قراءة لرواية ( شاهد قبر)
حمد كل – لندن
12/06/2014م
شهدت قاعة ( أبرار ) بمدينة لندن ندوة ادبية لتدشين رواية( شاهد قبر) شارك فيها نخبة من الارتريين والسودانيين ، كان ذلك يوم 10 مايو 2014
الرواية هي باكورة انتاج الكاتب محمد يوسف مسوكر . اعتقد ومعي كثيرون ان محمد مسوكر لم يبدأ متعثرا ، بل بدأ يصعد سلم الادب الروائي.
وقد يتبادر الى الذهن عند المقارنة بين رواية ( سمراويت ) ورواية ( شاهد قبر) نجد ان رواية ( سمراويت) تحدثت عن المنطقة الممتدة من ( أسمرا ) , ( مصوع ) وصولا الى ( جدة) في المملكة العربية السعودية، اما رواية (شاهد قبر) فهي رواية مجتمعية تحدثت عن شخوص ينحدرون من ( كرن) والى ( القضارف) بالسودان.
والسؤال هنا هل الكاتب واعني أي كاتب لايملك غير خياله؟ والصحيح هو ان خيال الكاتب واعني الموهبة الزاخرة بتعدد قراءاته للادب بتنوعه ونهله من ذاك المخزون المحلي والعالمي يصقل موهبته ويزيده خيالا وشاعرية، ثم يعود الكاتب الى واقعه أو بالاحرى الى مجتمعه ليعبر عن هويته متبصرا حالة ماضي وحاضر مستقبل مجتمعه ، ويعبر ايضا عن الهم الوجودي لانسان مجتمعه من خلال الخيال الخصب والقراءة المتمحصة .
بعض الكتاب يساعدون في اكتشاف الذات ببعدها ، واعتقد جازما ان الحاسة أو القوة البشرية الاكثر أهمية هى قوة الابداع.
الكاتب الكبير قاربرييل قارسيا ماركييز يقول: الكاتب هو ما يتذكره وكيف يتذكره ليحكي عنه بخصوصيته التاريخية .
يقول أحدهم : انك تذهب الى موقع مع كاتب أو رسام لمشاهدة منظر ما وعند العودة يذهب الرسام الى محترفه ويرسم ما لم تره انت أو يكتب الكاتب ما لم تتنبه له ومن هنا يأتي الابداع والتفوق ودخول التاريخ .
هذه الاصدارة واعني (شاهد قبر) هى اضافة نوعية للمنتوج الادبي عموما والروائي لمجتمعاتنا .
هناك عدد من الكتاب الروائين الارتريين سمعت عنهم لكن قلة من قرأت رواياتهم . قرأت رواية (صالح) للمغفور له الاستاذ محمد سعيد ناود وكانت تلك محاولة وجهد مقدر، وقرأت رواية (عظام من خزف) للسيد ادريس اببعرى فك الله اسره ، السيد احمد عمر شيخ قيل لي كتب رواية لكني كنت معجبا ومتابعا لملاحمه الشعرية. قرأت رواية (سمراويت) للكاتب حجي جابر وكانت شعلة اضاءت المنطقة ونبهت دول الجوار والاقليم بكامله ان هناك كاتبا وضع بصماته في سلم الادب الروائي .
ونعود لرواية ( شاهد قبر) ، وانا اقرأ ليلا هذه الرواية اعادتني الى الوراء الى زمن قديم واثارت فيني الشجون وعادت بي لذكريات الصبا والشباب ، كنت احس ان هذه الرواية تتحدث عن مرحلة في حياتي ، تذكرت اغردات وحينا أو حارتنا أو ( شكيكنا) بالتقرى وطافت بي ذكريات الاعراس و( جبان أو قهوة العصرية) وطقوسها وما يصحبها من سمر .
المتحدثون في الندوة تناولوا كل شخوص الرواية لكنهم غفلوا عن تلك الام الفاضلة (أرهيت) وهى كاسمها ( أرهيت) ، في لهحة التقرى يسمون الانثى ( أرهيت) وللرجل (أرها) وهى تعني من يسر أو فرج حال شخص كان في حاجة ماسة أو ضيق حال ، وعند قضاء الحاجة لذاك المحتاج يقال بالتقرى فلان (رها) وتقال ايضا كلمة ( رها) لشخص كان يعاني من الم مبرح فيعطى له الدواء فيزول عنه الالم .
(أرهيت) كانت كريمة مع المرأتين ومعهم الطفل المريض ، وتكريم الضيف هى عادة اصيلة في مجتمعنا دون أن تربطك به صلة قرابة او معرفة .
