قراءة في التاريخ…لاستشراف آفاق المستقبل 1/2

بقلم: زين العابدين محمد علي “شوكاي”

   ستوكهولم: 18/10/2011

 

من المعلوم أن قيام إرتريا ككيان لعب فيه الاستعمار الإيطالي دورًا أساسيًّا، بناءً على ما سبقت الاستعمار الإيطالي من تجارب غير محددة الملامح وتحتاج إلى دراسة معمقة عن مدى إسهام فترة الحكم المصري والمعروفة في التاريخ الوطني الإرتري بالفترة الخديوية، وهي الفترة التي سبقت رسم خارطة إرتريا من قبل الاستعمار الإيطالي بصورتها الحالية، وكذلك إسهام مؤتمر برلين في عام 1884-1885، الذي نظم عملية اقتسام القوى الاستعمارية الغربية لأفريقيا، وشاركت فيه إثيوبيا كدولة أفريقية وحيدة، في إبطال إدعاءاتها بحقها للوصول إلى الموانئ البحرية الإرترية على طول الخط من أقصى نقطة في جنوب إقليم دنكاليا، إلى أدنى نقطة في الساحل الشمالي الإرتري في خط مائي يمتد لأكثر من ألف كيلومتر على سواحل البحر الأحمر الأفريقية. وحرم ذلك إمبراطورية تاريخية بحجم إثيوبيا في أفريقيا من أي منفذ بحري، والتي أصبحت لاحقًا إحدى أقوى حجج إثيوبيا هيلي سلاسي لضم إرتريا إليها، ووجدت آذانًا صاغية لدى حلفاء إثيوبيا في الغرب الذين ساعدوها على إنفاذ مخططها بالحصول على منافذ بحرية، بحكم انسجام المصلحة الإثيوبية هذه مع مصالح قوى دولية في العالم، ومحلية في إرتريا، والمتمثلة في أبناء الهضبة المسيحيين التجرينيين.

في فترة الحكم الإيطالي، والتي امتدت فعليًّا من عام 1890 وحتى هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية في عام 1941، وهي خمسة عقود بالتمام والكمال، هذا إذا استثنينا ما سبق عام 1890 من تسابق استعماري لتشكيل مستعمرة إيطالية في إرتريا الحالية، يمكن القول إن هذه الفترة كانت كفيلة بحق وحقيقة بإيجاد بلد وشعب حمل اسم “إرتريا” رغم ما كان يعتري ذلك من تشوهات بنيوية ستنعكس نتائجها لاحقًا في الهوية الوطنية الإرترية. في فترة الحكم الإيطالي تمت عملية تزريع بذرة الهوية الوطنية الإرترية على الرغم من الالتباس الذي كان يُغلِّف هذا المفهوم الذي لم يكن واضحًا ولم يكن متساويًا في أذهان الإرتريين أنفسهم، خاصة إذا تحدثنا عن الطائفتين، المسلمون والمسيحيون.

