتبه، محتفيا بوصولهم برا، من كسلا إلى أسمرا، عبر تسني، في موكب حكومي استقبلهم فيها.
بالتأكيد ما جاءت هذه الإلتفاتة عبثا، فإن وراء الأكمة ما وراءها، فلربما هي ابتسامة من ورائها مكر وخديعة، ومزيد تفتيت وتشقيق، أو مساعي توظيف لمآرب أخرى، وربما أنها غير بعيدة من أن تكون موصولة بمعالجات ردات هزة 21 فورتو التصحيحية، التي قادها الشهيد ( ولد علي ) أحد أبناء القبائل البجاوية، وأشاع النظام وقتها أنها من تدبير أبناء الساحل الإسلاميين، كما وصفهم لأغراض طائفية!.
على كل، أيا كان الهدف من وراء دعوته هذه، فإن قبائل اللويوجيرقا، بدأت تحظى بقدر من اهتمام النظام، أيا كان حجمه وهدفه، وغرضه، ومن المهم جدا أن تدرك هذه القبائل أن لا جدوى من وراء هذه المغازلة إلا تخديرها، من أن تغضب لكرامتها التي أهينت، ولهيبتها التي أذلت، ولحقوقها التي نهبت، ولثقافتها التي طمست، ولعقيدتها التي حوصرت، وعليها أن لا تعبأ بها، ولتعمل بجد في فرض ذاتها، واسترداد مجدها، لكن السؤال الوارد هنا: هل من سبيل إلى استنهاضها وتوجيهها نحو عمل بناء، يعود على المجتمع كله بالنفع العام، والاستقرار التام، والتنمية المستدامة؟.
نعم، هنالك أكثر من سبيل، وما ذلك بعزيز، لو فقه أبناؤها وقادتها منهجية استنهاضها، كما توحي به ثقافتها، ويقتضيه موروثها التاريخي، وتراثها السلطاني، وعزموا على المضي فيه، واستثمروا خصالها الإيجابية.
يقول المهتمون بتحليل تركيبتها الاجتماعية والثقافية: إنها قبائل رعوية، ولبيئتها الرعوية أثر في سلوكها السياسي، ويرتبون على هذا نتائج ومواقف تختلف من طرف لآخر، ففي حين ينظر بعضهم إلى ما تتميز به هذه القبائل من خصائص نظرة إيجابية، يخالفهم الرأي فريق آخر.
مهما كانت النتائج المترتبة على هاتين الرؤتين، فإن التطرق إلى هذه الخصائص غالبا ما يأتي عند المقارنة بينها وبين الأكسوميين في الأداء السياسي وتدافعاته، وانضباطاته، أو انفلاتاته، إذ يرون أنها تتسم من واقع بيئتها الرعوية باستصحاب البراءة الأصلية، مع طول البال، وقصر النظر، وانعدام الحذر لحظة الخطر، والتجرد من المكر والدهاء، والمدارات، والمداهنات، مع ما فيها من شجاعة، ومروءة، وكرم، وسخاء، نمَّته فيها وعمقته ثقافة بيئة رعوية، حيث الأرض منبسطة، معطاءة، الكل يرعى فيها، دون تضايق وتضاجر، والكل يتنفس فيها الهواء، دون أدنى مشقة وتكدير، والكل يسرح فيها ويمرح، كما يهوى ويرضى، وراء قطيع من الإبل، أو الغنم، أو البقر، أو جميعها معا، فيها الكرم، فيها الرحابة، فيها السعة، فيها الوفاء والنقاء، من الساحل بشطريه الشمالي والشرقي، إلى بركة، والغاش، وسيتيت، وسنحيت، السلطة فيها ليست مركزية قابضة بشدة، وضاغطة بعنف، وإنما رخوة، تتوزع بين الدجلل، والكنتيباي، والنايب، والشوم، والطاعة لها بالمعروف، وهو ما يجعلها على خلاف مع سكان الهضبة الأكسومية، في فهم السلطة والسلطان، وأحيانا على تصادم معهم مرة، وتسالم مرة أخرى، كما هو حادث الآن مع الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، ذات النهج الأكسومي في الحكم والإدارة، وهو نهج أفرزته بيئة مغايرة لبيئتها، تتسم بالتضايق والتزاحم على أرض وعرة، ومساحة محدودة، لا معنى للتسامح والتغافر فيها، السلطة قاهرة عليها وغالبة، والصرامة فيها هي الحاسمة، والخوف والحذر من غدر القريب والغريب هو السائد فيها والمهيمن.