كرمتهن بما جاد به الدار مع حسن الاستقبال ، ذكرتني هذه الضيافة بمدينة اغردات ، كانت النسوة اللائي يفدن من ضواحي مدينة أغردات لقضاء حاجتهن من السوق ثم يبدأن العودة في العصريات الى قراهن ، لكن في بعض المرات وفي فصل الخريف تهطل الامطار بغزارة ولساعات طويلة ن ويأتي المساء فيلجأن الى اقرب المنازل كانت الوالدة رحمها الله تستقبلهن بترحاب وتعد لهن مكان استراحتهن في الدار ، ثم تبدأ طقوس اعداد الجبنة أو القهوة ومع شراب القهوة يبدا التعارف وكما يقال ( الونسة)ويواصلن شراب القهوة حتى بعد صلاة المغرب ثم بعد ذلك يعد العشاء لهن
(أرهيت) ككل الامهات هى سيدة الدار ولها قوانينها لا تقبل الاعذار ، مثلا هناك قاعدة تطبق على الابناء وهى لابد من تواجدهم بالدار قبل غروب الشمس ، ويبدو ان ابنها الكبير في بعض المرات يتأخر ولا يأتي في الموعد المطلوب وهنا يأتي العتاب من الام ، فتقول له أين كنت يا ( منقوقي) وهى نوع من العتاب و ( منقوقي) تعني يا ( صايع) والابن قد يقبلها من الام أو الاب راضيا ولا يقبلها من الاخر.
هناك عادة مجتمعية اخرى مرتبطة بساعات الغروب وهو نوع من التفاؤل ولا علاقة له بالظلام، فمع غروب الشمس وقبل ان يرخي الظلام سدوله تكون سيدة البيت مشغولة بانارة (القطاطي) بالمتيسر ( باللمبة) أو ( الفانوس) حسب حال الاسرة وهي عادة لا تتهاون فيها ربة المنزل.
الراوي يجعلك وكأنك تشاهد ( بانوراما) وهو يصف مدينة القضارف باعتبارها مدينة ريفية خاصة وابراهيم يتجول قرب السينما ويجعلك معه تشم تلك الروائح الكريهة التى لا اود الاسترسال فيها ، ثم راكبا الحافلة مع المرأتين بطفلهن المريض ومحاكاته سائق الحافلة والطرق التى تمربها .
ابراهيم وهو يمر بالقرب من بائعي الشاى يفاجأ بوجود رجل ابيض ، ابراهيم خمن ان هذا الخواجة كغيره من الخواجات الذين كانوا يزورون القضارف ويتسابق عليهم المترجمون ، هذه المرة اراد ابراهيم ان ينتهز الفرصة ليكون مترجما عله يجد من ورائها مبلغا يعين به حاله ، وبعد جهد اقترب منه واكتشف ان هذا الابيض هو ( تركي) جاء يبحث عن اثار اجداده العثمانيين ، ودهش ابراهيم باعتباره ابن القضارف وياتي شخص اخر يحكي له ان العثمانيين كانوا هنا ، لكن المحصلة لا ابراهيم وصل الى غايته ولا ذاك التركي وجد اثرا لاجداده العمانيين ، ربما اتى قديما جيش العثمانيون من هنا وعبر ، المستغرب لماذا حشر الراوي موضوع العثمانيين في هذه الرواية؟ هل كا يعني ان القضارف مدينة قديمة شهدت عبور العثمانيين بها ام ماذا ؟ لآ ادري.
( سليمان ) في الرواية شخصية معقدة انطوائية ، فهو اثناء دراسته في القضارف ارتبط ب(ايرات) بعلاقة فعاش حياة متناقضة بين حبه ل(ايرات) وبين طموحهه لمواصلة تعليميه في جامعة الخرطوم ، فارضى طموحه وواصل تعليمه وبقى لواعج ذاك الحب يؤثر في عقله الباطني ، هذا الحب ترك فيه جرحا لم يندمل ، خاصة حين علم ان ايرات قد تزوجت، وكلمة ( أيرات) بالبداويت تعني المرأة البيضاء ، وفي الجامعة أحب اخرى من ذاك البلد ، ولأنهما من مجتمعين مختلفين لم يستمر ذاك الحب طويلا فحدث الفراق ، هذه التجارب خلقت عقدا في نفس سليمان وجعلته شخصا انطوائيا ، ولما عاد الى القضارف فضل العزلة على الاندماج في مجتمعه وأصبح أسير قراءة الكتب والانعزال في الدار وبهذا أصبح عالة على اخيه اسماعيل ، سليمان شخصية متناقضة مع نفسها لانك تلاحظ حين يناقش وبانفتاح مع ابراهيم ابن اخيه و(سميرة) حبيبة ابراهيم تجده مثقفا وواعيا لما يجري من حوله لكنه انطوائي وهذا الوعي والثقافة لا
يفيد بهما مجتمعه بل جعل كتبه و( القطية التي يسكنها محرابه).
