قراءة في التاريخ…لاستشراف آفاق المستقبل 2/2

بقلم: زين العابدين محمد علي “شوكاي”

ستوكهولم: 25/10/2011

هناك عقود تعاقبت على تاريخ الشعب الإرتري كانت لها رمزيتها ومؤثراتها، دون أن تكون بالضرورة التفاصيل التي حدثت في تلك العقود محل اتفاق بين الجميع. ملخص الفكرة هي أنه كل عشر سنوات كانت معطيات واقع الشعب الإرتري تشهد تغييرات كبيرة لها تأثيرها على الناس والواقع السياسي والاجتماعي المحيط بهم، وبالتالي كانت البلاد تشهد أثر تلك التغييرات الكبيرة على السنوات العشر التي تليها. استعرضنا في الحلقة الأولى باختصار شديد أهم ما حدث في رأينا في العقدين 1961-1971 و1971-1981، وسيتم في هذه الحلقة استعراض ما حدث في العقود المتبقية ورؤيتنا المستقبلية للعقد الذي نحن فيه: 

  • §        1981–1991، في هذا العقد من تاريخ نضال الشعب الإرتري خلت الساحة الإرترية من تنظيم جبهة التحرير الإرترية الذي كان حتى ذلك الحين رائدًا للعمل النضالي والوطني الإرتري، رغم ما كان يعتري تجربة الجبهة من عيوب وأخطاء ليست بالقليلة. ولا يمكن الاستهانة بنتائجها الخطيرة على النسيج السياسي والاجتماعي الإرتري، الذي كانت قد اعترته عوامل الضعف في عقد السبعينيات الذي سبق هذا العقد. لا أحد ينكر أن الجبهة الشعبية حققت انتصارات عسكرية باهرة في هذا العقد، أي سنوات الثمانينيات. هذه الانتصارات العسكرية تم توظيفها سياسيًّا لبناء أمجاد الشخصية الواحدة في قيادة هذا التنظيم. وفي غفلة من رفاقه في النضال والسلاح الذين سينقض عليهم إسياس لاحقًا، ليس لأنهم أقل شجاعة أو أقل نضالاً منه، بل لأنهم، مثلما حدث مع جبهة التحرير الإرترية وقياداتها، لم يكونوا يدركون مدى نرجسية إسياس، ولم يتوقعوا أن تصل به الأمور إلى هذا الدرك الأسفل من التآمر والغدر. انخرطت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، ومعها الثورة الشعبية لتحرير تجراي في مشروع دولي كانت الولايات المتحدة ترمي من روائه إضعاف الاتحاد السوفييتي الذي انهار في عام 1991، بدءًا بانسحابه في مواقع تواجده الاستراتيجية، من بينها منطقة القرن الأفريقي. واعتبرت الجبهة الشعبية والوياني هذه فرصة ذهبية يمكن من خلالها تحقيق مشروع حكم إرتريا وإثيوبيا بنظام سياسي إن لم يكن واحدًا، فعلى الأقل متشابهًا في كل أوجهه، ويقوّي التوجه القومي والطائفي المحدد في البلدين، وخاصة في إرتريا التي كشر فيها النظام عن أنيابه الطائفية بمجرد تحرير البلاد. أهم ما يميز سنوات الثمانينيات هو العمل الدبلوماسي الدؤوب الذي قامت به الجبهة الشعبية وتمخض عنه اقتناع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تعادي استقلال إرتريا عن إثيوبيا على الدوام، إن الأمر ليس بهذه الخطورة. كما اقتنعت أن إسياس ليس أقل استعدادًا وأقل ولاءً لخدمة المثل والقيم التي يؤمن بها الغرب من أي حاكم آخر يمكن أن يأتي في إثيوبيا في المستقبل. وكان ما حدث، إذ دخلت قوات الجبهتين الشعبيتين في إرتريا وإثيوبيا إلى العاصمتين أسمرا وأديس أبابا في وقت واحد، وأن القوات الإثيوبية التي دخلت أديس أبابا في الأيام الأولى لتحريرها كانت نسبة عالية منهم من الإرتريين. وهكذا طوى تحالف التجرينيين المسيحيين في كل من إرتريا وتجراي بصورة نهائية حقبة طويلة من حكم الأمحرا لكل من إرتريا وإثيوبيا، باعتبار أن مصالح الطرفين قد اختلفت بصورة كبيرة منذ سقوط نظام هيلي سلاسي، ولا ندري إن كانت هذه القطيعة بين الطرفين (الأمحرا والتجرينيون) ستدوم، أم سيتم ترميمها إذا اكتشف الطرفان مدى ترابط المصالح بينهما.
  • §        1991-2001، قضى نظام إسياس هذا العقد وهو يبحث عن أنجح السبل لبناء دولة القومية الواحدة والطائفة الواحدة، لكنه في الوقت نفسه بدا واضحًا أن إسياس أفورقي مزهو للغاية بهذا الإنجاز الذي تحقق له ولتنظيمه. وانعكس ذلك بوضوح في ازدرائه هو وزمرته لكل من لا ينتمي إلى القومية أو الطائفة المفضَّلة، لدرجة التشكيك في انتماء الآخرين إلى الوطن، ودمغ الهوية الوطنية الإرترية باللون الواحد. في هذه الأثناء كانت نرجسية إسياس تتنامى بوضوح عندما أعلن في خطاب ألقاه بتاريخ 20/6/1991، وبعد أقل من شهر واحد من تحرير البلاد، أمام حشد جماهيري كبير في العاصمة أسمرا حظر النشاط السياسي لمن هم خارج تنظيمه. كما سعى إلى تلقين الدول والحكومات وحتى الشعوب دروسًا جوفاء وغبية في كل مناسبة أتيحت له من مؤتمرات، إلى لقاءات صحفية، إلى لقاءات الجماهير. وأصبح إسياس يتصرف وكأنه الرجل الوحيد العاقل والحكيم في هذا العالم، الأمر الذي أفقده الكياسة والدبلوماسية واللباقة والوقار التي يجب أن يتسم به رأس كل دولة في تعاملاته وتصرفاته. وأصبحت نرجسية إسياس محط سخرية دول المحيط والعالم. وما زاد الوضع تعقيدًا دخول نظام إسياس في حملة تأديب ضد دول الجوار.