تنقصنا الدراسات الدقيقة لمعرفة مدى ارتباط المسيحيين التجرينيين بامتداداتهم الحبشية في إثيوبيا في فترة الحكم الإيطالي لإرتريا. إلا أن من المؤكد أن عددًا كبيرًا من المسيحيين التجرينيين الذين حصلوا على قسطٍ جيد من التعليم في الفترة الإيطالية سواء في الإرساليات الكاثوليكية أو البروتستانتية، وخاصة السويدية، كانت الإرساليات السويدية تنصحهم بالتوجه إلى إثيوبيا وخدمة بلادهم، بدل أن يخدموا الاستعمار الإيطالي. وهذه المعلومات متوفرة لكنها غير موثقة وترد في بعض الدراسات عن تلك الحقبة بشكل عارض، رغم ما أسهمت فيه هذه العملية في إنتاج وإعادة إنتاج نخب سياسية وعسكرية مسيحية إرترية ساعدت في إدارة دفة الحكم في إثيوبيا، ولاحقًا في إرتريا الفيدرالية، وتحت الاستعمار الإثيوبي، بعد إلحاق إرتريا نهائيًّا بإثيوبيا. وبالتالي ساهمت ومهدت هذه الحقبة أيضًا في إيجاد الظروف المواتية التي دفعت إلى تشكيل تيار رسمي وشعبي قوي مؤيد لإلحاق إرتريا بإثيوبيا، والذي توج بإنشاء حزب الوحدة مع إثيوبيا (أَندِنَّت)، الذي لعبت فيه الكنيسة الأرثوذكسية الحبشية دورًا محوريًّا. كما أن هناك حقائق دامغة تؤكد على إشراك المسيحيين التجرينيين، وخاصة النخب منهم، في حكم إثيوبيا قبل وبعد إلحاق إرتريا بإثيوبيا. وهنا يمكن ذكر بعض الأسماء على سبيل المثال لا الحصر، مثل وزير الخارجية الإثيوبي لورينزو تئزاز، والجنرال أمان عندوم، والجنرال إسياس (……)، وتدلا بايرو، وأسفها ولدي ميكائيل، وتسفا-يوهانس برهي، والقس ديميطروس جبري-ماريام، وتدلا عقبيت، وبيَّني براخي، وحرقوت أباي، وسيوم حرقوت، وملَّس عندوم، وأمانئيل عندي ميكائيل، وبرخت هبتي سلاسي، وأماري تخلي وغيرهم من النخب السياسية والثقافية والعسكرية التي كانت تحتل مواقع مرموقة في جهاز الدولة الإثيوبية لعقود طويلة. هذا إذا استثنينا مساهمة أبناء الهضبة الإرترية في المقاومة الإثيوبية في كل الحقب التي سبقت تشكيل الكيان الإرتري من قبل الاستعمار الإيطالي، سواء كان في عهود تيدروس أو يوهانس، أو منليك، الذي اقتطع لبعض أبناء حماسين الإرتريين أراض خصبة تعود ملكيتها لمسلمين إثيوبيين تمت هزيمة إماراتهم في جنوب إثيوبيا الراهنة التي ترك أمر تشكيلها لمزاج وطموحات أباطرة إثيوبيا التوسعيين. وشارك أبناء الهضبة الإرترية في حروب إثيوبيا التوسعية جنوبًا، وهي منطقة بعيدة تمامًا عن الحدود الإرترية، ولم تكن هناك أية مشاكل سابقة لأبناء إقليم الهضبة الإرترية مع سكانها غير المشاركة في حروب الأمحرا التوسعية، والحصول على نصيبهم من غنائمها.  وبالتالي ظل الانتماء الشعوري والديني إلى إثيوبيا قويًّا حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وانهار بانهيار التحالف التجريني–الأمحري، وتقطعت عراه بعد أن كانت قوية متماسكة، وذلك بفعل المقاومة الوطنية الإرترية التي أبدع كل أشكال تنظيمها وتسييرها المسلمون الإرتريون.

