قــطوف أرتــريـة الحلقة (16)
بقلم : أحمد نقاش
مفهوم الاسلام السياسي فى القرن الافريقي
إن منطقة القرن الافريقي من اوائل مناطق العالم التى دخلها الاسلام منذ ان بدأت دعوة النبي محمد (ص) اذ كانت الهجرة الاولى لاصحاب رسول الاسلام الى الحبشة عبر البحر الاريترى فى قرية معدر الساحلية فى منطقة دنكالية وانتقلوا منها الى حاضرة مملكة اكسوم فى هضبة الحبشة فى اقليم تجراى الحالى،عملا بقول النبيى محمد(ص) الذى اشار الى اصحابه بالهجرة الى الحبشة قائلا “اذهبوا فإن فيها ملك عادل لايظلم عنده احد” وبالفعل لقد كان الملك (اصبحى النجاشى )على حسن ظن رسول الاسلام الذى لا ينطق عن الهوا ان هو الا وحى يحي.واكرم النجاشى ضيافة هؤلاء المهاجرين، وآمنهم من الخوف والجوع، والملك لم ينسى حظا مما ذكر به من الله بل كان يعمل بما استحفظ من الانجيل وتعاليم( السيد المسيح) الاصلية التى تدعو الناس الى فعل الخير اينما كان موقعه،بل ان الملك النجاشي لقد مال قلبه الى دعوة خاتم النبين مدركا بحقيقة لا ريب فيها بأن هذا النبي ما هو الا موضع لبينة التى يكتمل بها البيت المؤمنين الذى بدأ من ابو البشر آدم الى خاتم النبين (محمد) (ص)هكذا لقد تمثل فى النجاشى قوله تعالى “وإن من اهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ومآأنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بئايات الله ثمنا قليلا أولائك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب” آل عمران 199
منذ تلك الهجرة المباركة بدأ الاسلام ينتشر فى القرن الافريقي بصور مستمرة على مدار الزمان عبر الدعات والتجار والهجرات الشعبية من الجزيرة العربية الى الضفة الغربية للبحر الاحمر،والجذير بالذكر كلما اشتد الصراع على السلطة فى الخلافة الاسلامية كلما ادى ذلك الى كثرت المهاجرين من المسلمين الى القرن الافريقي وخاصة العلماء منهم والفقهاء الذين كانوا فى كثير من الاوقات فى خلاف مع الولاة والحكام والامراء،ولعل هذا النوع من المهاجرين هو الذى ساهم مساهمة فعالة فى انتشار الاسلام بصورة واسعت النطاقى فى القرن الافريقي،مما ادى كل ذلك الى قيام امارات اسلامية عديدة فى كل من اثيوبيا والصومال وأريتريا وهذه الاخيرة التى كانت تعرف فى تلك العصور ببلاد (الطراز الاسلامي) فضلا عن السودان أسست فيه ممالك اسلامية عديدة التى استمرت لعهود طويلة، ونسبة سكان المسلمين اليوم فى القرن الافريقي هو الغالب وإن كانت الهوية الرسمية فى بعض منها لا تمثل هوية الاكثرية من السكان.ونسبة المسلمين على وجه التقريب فى الصومال 100%وفى السودان اكثر 80% وفى اثيوبيا اكثر من 65% وفى اريتريا اكثر من 60%وفى جيبوتى100% ولمجرد قراءة هذه النسب سؤال يطرح نفسه لماذا ضعف المسلمين فى القرن الافريقي ؟! والاسباب عديدة منها اجتماعى ومنها تعلمى ومنها اقتصادى ومنها خارجى وكذلك مفهوم الاسلام لدى شعوب القرن الافريقي،الذى يفتقد فى كثير من احواله الى الحكمة السياسية التى تتطلبها طبيعة المنطقة وتعقيداتها،وموقع المنطقة الاسراتيجى.اما مفهوم الاسلام فى المنطقة مرتبط بنشأته الاولى والكيفية التى دخل بها الى المنطقة.