هذه التصرفات الطائشة أثارت حفيظة إخوانه وحلفائه الاستراتيجيين الذين يحكمون في أديس أبابا، والذين بدا عليهم منذ الوهلة الأولى دهاءً ومكرًا أكبر، وكانوا أكثر تواضعًا في التعامل مع الآخر. وإن محاولاتهم في إقصاء وتهميش الآخرين كانت تتم بقفازات ناعمة، ودون اللجوء إلى العنف والقوة الظاهرة إلا كآخر وسيلة لمعالجة المشكلات. كانت خلافات إسياس مع حلفائه الاستراتيجيين في أديس أبابا تتصاعد إلى أن تهور أو ربما تم استدراجه للتورط في مواجهة عسكرية مع النظام الحاكم في أديس أبابا في عام 1998. هنا تنبه عقلاء التجرينيين المسيحيين إلى حجم المأزق التي حشرهم فيه زعيمهم “أبو عرّام” بتعريضه تحالف التجرينيين في الهضبة الإرترية وتجراي إلى خطر الزوال. وفي محاولة للتقليل من خطورة هذا المنزلق شاهدنا حركات احتجاج تحاول إعادة الأمور إلى نصابها دون المساس بجوهر السلطة. وهنا كان إسياس أسرع من خصومه في انتهاز الظروف الدولية المواتية التي أوجدتها في العالم أجمع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وقضى إسياس بضربة واحدة على كل أثر للاحتجاج باعتقال الرموز التي كانت تتقدم الصفوف من مجموعة ال”15″، وإغلاق الصحف الحرة واعتقال الصحفيين الذين هللوا وكبروا لما كان يعرف حينها بالمجموعة الإصلاحية. هنا بدأ إسياس يُعمِل معاول الهدم على جدار دولة القومية والطائفة الواحدة، ويفككها حجرًا حجرًا، أولاً بخصومته مع حلفائه الاستراتيجيين في أديس أبابا، ومن ثم اعتقاله رموزًا لا تقل عنه شراسةً وتاريخًا في بناء دولة القومية الواحدة التي مهدوا لها قبل دخولهم أسمرا، وهم معتصمون في جبال الساحل المنيعة. في هذا التاريخ وضع إسياس لمساته الأخيرة في إنهاء مشروع الدولة الطائفية، باختصار هنا بدأ العد التنازلي لدولة القومية الواحدة.