يمكن القول وبجرأة أن هذه المقاومة التي قام بها المسلمون الإرتريون كانت السبب المباشر في انهيار الحلف المسيحي التجريني–الأمحري، من جهة، وسقوط وزوال الإمبراطورية الأمحرية وانهيارها، بالتزامن مع المجاعة التي حدثت في إثيوبيا وفتكت بالملايين في بداية السبعينيات من القرن الماضي خاصة في إقليم ولُّو الذي كان أكثر أقاليم إثيوبيا تضررًا من المجاعة. وكانت المجاعة وسوء الحالة الاقتصادية، من الأسباب المباشرة لقيام موجة احتجاجات في أديس أبابا، ما أدى إلى سقوط نظام هيلي سلاسي الذي كانت الثورة الإرترية، وبالتحديد جبهة التحرير الإرترية، قد هدّت أركانه، واستنزفت قواه، وأنهكته حتى انهار. ومع انهياره وقبل ذلك بسنوات قليلة كان تدفق المسيحيين الإرتريين من أبناء الهضبة إلى الثورة الإرترية قد بدأ. وتم استيعاب هذا التدفق في جسم الثورة دون استعداد مسبق له ما أدى إلى انتفاخ جسم الثورة في ظاهرة أشبه بالمرض أكثر منه عافية. ولمعالجة هذه المشكلة أخذت جبهة التحرير الإرترية خطوات متخبطة وغير مدروسة ساهمت بشكل واضح وأساسي في انهيارها عام 1981. وتشظى هذا الجسم الذي كان يؤطر أمل المسلمين الإرتريين بكل عيوبه، وشكل انهياره انهيارًا كبيرًا للمشروع الوطني الإرتري الذي كانت تمثله جبهة التحرير الإرترية.

سبق انهيار جبهة التحرير الإرترية سرقة قوات التحرير الشعبية التي خرجت من رحم جبهة التحرير الإرترية من مؤسسيها الأساسيين من قبل مجموعة “سلفي ناظنت”، ذلك التيار الطائفي سيئ الصيت الذي نشأ في رحم الثورة الإرترية وتحت معطف قوات التحرير الشعبية. وكان زعيمه ومؤسسه إسياس أفورقي ينتظر الوقت المناسب للانقضاض على قوات التحرير الشعبية، ثم على جبهة التحرير الإرترية، ثم بعدها على الثورة الإرترية بأكملها، وبالتالي الالتفاف على المشروع الوطني الإرتري برمته، وإيجاد كيان مشوه يحكمه هو منذ عقدين من الزمان.

إخلاء الساحة الإرترية من القوى السياسية الأخرى، وخاصة جبهة التحرير الإرترية، وصعود نجم إسياس التدريجي خلق حالة إنعاش للمشروع القومي التجريني في إرتريا وإثيوبيا معًا، والمتمثل في تحالف الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا والثورة الشعبية لتحرير تجراي (وياني تجراي). وتزامن هذا الصعود بتغيرات استراتيجية دولية أدت في نهاية المطاف إلى انهيار المعسكر الشرقي برمته وتفكك الإمبراطورية السوفييتية. وكان لدى الجبهة الشعبية قراءة صحيحة لهذه التطورات قبل حدوثها في مؤتمرها التنظيمي الثاني الذي عقد في الساحل الشمالي في أبريل 1987، والذي أكدت فيه على ظهور مؤشرات انتصار المعسكر الرأسمالي–الليبرالي على المعسكر الاشتراكي. وهيأت الجبهة الشعبية نفسها للانخراط في مشروع تفكيك المعسكر الشيوعي بالمساهمة في إسقاط النظام العسكري–الشيوعي في أديس أبابا، وتم ذلك بالفعل في عام 1991. لتنتهي بذلك هيمنة الأمحرا الكاملة على مُقَدَّرات إثيوبيا، وصعود قوة جديدة من حلفائهم التجرينيين في إثيوبيا وإرتريا، الذين اختلفت مصالحهم مع الأمحرا في منتصف السبعينيات، وتم تتويج ذلك بالانتصار العسكري عليهم في عام 1991، وأصبح المتحدثون بالتجرينية يحكمون أسمرا وأديس أبابا في وقت واحد. هذا الانتصار ولّد شعورًا قويًّا لدى المسيحيين الإرتريين، وخاصة لدى إسياس وزمرته بأن للبلد هوية واحدة، وأصحاب هذه الهوية هم القادرون والمؤهلون لقيادته، وما على الآخرين إلا أن يكيِّفوا أوضاعهم مع هذه الحقيقة وهذه المستجدات. وحظي هذا المنطق بمباركة وتأييد قطاع واسع من أبناء الهضبة المسيحيين التجرينيين الذين أصبحوا يتحدثون مع شركائهم في الوطن بلغة الاستعلاء والازدراء، ليتحول ذلك إلى خطوات عملية لاستئصال وجودهم وهويتهم في أرضهم ووطنهم وعدم السماح لمن كان منهم خارج الوطن بالعودة تحت ذرائع واهية، وبممارسة البطش والقتل والسجن والحرمان من كل فرص النمو والتطور لمن كان منهم داخل الوطن.