اسماعيل هو رب الاسرة ومعيلها التي تتكون من الزوجة ( أرهيت) وثلاثة ابناء اكبرهم ابراهيم بالاضافة الى اخيه سليمان .
لاسماعيل ( دكان) بضاعته هى التي تجذب ابناء مجتمعه وتغطي حاجاتهم ، ولانه منهم كانوا ينجذبون لدكانه مع وجود حسن المعاملة ـ لكن اسماعيل يبدو احوال سوق القضارف لم تعد تفي حاجته فاتجه الى السعودية علها تحسن احواله المادية .
وتمضي بنا الرواية لتجعلنا نتابع شخصية ( ودبالعاي) ، هو شخصية يمكن ان تسمها بالتقرى ( ود سوق) او بالعامية ( مدردح) يعرف احوال السوق وكيف يستفيد منه ولهذا يتعايش مع الجميع من اجل مصلحته ، خلق مع المجتمع الاخر الذي يسميه الراوي ( عد حمد حفون) لادراكه ان ( عد حمد حفون) تجار كبار ومسنودين من ( الميرى) .
الراوي كان ذكيا جدا حين عكس لنا ظواهر تعج بها المجتمعات التي تعاني من التخلف المصحوب بحالة الفقر والعوز مثل ( الزار) او ما يسميه البعض ( الريح الاحمر) ( السحر) والشخصية التي يصيبها الزار في حقيقة الامر هى التي تتمنى اشياء حرمت منها ، وهناك عالم نسائي له طقوسه وله اغانيه الخاصة ومتخصص كما يدعون في علاج هذه الظواهر ، ويبدأ العلاج بضرب الطبول وتغنى فيه اغاني خاصة لهذه المناسبة مع العطور والبخور ويبدأوا بترقيص المريضة أو (المسكونة)، واثناء الرقص تستجوب المسكونة او تسأل عن مطالبها لتبوح بها ، لكن في الغالب ان هذه المسكينة (المسكونة) اما انها ارغمت على زواج رجل لا تحبه وكانت تتمنى الزواج من اخر او محرومة من اشياء كانت تتمنى ان توفر لها.
ذكر الراوي ان في القضارف مجتمعين احدهما ينعم بالماء الوفير والاخر يعاني من شحته ويقاتل من اجل شربة ماء، حالة عكستها طوابير المحتاجين للماء في محطة القطار.
الكاتب ايضا عكس لنا حالة ذاك المجتمع ومعاناته لخصها في شخصيتين وترك للقارئ مساحة ليتأمل هذه المعاناة ببعدها المجتمعي التراجيدي ، المثال الاول هو ذاك الطفل اللائي حملنهن المرأتين الى المستشفى بمعاونة اسماعيل وكان يتلوى من الالم ، لكن العاملين بالمستشفى لم يكترثوا لحاله لانه من مجتمع اخر ، عندهم لا قيمة له ان تلوى بالالم او مات، وبالفعل مات الطفل دون ان يرف جفن عاملي واطباء ذاك المستشفى هذا الطفل هو من ذاك المجتمع الذي يموت في الصحاري او تغرق به السفن أو تباع اجزاء من جسمه او يساومون به السماسرة مقابل مبلغ كبير ، هذا الانسان يموت كما تنفق الحيوانات ، هذا المجتمع فقد المظلة التي تقيه او دولة تحميه، اصبح لا قيمة له ، هذه الماسات ذكرتني وانا اناقش مع احدى الشابات الصوماليات بلندن ونحن نتحدث عن احوال القرن الافريقي ، قالت ودمع العين يسبقها ( يا عمي من فقد داره قل مقداره).
المثال الثاني وفي بداية الرواية وجد ابراهيم المرأتين ومعهما الطفل المريض والذي اواهم في منزله ، كانتا قادمتين من ضواحي ا لقضارف وكما ذكرنا ان الطفل قد مات ، وبعد فترة طويلة عانى ابراهيم من القطيعة اتي حدثت بينه وبين حبيبته ( سميرة) فنصحه عمه سليمان بالذهاب الى كسلا للترويح عن نفسه ، ابراهيم وهو يتجول في سوق كسلا يفاجأ بتلك المرأة الذي مات طفلها وهى تتسول في السوق، حالة التسول يمكن للبعض ان ينظر اليها حالة فردية وهى نزحت من ضواحي القضارف الى كسلا لكن ببعدها الانساني نجد ان هذه المرأة المكلومة هى حزء من مجتمع كبير يعيش حالة الترحال والعوز والفقر والتشظي هى تنسحب ايضا على هؤلاء الهائمين على وجوههم يبحثون عن الاستقرار المفقود ولقمة عيش تعينهم على الجوع ، هم انفسهم الهائمون على سهول السودان وصحاري ليبيا وارتياد البحار لتلتهمهم الأسماك والسقوط في احابيل سماسرة بيع اجزاء من اجسامهم ثم تلقى جثثهم لتلتهمه الذئاب والصقور وأيضا هؤلاء اللاجئين في اطراف اليمن يسكنون وأطفالهم في عشش لا تحميهم من الرطوبة ولفحة حر الشمس وزمهرير الشتاء وهطول الأمطار مجتمع تجاهلهم الراى العام العالمي ولم يضعهم في سلم اولوياته.