  • §        2001-2011، أهم الأحداث التي شهدناها في هذا العقد هو التحاق قوى جديدة من قيادات ورموز تجربة الشعبية من الداخل بقوى المعارضة والمقاومة في الخارج ضد النظام الاستبدادي، بعد أن ضيق عليهم استبداد إسياس أي فرصة للعمل من الداخل. واعتقل النظام رفاقهم وزملاءهم وأودعهم السجون دون أية إجراءات قضائية متبعة في العالم، وأخفى أي أثر لهؤلاء حتى يومنا هذا رغم مضي عشر سنوات على اعتقالهم. وهناك تكهنات بل بعض الأدلة التي يصعب إثبات صحتها بأن رموز الجبهة الشعبية الكبيرة الذين تم اعتقالهم في أكتوبر 2001، مات البعض منهم، بينما يعاني البعض الآخر من مشكلات صحية واختلالات عقلية في السجون التي وضعهم فيها إسياس. دخلت الرموز التي انشقت عن تجربة الجبهة الشعبية والتحقت بصفوف المعارضة في صراعات فيما بينها، وانخرطوا في أشكال الصراعات المزمنة التي كانت المعارضة التي سبقتهم تعاني منها. وهناك من يقول إن التحاق هؤلاء بصفوف المعارضة لم يشكل بأي حال من الأحوال إضافة نوعية أو إيجابية، بل وصل الأمر بالبعض باتهامهم بأنهم مندسون. لكن الحقيقة تبقى أن لهؤلاء كما لغيرهم الحق في مقاومة السلطة القائمة بالشكل الذي يرونه، وأن يرتكبوا الأخطاء مثل غيرهم، على أمل أن يستفيد منها الجيل القادم من المعارضين الشباب الذين لا يتحملون وزر كل الأخطاء السابقة. ومن بين أهم إنجازات هذا العقد أيضًا استمرار المعارضة الإرترية في مقاومتها لاستبداد الديكتاتورية، متمثلة في التحالف الديمقراطي الإرتري، الذي تعرض لعدد من الانتكاسات. يجب على قوى المعارضة الإرترية تطوير التحالف وتحسين أدائه، وعدم التفريط فيه، لأن هناك مؤشرات تدلل على أن أقوى الفرقاء في تحالف صنعاء، الحكومة الإثيوبية، تبدو وكأنها تبحث عن بديل لقوى التحالف. لسنا ندري إن كان ذلك لحاجة في نفس يعقوب – كما يقال – أم لعدم فاعلية التحالف رغم الفرص الكبيرة والكثيرة التي أتيحت له.
  • §        2011-2021، ضمن محاولتنا لقراءة مبسطة للمستقبل يمكن القول إن العقد القادم هو فرصة لإجراء مراجعة وطنية شاملة، قادرة على تصحيح الكثير من الأخطاء التي تراكمت في العقود الثلاثة الماضية من النضال الوطني الإرتري، وما تركته من آثار سالبة على جوانب سياسية واجتماعية في المجتمع الإرتري. هذه العقود الثلاثة فيها أيضًا مواقف تدعو إلى الفخر والاعتزاز بنضالات هذا الشعب البسيط والمحدود الإمكانيات، حيث حقق فيها الشعب الإرتري ما تعجز الشعوب القوية والمدعومة عن تحقيقه في بعض الأحيان بسبب قوة عزيمته، وعدالة مطالبه، وتضحيات أبنائه وبناته، ورجاله ونسائه. هناك ضرورة ملحة لإعادة قراءة الماضي بمقاربات جديدة للاستفادة من دروسه، والعمل على التقليل من تكرار الأخطاء التي حدثت فيه عند رسم خارطة طريق المستقبل. ويجب أن تتم قراءة التاريخ بعيدًا عن اجترار آلام الماضي. وهنا يمكن لقيادات الثورة بكل فصائلها، وكذلك كادر الصف الأول في هذه التنظيمات، أن يساهموا في هذه المراجعة والزيارة الضرورية والملحة للتاريخ، ليس بهدف إعادة إنتاج مقولات عفا عنها الزمن، بل لزيادة الوعي الجمعي، والمساهمة في منع تكرار أخطاء الماضي بعد سرد أسبابها وطرق معالجتها. يمكن للقيادات والكوادر الأساسيين في التنظيمات أن يكتبوا عن جوانب من تجاربهم في شكل سلسلة من المقالات أو غيرها، وموجهة بالدرجة الأولى إلى الجيل الجديد من الشباب، تقدم إليهم على شكل نصائح وعبر ودروس في إعادة قراءة التاريخ للاستفادة من نقاط القوة، ولتجنب نقاط الضعف، ولوضع حلول مستقبلية لمشكلاتنا الوطنية تعزز وتقوي قضية التعايش السلمي بين المكونات الإرترية بكل تنوعها.