مهما كان لهذا التحليل حظ ونصيب من الحقيقة الواقعية، ومهما كانت وجهات النظر بشأنه متوافقة، أو متباينة، فإنه محاولة لفهم الواقع الماثل أمامنا وتفسيره، وليس فيه ما يعيبه، لكن العيب متى وجد، فإنما هو في المواقف السلبية التي تُبنى عليه، وتُتخذُ بموجبه، نتيجة قصور في فهمه، أو عحز في توظيفه الإيجابي، بعقلانية واعية ومدركة لحقائق الأمور كما هي.
ينفر أناس من الناس من خصائص البيئة الرعوية، وثقافتها الموروثة في إدارة السلطة والسلطان، مستهجنين إياها، ويقنطون من استنهاض قبائلها للتحشد والتكتل، ولا يرون أي معنى لطرح سؤال في ذلك، ويجنحون نحو الرضا بالسلطة المركزية القاهرة، التي تمثلها الثقافة الأكسومية، إيمانا منهم بأنها الأضبط، والأصوب، والأحفظ لوحدة الوطن، والأحوط لسلامته من الإنزلاقات الخطيرة، ذات العواقب الوخيمة، ولهم ذلك، ما داموا لا يُكرهون الطرف الآخر على القبول بما يؤمنون به، ويجنحون إليه، من نفوذ السلطة المركزية، هذه، ويحملونه عليها قهرا، متجاوزين بذلك تراث بيئته الرعوية، ونمطها الثقافي، وتاريخها السياسي، ونهجها في تداول السلطة، وإرادته في الإنحياز إليها.
كلنا يذكر مقولة أفورقي في أحد لقاءاته التلفزيونية، مخاطبا الشعب الإرتري بشأن الشراكة السلطوية على نهج ديمقراطي، إذ قال بالحرف الواحد، قاطعا قول كل خطيب: من أراد الديمقراطية فاليبحث عنها في السماء.
إنه بمقولته هذه يقدم إلينا مفهوم السلطة في الثقافة الأكسومية، فهي سلطة مطلقة، لا تعرف الشراكة، هكذا مارسها الأباطرة والرؤوس من قبل، وهكذا يجب أن يمارسها الرأس أفورقي، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الرأس، والحالمون بغير هذا لا قيمة لأحلامهم.
إننا إذن أمام ثقافتين متباينتين كل التباين في تصور السلطة، ونفوذ السلطان، تصور إشراكي لا يؤمن بوحدانية السلطة، وإنما بتفتيتها، وتوزيعها، وتشريك الآخرين فيها، وتشتيتها بينهم، كما هو الشأن في الثقافة البجاوية، أو من اصطلحت على تسميتهم باللويوجيرقا، وتصور احتكاري يؤمن بتجميع السلطة ومركزتها وتوحيدها في يد واحدة قابضة بحدة غالبا، وأحيانا باسطة بقدر ضئيل، لا يخل أصلا بمبدأ وحدانية السلطة، ولا يضر بها، وهو ما يتفرد به التاريخ الأكسومي وثقافته في فلسفة السلطة والسلطان.