في الرواية اكثر شخصية تسترعي انتباهك هى ( سميرة) فيها الانوثة والرقة وعفة النفس والوعى ، تحس بها وهى تناقش سليمان بحسها الرهيف وبوجود ابراهيم ، هى تتعامل مع ابراهيم بتلك الرقة وفيها نوع من الحزم للحفاظ على هذه العلاقة ان كان ذلك في ساعات شرب القهوة او حين يتقابلان على انفراد بعد غروب الشمس وهما يتبادلان ذاك الحب البرئي الذي لا يخدش حياءها .
ابراهيم وسط اقرانه كان محسودا لاختيار سميرة له ، ابراهيم من جانبه كان وفيا في قضاء حاجات منزل سميرة سواء كان ذلك في تقاسم المياه او غيره . ومع استمرار هذا الحب الرومنسي حدث طارئ اوجد شرخا في هذه العلاقة . مجيء اثنين من جماعة ( حمد حفون) الى منزل سميرة لطلب الزواج منها ، وكان الطلب فجا وفيه نوع من المهانة ، لكن سميرة بأدب وفيه نوع من كبرياء النفس ردت عليهم ردودا اشعرتهم انهم جاؤا في المكان الخطأ وبتفكير خاطئي وليس هنا سلعة تباع بشكل مهين ، كان الحديث قد جرى مع جماعة ( حمد حفون) في( القطية) التي يستقبل فيها الضيوف ، وبالصدفة جاء ابراهيم وشاهد سميرة وهى تخرج من القطية ، وحاولت سميرة ادخاله الى القطية الثانية ، لكن حدث نوع يمكن ان نسميه انفجارا وهذا ناتج من ان سرا دفينا في العقل الباطني لابراهيم قد انفجر ، فتلفظ ببعض الاتهامات مع سميرة وعاد من حيث اتى ، هذه الالفاظ جرحت كبرياء سميرة .
والسر الدفين هو ان امرأة وهى والدة جمال صديق ابراهيم الذي سافر الى موسكو للدراسة ، في زمن سابق قالت لابراهيم انها شاهدت سميرة وهى تنزل من سيارة احدهم ، وهذا يعني ان سميرة كانت على علاقة غير سوية مع صاحب تلك السيارة ، وهنا يتبادر الى الذهن هل هذه المرأة كانت تعلم ان ابنها جمال كان يحب سميرة؟ وحينما علمت ان سميرة قد بدلت حب جمال بحب ابراهيم وحاولت ان تدمر هذه العلاقة… ام ماذا ؟ .
حاول ابراهيم بعد فترة ان يعالج فعلته تلك مع سميرة ولكنه وجد الصدود ، فتأزمت حالته وضاقت به الدنيا ما وسعت ، وحاول عمه سليمان ان يصلح ذات البين لكنه فشل ، لهذا نصح ابن اخية ابراهيم للذهاب الى كسلا ويقيم مع احد اقاربه هناك ، وعاش هناك فترة ولاحظ ابراهيم ان رب الاسرة يمارس كبتا في اسرته ، وحين يذهب رب الاسرة الى عمله فان بناته المكبوتات يمارسن حريتهن بنوع لا يرضي الخلق القويم ، والكبت هو الكبت ان كان في الاسرة او الشعوب يولد الانفجار ويخلق الفوضى.
عند عودة ابراهيم الى القضارف فوجئ بجو حزا ئني ، وجد سرادق العزاء منصوبة لأربعة وفيات ، صديقه جمال مات في موسكو وموت اثنين من اصدقائه وحتى عمه سليمان ، وهنا يبرز عنوان الرواية ( شاهد قبر)
الكاتب اوصلنا الى المحطة الاخيرة في الرواية ، بمدلول لم يذكره لكن تركه لفطنة القارئ . موت ثلاثة من اصدقاء ابراهيم ورابعهم عمه ، وانكفاء ابراهيم على نفسه ، وسميرة بدراستها للغة الانجليزية يعني انها شقت طريقا نحو مستقبل جديد. كل ذلك يعني او يعبر عن انقضاء او انطواء مرحلة من ذاك المجتمع.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=30769
أحدث النعليقات