– من بين أهم المشكلات التي تحتاج إلى معالجة حقيقية أيضًا، والتي ظلت تهدد وحدة إرتريا أرضًا وشعبًا لعقود طويلة، هي قضية “الطائفية”، التي رسخها النظام السياسي القائم في إرتريا لعقدين من الزمان بعد الاستقلال بممارساته الرعناء ضد كل ما هو غير مسيحي وغير تجريني. وللبدء في معالجة مثل هذه الإشكالية هناك قواعد أساسية أرى أهمية انتهاجها، وهي البعد عن لغة الاستفزاز والحشد الطائفي، دون أن يعني ذلك التنازل عن الحق، بحكم أن هناك عملية تزوير للتاريخ وتشويه لأحداثه ولرموزه في العقدين الماضيين من حكم إسياس للبلاد. يجب أن تعاد الأمور إلى نصابها الصحيح، وأولها مراجعة كتب التاريخ الإرتري التي ظلت تدرس في المدارس الإرترية في ظل النظام الحالي الذي شوه صورة النضال الإرتري بشكل كبير.

– ومن بين أهم المحطات والمناسبات في تاريخ الشعوب هي المؤتمرات والسمنارات الكبيرة ذات الطبيعة الوطنية التي تعقد بين حين وآخر لتقويم وتقييم مسارات الشعوب والدول. ما شهدته وتشهده ساحة العمل الوطني الإرتري هو أن هذه المناسبات تحولت إلى مواقع ومحطات لتصفية الحسابات، وحبك المؤامرات، ونصب المكائد، وممارسة المكايدات بكل أشكالها، وتعميق الأزمات المزمنة، بدل فتح آفاق لوضع حلول ومعالجات جديدة للمشكلات المزمنة. يجب أن تكون مؤتمراتنا محطات نحقق فيها نقلة نوعية في الوعي، وتقارب وتفاهم وطني واسع لوضع أسس صحيحة وسليمة للتعايش بعيدًا عن المجاملات، وعن التحايل على بعضنا البعض. كما يجب أن نرتقي في مؤتمراتنا الوطنية لمستوى طموحات شعبنا، بدل الاقتتال لتحقيق مكاسب شخصية أو تنظيمية ضيقة، لأن القضايا التي يتصدى لها المؤتمر تتعلق بهموم أكبر من أي شخص أو تنظيم مهما علت مكانته، ويرجى منها أن تضع أسسًا سليمة لتعايش الإرتريين وبناء دولة العدالة والمساواة على أنقاض النظام القائم.  

– يؤسفني أن أقول أننا نفتقر إلى ثقافة الالتزام بما يتم إقراره أو ما يتم التوصل إليه من عهود ومواثيق واتفاقيات وبرامج وغيرها في مثل هذه المناسبات. علينا أن نعمِّق ثقافة الالتزام بالعهود بيننا أولاً، كأصحاب مصلحة في التغيير الديمقراطي المنشود في البلاد، ثم بيننا وبين شركائنا في الوطن من خلال وضع خطط، وسياسيات، واستراتيجيات سليمة مبنية على إجماع أكبر قدر ممكن من القوى السياسية والمدنية (الاجتماعية) التي يمكن حشدها في مؤتمراتنا. وتتم قراءتي للمؤتمر القادم الذي سيعقد في الشهر القادم في أديس أبابا على ضوء هذه الحقائق. ما رأيناه وتابعناه في السنوات القليلة الماضية جسَّد بوضوح عقلية الإقصاء والتهميش والهيمنة أحيانًا، أو عقلية اللامبالاة والاستهتار بكل ما يحدث حولنا من أحداث. وأنا أرى أن الموقفين خطيران على تماسك وقوة المعارضة الإرترية في نضالها من أجل إسقاط الديكتاتورية، خاصة على المسلمين الإرتريين الذين يمثلون الجسم الأساسي للمعارضة الإرترية باعتبارهم أصحاب المصلحة الأولى في التغيير الديمقراطي المنشود.