في ظل هذه التطورات السلبية والتخبط الواضح لدولة القومية الواحدة وفشلها في إدارة البلاد بالحد الأدنى من العقلانية والحكمة، وتفجير إسياس لصراعات جانبية غير مفهومة وغير مبررة مع دول الجوار، تأزمت العلاقات الإرترية–الإثيوبية ودون مقدمات منطقية، سوى منطق واحد مفهوم ومقبول، وهو شخصية إسياس غير السوية، بالإضافة إلى التنافس المحموم وغير المعلن عنه والذي ظهر بين إسياس وملس حول من يتبوأ مقعد قيادة دفة الأمور في شمال شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، خاصة أن الإدارة الأمريكية والدوائر الغربية كانت تهلل بظهور قيادات أفريقية شابة وواعدة، من أمثال إسياس وملس وموسوفيني وكابيلا  وغيرهم.  تأزم العلاقة بين سلطتي التجرينيين في أسمرا وأديس أبابا خلط الأوراق في المنطقة، وقلب الأمور رأسًا على عقب، وفاجأ العالم بدخول السلطتين في أسمرا وأديس أبابا في حالة اقتتال شرس راح ضحيته عشرات  الآلاف من الطرفين في معركة مجانية غبر مبررة، بدا فيها قدرٌ كبير من الاستهتار بأرواح الناس في البلدين.

كلنا يعلم قصة النبي يوسف عليه السلام المذكورة في القرآن الكريم والإنجيل، حيث يرى الملك رؤيا البقرات السبع العجاف التي تأكل السبع السمان، والسنبلات السبع الخضر والسبع اليابسات، وتفسير يوسف عليه السلام لرؤيا الملك بأنه سوف تكون هناك سبع سنين من الخصب يتركون الناس القمح في سنبله ثم تأتي سبع سنين عجاف أو شداد يأكل الناس من ما ادخروا في سنوات الخصب. أهمية هذه القصة تأتي في هذا السياق من حيث رمزيتها لتقريب الصورة فيما أود طرحه من فكرة، وهي أن هناك عددًا من السنين يشهد فيها الناس الرخاء والتقدم، لتأتي بعدها سنوات صعبة يقاومها الناس بما جهزوا به أنفسهم في سنوات الرخاء لمواجهة سنوات الشدة.

هناك عقود تعاقبت في تاريخ الشعب الإرتري كانت لها رمزيتها ومؤثراتها، دون أن تكون بالضرورة التفاصيل التي حدثت في تلك العقود محل اتفاق بين الجميع. ملخص الفكرة هي أنه كل عشر سنوات كانت معطيات واقع الشعب الإرتري تشهد تغييرات كبيرة لها تأثيرها على الناس والواقع السياسي والاجتماعي المحيط بهم، وبالتالي كانت البلاد تشهد أثر تلك التغييرات الكبيرة على السنوات العشر التي تليها، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:

  • §        1961–1971، شهد هذا العقد من الزمان استمرار صعود نضالات ومجاهدات الشعب الإرتري الوطنية. هناك كتابات تاريخية تؤكد على أن هذا العقد حققت فيه حركة الثورة تقدمًا، رغم ما ظهرت فيه من إشكاليات لم يتم معالجتها على النحو الصحيح، الأمر الذي انعكس سلبا على السنوات العشر التي تلتها، إلا أن هذه السنوات في مجملها يمكن القول فيها إن قوة الثورة الإرترية حققت فيها تقدمًا، وتم لأول مرة عقد مؤتمر وطني جامع فيها، خرج بمقررات هامة كان الفكر السياسي المهيمن فيها الفكر الثوري–اليساري، الذي كان غريبًا على المجتمع الإرتري المحافظ، وأدى بالضرورة إلى اغتراب القيادات وكادر الصف الأول للثورة عن مجتمعهم، لكن عزاء المخلصين من أبناء الثورة في تلك المرحلة هو أن هذه الظاهرة كانت عالمية، ولم تكن الثورة الإرترية استثناءً في ذلك. أما أكبر المآخذ التي تؤخذ على هذه القيادة وهذا الكادر هو أنهم وضعوا معالجات خاطئة لواقع قبلي، وإقليمي، وطائفي يتسم بتعقيدات المجتمعات النامية الكثيرة. ومن أكبر وأسوأ المعالجات الخاطئة التي اتسمت بها هذه الفترة هي طريقة معالجة الانشقاق الذي حدث في جسم الثورة، ودفع ضريبته الجسم السياسي الإسلامي الإرتري. في هذا العقد بالتحديد تعمَّق الشرخ الطائفي في إرتريا والذي لم يتم معالجة مسبباته، ومن أول مسببات تعميقه هو مشاركة المسيحيين التجرينيين الإرتريين مساهمة واسعة وممنهجة في آلة التقتيل الإثيوبية ضد المدنيين والقرى الآمنة، والإسهام المباشر في محاولات محو الثورة الإرترية من الوجود، بالمشاركة في كل أجهزة الدولة الإثيوبية التي كانت تتولَّى هذه المهمة، وعلى رأسها قوات الكوماندوس الإرترية. ولم يتم حتى يومنا هذا محاسبة القائمين بهذه الجرائم حتى من الناحية الأخلاقية. والأمر الأكثر خزيًا وعارًا في هذه الحقبة صفاقة مجموعة “سلفي ناظنت” والخروج ببيانها المعروف “نحنان علامانان – نحن وأهدافنا”، والذي يُحمِّل مسلمون إرتريون داخل جبهة التحرير الإرترية العمل على قتل المسيحيين من المدنيين و”المناضلين”، ولم يذكر البيان كلمة واحدة عن الجرائم التي كانت ترتكبها قوات الكوماندوس الإرترية المكونة من مسيحيي الهضبة بالدرجة الأولى.

 

  • §        1971–1981، اتسم هذا العقد بحصاد نتائج تلك المعالجات والتصورات الخاطئة للمشكلات الوطنية التي كان من أبرز الأخطاء التي مورست فيها الادعاء بأن الساحة الإرترية لا تتحمل سوى تنظيم واحد، واعتبار المنشقين عن الجبهة حينها بأنهم ثورة مضادة يجب الإسراع بتصفية وجودهم، واستثناء مجموعة “سلفي ناظنت” من هذا القرار الحاسم والشديد، ومعالجة وضعهم بمعزل عن معالجة وضع بقية الأطراف المنشقة. في نهاية الأمر ومع حلول موعد المؤتمر الوطني الثاني لجبهة التحرير الإرترية كان الجسم السياسي الإسلامي الإرتري منهكًا، وكانت الحرب الأهلية بين جبهة التحرير الإرترية وقوات التحرير الشعبية من عام 1972 وحتى أواخر عام 1974، خصمًا من رصيده النضالي والبشري. وأعطى هذا الأمر انطباعًا خاطئًا لإسياس وزمرته التي أصبحت تتقوى بالتدفق الكبير الذي حدث من أبناء الهضبة الإرترية المسيحيين التجرينيين في منتصف السبعينيات، بحيث تتمادى كل يوم في غلوها وتطرفها، وتكتسح أية محاولة تقف وراء مشروعها الطائفي، سواء في تصفياتها داخل قوات التحرير الشعبية، أم في مواجهاتها وادعاءاتها المغرضة ضد تنظيم الجبهة. وحقق إسياس وزمرته انتصارات كبيرة مهدت لبروز تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا من رحم قوات التحرير الشعبية. واستخدم إسياس في هذا السبيل كل الأدوات المشروعة وغير المشروعة بالاستفادة القصوى من تناقضات الجسم السياسي الإسلامي الإرتري الذي اتسم بالتعدد القبلي، والإقليمي، واللغوي. إضافة إلى دخول عنصر آخر قوي وهام لصالح مشروع إسياس الطائفي، وهو بروز الثورة الشعبية لتحرير تجراي من التناقضات التي ظهرت في إثيوبيا بعد سقوط نظام هيلي سلاسي، وصعود العسكر إلى السلطة، واعتمادهم مبدأ الحسم العسكري للصراعات التي ورثوها من نظام هيلي سلاسي كالقضية الإرترية، وقضية أوغادين، وكذلك قضايا القوميات الإثيوبية الأخرى التي تزامنت مع صعود العسكر إلى السلطة، وعلى رأسها قضية شعب تجراي الذي حمل السلاح في وجه الطغمة العسكرية “الدرغ” الذي وصل إلى الحكم في إثيوبيا. واستعان التجراويون في بداياتهم الأولى بالتجربة الإرترية، وفصائل العمل الوطني الإرتري، نتيجة القرب الجغرافي والثقافي الذي يربط شعب تجراي بشعب الهضبة الإرترية المتحدثين باللغة التجرينية على طرفي الحدود بين البلدين.