ومع أن هذا التصور هو في حد ذاته تصور رجعي، من بقايا عهد الإقطاع، لا مكان له في عالم اليوم، وينتمي إلى مخلفات العصور الوسطى، وقرونها المظلمة، من التاريخ البشري، بمقاييس التمدن الحضاري، إلا أن له أنصارا وحواريين، من الأكسوميين أنفسهم، وحتى المعارضين له من الأكسوميين، فيهم من لا يود للسلطة أن تكون رخوة إلى حد يفقدهم نفوذهم القائم على الجميع، بالرغم من أنهم يتنازعونها فيما بينهم تنازعا جهويا، أكلي جزاي مقابل حماسين، وليست محل إجماع على طرف منهم، ولو تقاسموها فيما بينهم بالقسط دون غيرهم، فإنهم يديرونها بالثقافة نفسها، ثقافة الرؤوس، كما هو موروثهم التاريخي.
وفي هذا السياق من التنازع نسمع منهم أصواتا فقدت توازنها العقلي، فباحت بأقصى مشاعر التطرف والشيفونية المكتنزة في الوجدان، فنادت بزحف أكسومي بالملايين، يتحرك من تجراي، ليستوطن مناطق قبائل اللويوجيرقا، وليلقي بها إلى السودان، وجيبوتي، والجزيرة العربية، على غرار زحف المغاربة إلى صحراء البلوساريو، وقد استغربها بعض منا، ووصف مطلقها بالجنون والعته، وهزئ بها آخرون، واستنكرها جمع من الأكسوميين الإرتريين الوطنيين، وشككوا في إرترية مطلقها، إلا أنه أكد أنه من الهضبة أصلا وفصلا.
نعم هي حالة من الجنون، أيا كان مطلقها، غير أني استغربت ممن استغربها، وعجبت ممن سخر منها وهزئ، فالتاريخ يمدنا بحالات من الزحف حدثت، ربما نسيناها؛ لأننا أحيانا كثيرا ما ننسى؛ وللتذكير فقط أن عملية الزحف هذه ما هي بغريبة في تاريخ الصراع الأكسومي اللويوجرقي، فقد حدثت أكثر من مرة بأنماط مختلفة، وفي أزمنة مختلفة، وبتحايل أحيانا وتآمر، واستغلال للفرص بشعارات وهمية في أحايين أخرى.
حدثت في فترة تقرير المصير عند اختراق الإمبراطور جمعية ( حب الوطن ) محبر ( فقري هجر ) وإنشاء حزب الوحدة (آندنت ) فكان حينها الزحف الأمحراوي.
وحدثت في الثورة الإرترية مرتين: المرة الأولى حين وجه إسياس أفورقي نداءه الشهير ( نحنان علامانن ) ( نحن وأهدافنا ) مستنفرا ابناء الهضبة الأكسومية، داعيا إياهم إلى الزحف بأعداد كبيرة، نحو الثورة، مؤججا مشاعرهم الطائفية، والجهوية، متهما جبهة تحرير إرتريا بالسرقة، والنهب، للمتلكات الأكسوميين وبيعها في كسلا، وبالقتل والاضطهاد لأفرادهم، فكان التكتل أولا في تنظيم (سلف ناطنت ) ثم الزحف ثانيا عام 1974م، حتى الإغراق، والطمس الثقافي، والأخلاقي.
يقينا ليس كل من جاء ضمن هذا الزحف جاء مشحونا بأحقاد طائفية وجهوية، ولكن لا محالة أن جزءا منه يحمل المشاعر الانتقامية، والمقاصد الاستحواذية، كما عبأه أفورقي واستنفره.
أما المرة الثانية فحدثت حين اُسْتُزْحفت الجبهة الشعبية لتحرير تجراي؛ للقضاء على الوجود الفعلي لجبهة تحرير إرتريا، وجعل الساحة حكرا على الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، بقيادة الرأس إسياس أفورقي، أمينا عاما لها، لا مساعد له، كما كان هو مساعدا لأمينها العام من قبله، رمضان محمد نور، أحد المنحدرين من قبائل اللويوجيرقا، فالسلطة في الثقافة الأكسومية لا تقبل الشراكة، والقسمة على أكثر من واحد، إنها مع الواحد، وللواحد، وللآخرين الإذعان أو الإذلال.