– تفتقد ساحة العمل السياسي الإرتري اليوم إلى قوى ديمقراطية منظمة وفاعلة، قادرة لأن تصبح جسرًا بين طوائفنا، وثقافاتنا، وانتماءاتنا السياسية المتنوعة، واختلاف الأجيال في مسيرتنا. وبالتالي يتطلب الآن تجسير هذه الهوة التي باعدت بين كافة قوى مجتمعنا وساهمت بشكل واضح في إضعاف قوة المعارضة، وزادت من قوة النظام المستبد، الذي لا يتورع عن استخدام كافة الوسائل لشق الصف الوطني. هنا يأتي دور الشباب في تنظيم أنفسهم بالشكل الذي يرتضونه، وبصورة تبعدهم عن تكرار أخطاء الماضي. لا بد من الإشارة هنا إلى بعض الدعوات التي تتحدث عن أن الديمقراطية ليست المطلب الرئيسي في نضالنا من أجل الحقوق، ويركز أصحاب هذا الرأي في حديثهم على اقتسام السلطة والثروة في البلاد، وكأن اقتسام السلطة والثروة وشعار لا مركزية السلطة تحت أي مسمًّى كان يمكن أن يتم في بيئة غير ديمقراطية.

– قضية أخرى أرى أهمية الإشارة إليها هنا وهي أن نصيب المسلمين الإرتريين من التعليم في العقود القليلة الماضية ارتفع بشكل كبير، رغم سياسات التهميش والتجهيل التي مورست ضدهم لفترة طويلة. ويعود الفضل في حصول نسبة كبيرة منهم على التعليم عمومًا والتعليم العالي على وجه الخصوص إلى السودان الشقيق الذي تخرج من مدارسه ومعاهده وجامعاته عدد كبير من المسلمين الإرتريين. كما ساهمت الدول العربية الأخرى أيضًا بقسط كبير في حصول المسلمين الإرتريين على التعليم العالي. بالإضافة إلى هجرة الإرتريين إلى كل أرجاء الدنيا في العقدين الأخيرين والتي أتاحت لعدد كبير من أبنائهم وبناتهم الحصول على التعليم المتقدم والعصري. هذا العدد الكبير من المتعلمين من أبناء المسلمين الإرتريين يجب أن تتاح لهم الفرصة في كل أشكال عملنا لإبراز ما لديهم من إمكانيات ومواهب، والدخول في منافسة وتدافع من أجل الحصول على حقوقهم وحقوق أهلهم في كل مناسبة يلتقي فيها الإرتريون لتقرير مصيرهم بشكل من الأشكال. لقد ولَّى الزمن الذي كان يدعي فيه شركاؤنا في الوطن لعدم إشراك المسلمين في العمل والمواقع الحساسة بحجة عدم حصولهم على التعليم الكافي.