 

استغل إسياس وزمرته كل هذه المستجدات استغلالاً جيدًا، وركزوا جهودهم في بناء تنظيم عسكري أمني، تاركًا للجبهة بعد منتصف السبعينيات من القرن الماضي، أمر مواجهة القوات الإثيوبية التي حصلت على الدعم من المعسكر الشرقي في جبهات عريضة. وحصرت الجبهة الشعبية مواجهاتها مع إثيوبيا في جبهات محدودة تستطيع الانسحاب منها والاحتماء في جبال الساحل المنيعة كلما اشتدت حدة المواجهة. ومنذ منتصف السبعينيات وحتى دخول جبهة التحرير الإرترية إلى الأراضي السودانية، وتجريد قواتها من سلاحها في عام 1981، يمكن لأي متابع أو مشارك في تجربة الجبهة أن يشهد على ما كنا نراه من انضباط وبناء تنظيم حديدي داخل الجبهة الشعبية، مقابل الترف والترهل السياسي، والعسكري، والأمني الذي كانت تشهده جبهة التحرير الإرترية، نتيجة صراعات أقطابها في مكاتب الجبهة الرئيسية، المكتب العسكري، ومكتب الأمن، والمكتب السياسي. وأفضى ذلك كله بالضرورة إلى النتيجة المأساوية المتمثلة في هزيمة الجبهة على كل المستويات أمام تحالف الجبهة الشعبية مع وياني تجراي، وإخراج جبهة التحرير الإرترية تمامًا من ساحة المواجهة العسكرية مع العدو، وخلو الميدان بكل المعاني للجبهة الشعبية لتحرير إرتريا في عام 1981. سبق ذلك تسجيل تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا انتصارات سياسية ودبلوماسية على جبهة التحرير الإرترية من خلال إنهاكها بخوض اتفاقيات تلو الأخرى معها ثم خرقها، للدخول في اتفاقيات أخرى جديدة محاولاً استنزافها، وإفقادها لمصداقيتها، لدرجة أنه استطاع استمالة الكثير من الكادر العسكري والسياسي من أبناء الهضبة التجرينيين إليه وهم داخل الجبهة، والدفاع عن مواقفه. هذه كانت واحدة من أسوأ أنواع الفوضى والترهل السياسي والأمني والعسكري الذي أصاب جسم الجبهة.

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=18132

نشرت بواسطة في أكتوبر 19 2011 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010