ويحدث هذا الزحف نفسه الآن في عهد الدولة، من خلال سياسة الاستيطان التي تبنتها حكومة أفورقي بإسكان عدد من الأكسوميين، في ديار قبائل اللويوجيرقا، انتزاعا وعنوة، وهي مهجورة في مناطق اللجوء، بعيدا عن مواطنها ومعاطنها، لا أحد يفكر بحالها، ولا في إعادتها، فلم تعد الأرض أرضها، وإنما هي أرض الدولة بهويتها الأكسومية.
من أهم خصائص قبائل اللويوجيرقا أنها تتناقض كل التناقض مع هذه الثقافة في فلسفة السلطة، بحكم أنها لم تعرف في تأريخها السلطاني حكما مركزيا، والاستعمار وحده هو من ساقها إلى الحكم المركزي، من أول يوم غزا فيه محمد علي باشا أرضها، وأنهى ممالكها، ولو أنها تركت للتطور التلقائي لتوصلت إلى صيغة جامعة، ولأدارت ذاتها بذاتها، وفق ثقافتها السلطانية، وتجاهل هذه الحقيقة فيها، والتغافل عنها، وفرض مفهوم مغاير عليها، هو مجازفة كبرى، قد يفقد الوطن استقراره، وتنميته.
من هنا فإن مشكلتها الحالية ليس في خصائصها الثقافية والسلطانية، وإنما في تباينها مع الثقافة الأكسومية، وتعارضها معها كل التعارض، في النظر إلى السلطة والسلطان، وما هي عليه اليوم من استضعاف أكسومي، تتداخل فيه عوامل عدة، بعض منها ذاتي نعم، في حين جزء مهم منها موضوعي، ومن أبرز هذا الجزء الموضوعي، تجاهل خصائصها الثقافية، ووصفها بالرجعية والتخلف، من نفر من أبنائها اعتنق أفكارا غريبة عليها، وضارة بها، وتفاعل مع تنظيرات أعملت قانون الديالكتيك في تفسير تاريخها، وعلاقاتها الاقتصادية، والاجتماعية، بمراهقة فكرية ساذجة، وممارسة سطحية متعسفة، ترتب عليها سلب أراضيها، وانتهاك عرضها، والسخرية من عقيدتها، وتمكين الإقطاعي الأكسومي منها.
هذه هي المشكلة في جزء منها أساسي، كما يظهر لي، واستنهاضها يكمن في احترام خصائصها الثقافية، وفهمها للسلطة والسلطان، وبهذا يجري تكتيلها، وتعبئتها، على أساس الوعي بالذات، وخصائصها، وحقوقها السياسية، وإيجاد تحالف قوي فيما بينها، وبين من عداها من المجتمع الإرتري كله، ينشد العدالة للجميع، دون استثناء، يسعى للتعايش معا في حالة من الوئام والوفاق، على أساس احترام الخصائص الثقافية، والحقوق السلطانية.
وكتبه/ أ . د. جلال الدين محمد صالح
لندن / 10/8/2016 م
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=37648
قد ناديت إذ ناديت حيّ … ولكن لاحياة لمن تنادي
تستحق أن تكون ورقه للنقاش. .
الله يسلمك استاذي البروفسر جلال الدين على هذه المقالة المتوازنة وعلى هذه الحقايق الدامغة التي تلخص الداء والدواء في نفس الاوت والرجو ان يستفيد منها الخوة المسلمين في المرتفعات وعليهم التدقيق على كل احرف فيها حتى يستقيم عندهم الفهم الذي ينبقي ان يفهموه وان خرجو من ثقافة الكسمة التي تفضل البروفسر جلال بذكرها وتحياتي.