– بخصوص موضوع اللغة، من حسن حظ المسلمين الإرتريين أنهم يتحدثون كافة اللغات الإرترية بما فيها اللغة التجرينية، لذا ليس هناك ما يجعل المسلم الإرتري يخشى من أي من اللغات الإرترية المحكية والمكتوبة في بلاده، ولا يوجد أي مبرر لكراهيتها أو التضايق منها. وتطويرها والحفاظ عليها وعلى التراث الإنساني المكتوب والمحكي بهذه اللغات واجب يمليه علينا الضمير الوطني والإنساني. وبالتالي تقسيم المسلمين الإرتريين إلى قوميات بناءً على التقسيم اللغوي بدعة جاءت بها الجبهة الشعبية لإضعافهم وخلق الفرقة في هذا الجسم السياسي الموحد رغم اختلافاته اللغوية والقبلية والإقليمية. وتماسك المسلمين الإرتريين وإجماعهم على اللغة العربية هو الضمان الوحيد لوحدتهم ووحدة إرتريا أرضًا وشعبًا. ولم تكن وحدتهم في أي يوم من الأيام خصمًا على الرصيد الوطني الإرتري. التحدِّي الكبير الذي يواجهه المسلمون اليوم وغدًا أيضًا هو التمسك بهذه الوحدة الثقافية التي تنجم عنها بالضرورة وحدة سياسية في الأهداف الوطنية العليا التي كانت من مصلحة إرتريا والإرتريين دومًا. عكس التيار الانعزالي الطائفي الذي حارب وما زال يحارب الثقافة العربية، وأصبح بذلك عبئًا على الرصيد الوطني الإرتري، والانتقاص منه، بل مهدد له إلى درجة الهدم. من مسؤولية المسلمين الإرتريين محاربة التطرف والانعزال بكل أشكاله، وعدم التورط أو الانزلاق في أي منه. قد يبدو هذا الحديث حديثًا عاطفيًّا، لكن النظر بعمق في جوهر خيار الآباء المؤسسين للهوية الوطنية الإرترية بجعل اللغة العربية قاسمًا مشتركًا بينهم يؤكد على أنه كان خيارًا صائبًا، وقرارًا استراتيجيًّا هامًّا لم يتخذ المسلمون خيارًا كبيرًا يوازيه من حيث الأهمية والخطورة إلا خيار تفجير الثورة. خيارات المسلمين الإرتريين كانت دومًا ذات طبيعة استراتيجية ووطنية في غاية الأهمية لوحدة البلاد أرضًا وشعبًا. ويجب أن تبقى خياراتنا المستقبلية كذلك أيضًا بحفاظنا عليها من التشتيت والتمزيق تحت مسميات مختلفة، والإقرار في الوقت نفسه بتنوعنا وعدم إنكاره، وتحويله إلى نقطة قوة وليس إلى عامل ضعف.

– هناك مؤشرات تدل على أن موضوع القوميات سوف تتم إثارته في المؤتمر القادم الذي سيعقد في أديس أبابا في الشهر القادم بصورة كبيرة. لا أحد يستطيع في هذا الموضوع أن يؤكد على أن وجهة نظره هي الأصح، لكن حيال هكذا موضوع لا يمكن للإنسان أن يكون محايدًا. من وجهة نظري الشخصية، إن إثارة موضوع القوميات هو انجرار في المصيدة التي وضعتها سلطة الجبهة الشعبية لتفكيك تماسك المسلمين الإرتريين كوحدة ثقافية متنوعة، ولكن ذات هموم وقضايا سياسية واجتماعية مشتركة. ويعتبر تماسك المسلمين الإرتريين تحت شعارات ومسميات عليا تجمعهم العمود الفقري لتماسك إرتريا. اتخاذ المواقف والخيارات في حالة الضعف، ونحن مهزومون ومشتتون، لا يعبر بأي حال من الأحوال عن رؤية وخيار عقلاني واستراتيجي، ينظر إلى المستقبل بتفاؤل حتى لو كان الجسم السياسي الإسلامي الإرتري في أسوإ حالات ضعفه وتشتته. لا يمكننا أن نقيس الاستراتيجي والهام على الآني والعابر الذي فرضته علينا حالة الضعف. من هنا أجد من مسؤوليتي كمواطن إرتري مسلم يحمل الثقافة العربية-الإسلامية أن أنبه إلى خطورة مسلك التهافت للحصول على اعترافات بانتماءاتنا اللغوية والقبلية، وهي أصلاً راسخة رسوخ جبال إرتريا وأرضها. تركتنا السلطة القائمة في إرتريا اليوم ندور في حلقة مفرغة لسنوات عدة بعد أن ألقت علينا ببهتانها المعرف بنظرية “القوميات الإرترية التسع” التي جاءت بها لتفكيك الجسم السياسي الإسلامي الإرتري إلى أوصال وأشلاء، فهل هي منتصرة علينا بهذه الأكذوبة؟؟؟؟؟

قراءة في التاريخ…لاستشراف آفاق المستقبل 1/2

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=18289

نشرت بواسطة في أكتوبر 26 2011 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010