بما ان دخول الاسلام الى القرن الافريقي كان سلميا فى اساسه،ومعظم الذين كان لهم الحظ الاوفر فى نشر الاسلام هم من الفقهاء العادين والتجار الغير المتخصصين فى المباحث الاسلامية، هؤلاء بطبيعة معرفتهم كان التركيز منهم الى جانب العبادات اكثر من الجوانب الاخرى، اضافة على ان معظم الدعات والعلماء الذين استقر بهم المقام فى القرن الافريقي كانوا من الذين هربوا من فعل السياسة التى كانت اساس الفتن فى الجزيرة العربية اناذاك،مما جعلهم كل ذلك ينفرون من السياسة،وكما كانوا يعلمون جيدا ان الحديث عن القسم السياسي فى الاسلام قد يضعهم فى مواجها مباشرة مع مملكة الحبشة انا ذلك،فى الوقت الذى مازال الاسلام فى المنطقة يحبو بين الشعوب البدوية التى قد تتفهم الدعوة الى الله اكثر من تفهمها الدعوة الى مصالح السلطة والسياسة،وحكمة الدعات اذن كانت على ما يبدو تحقيق ما يمكن تحقيقه فى تلك الفترة الزمنية من التاريخ.لذا يشاهد فى هذه المنطقة انتشار كتب الفقه مثل(المذاهب الحنفية والشافعية والماليكية )اكثر من كتب التفسير والفكر. وان شذ عن هذه القاعدة (السودان) بحكم علاقته المباشرة بمصر وغيرها من العالم الاسلامى، فضلا عن انتشار لغة القرآن بين سكانه وخاصة الطبقة الحاكمة فيه. دروس الفقه التى كانت تدرس فى المساجد والخلاوى لم تتطرق ابدا على مبحث السياسة الا انها كانت كثيرت التركيز فى مباحث العبادات و فريضة الجهاد،مما كانت روح الجهاد اى النضال بمفهومه الاعتقادى قوية فى نفوس مسلمى القرن الافريقي فى تلك الفترة،وهذه الروح النضالية كثير ما عطلت اهداف حكام اباطرة الحبشة من اضعاف الاسلام فى القرن الافريقي، وعند ما تعرضت المنطقة للغزو الاستعمار الاوروبى،اصبح وضع المسلمين اكثر ضعفا مما كان فيه،وبدأت طرق الصوفية تنتشر اكثر،وطقوسات الصوفيا بدأت تزاحم الدروس الفقهية الا انها لم تكن ضده.وكذلك سجلت روح الجهاد النضالى تراجع كبير فى ظل صداقة بعض زعماء طرق الصوفية مع المستعمر الاوروبى،وبدا المفهوم الاسلامى يتمحور اكثر فى مفهوم العبادات التى هى (الاركان الخمسة فى الاسلام)بما ان التدافع كان ضروريا فى القرن الافريقي فى ظل وجود اعداء للمسلمين،فى ابسط حقوقهم الطبيعية استاعض المسلمين ضعف مفهوم الجهاد النضالى،بمفهوم قوة القبيلة وانطلاقها لدفاع عن العرض والارض والدين.والعلماء الحادبون على الاسلام كانوا يلجؤون الى قوة القبيلة لحماية دعوتهم وارواحهم،مما انتشرت ظاهرة علماء لكل قبيلة،وقبائل للعلماء،وهذه الظاهرة ادت الى ارتباط الاسلام بالقبيلة اكثر فأكثر بل اصبح الاسلام جزء لا يتجزء من النسيج الاجتماعى فى القرن الافريقي،لعل هذا ما ادى الى حفظ الاسلام فى تلك المنطقة فى ظل غياب مؤسساته التعلمية منذ قرون طويلة.وإن كان احتضان القبيلة له اقعده عن مهام بناء الدولة التى تحمى الجميع اى القبيلة وأفرادها،الوطن ومصالحه،فضلا عن ان الدولة اكثر قدرة فى بناء الحضارة وحماية المجتمع وثقافته ومصالحه الاقتصادية والحياتية،الا ان اسلام القرن الافريقي الى اليوم يجد صعوبة فى الخروج من شرنقة القبيلةالى سعت الدولة فى الممارسة والتطبيق،لذا تحتاج المنطقة الى اعادت القراءات فى كثير من مساراتها الفكرية والثقافية والعملية.
من هنا يمكن القول ان مفهوم الاسلام السياسي تأثر بدوره بهذه النشأة التاريخية،لذا نشاهد قديما وحديثا ان شعار الاسلام كان يرفع فى القرن الافريقي من اجل حماية مطالب محلية ورفع مظالمهم السياسية والاقتصادية اكثر منها مطالب ايدلوجية عالمية كما هو شأن كثير من الحركات الاسلامية فى كثير من العالم،وإن كانت القوة المعادية والمغتصب لحقوق المسلمين فى القرن الافريقي،دوما تحاول وصف هذه الاحتجاجات تحت شعار اسلامى بأنه مستورد من خارج المنطقة،بل تحاول بأن تعطيه صبغة ايدلوجية (ارهابية) بإعتباره مصطلح عصرى سهل التصديق لدى الدوائر الخارجية_ التى قد لا تفرق بين فروقات مناطقية وخصوصية الشعوب من منطقة الى اخرى فى العالم الاسلامى المترامى الاطراف_ من اجل جلب المساعدات المالية والسياسية،اذا اردت ان تقضى على الخصم السياسي بكل سهولة فى هذا الزمان ما عليك الا ان تصفه بأنه ( اسلامى – ايدلوجى – ارهابى …. ) وان كانت تلك الشعوب المظلومة فى حقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية لا تفقه شئ فى هذه المسميات والمصطلحات.رغم ان مصطلح الاسلام لدى شعوب القرن الافريقي مفهوم مجتمعى اكثر منه مفهوم ايدلوجى،وهو يرفع لحاجة داخلية ومحلية صرفة من اجل توحيد الصف وتاليف القلوب و رد المظالم والاضطهاد،انه مفهوم فى غاية الاعتدال، لايهدف الى ظلم الاخرين بقدرما يريد حقه الطبيعى فى الحياة لان سلامة الاوطان لا تقوم الا تحت راية العدل والسلام والمحبة.
على النخب السياسية المسلمة فى القرن الافريقي ان توضح مقاصدها من مفهوم الاسلام السياسي لديها بشكل واضح وبكل الوسائل الدبلوماسية والاعلامية، حتى لاتكون هى وشعوبها ضحية الخلط والاختلاط الذى يسود العالم فى هذا العصر لشدة تقارب المصالح وتضاربها،او ان تطور من مفهومها النظرى بحيث يحقق لها الاهداف المرتقبة لشعوبها بأقل خسائر ممكنة بإعتبار ان السياسة هى فن تحقيق الممكن.وعلى المثقفين والاكادمين من ابناء المسلمين فى القرن الافريقي ان يساعدو شعوبهم فى ممارسة السياسة الوقعية والارتفاع عن المثالية العلمانية من أجل الانتقال الى علمنت الفعل السياسيى،بإعتبار ممارسة السياسة هو تحقيق المصالح وليس تنازل عن الحقوق،ومفهوم المواطنة يجب ان يبنى على اساس التوازن والعدل واعطاء كل ذى حق حقه فى السيادة والثقافة والاقتصاد والحق الاجتماعى.
وجملة القول اذن ان مفهوم الاسلام فى القرن الافريقي موحد فى شعاره، ومسالم فى نشأته،وخليط مع النسيج الاجتماعى فى تاريخه، ومعتدل فى مطالبه،ومدافع عن حقوقه،ومنصف فى تعامله مع الغير،ومتطلع فى محبة اخوته مع العالم القريب والبعيد.
Nagash06@maktoob.com
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=41049
أحدث النعليقات