قولٌ على قول أبوراي
مناسبةَ هذا الحديثِ بهذا العنوان، جاء من حَدَثِ دعوةِ العودة إلى الوطن.
حَدَثُ دعوةِ العودة إلى الوطن الحدثُ الذي قدمه إلى الجمهور الإرتري منبر الخريجين في 19/أغسطس/2022، وتصدى للحديث عنه صلاح أبوراي.
الحديثُ كان مفاجئًا للجميع للأسباب التي سوف يأتي بيانها تباعًا-بإذن الله-.
في هذا الشأن وجدتني لديَّ ما أقوله للجميع على النحو التالي عما كان حديث أبوراي:
أوَّلاً، أن أخانا صلاح لم يقل لنا مَنْ يُمثِّل من التنظيمات الإرترية الفكرية والسياسية، أي–قوى المعارضة-، وبينما هو بهذه الضبابية قد أبدى حماسًا شديدًا بكلامٍ مرتَّبٍ يدلُّ على أنه قد تمت فعلاً دراسته، لم يكن كلامه إذًا كلامٌ من جنس خواطر مما يدور بين مجالس سمرٍ في بيوتٍ أو مقاهٍ، وأن اللقاء قد طال أخذًا وعطاءً بينه وبين المتحدثين، وقد رفض غالبُ المتحدثين فكرة العودة بمثل ما قاله الأخ صلاح، لكون كلامُهُ لم يكن مؤسسٍ على فكرٍ علميٍّ وعمليٍّ، بقدر ما كان كلامًا عاطفيًّا طنطن فيه كثيرًا حول طول الزمن ونحن لم نَعُدْ إلى الوطن الذي تحقق استقلاله الوطني ببطولة الجبهة الشعبية بزعم كونها هي التي حررت إرتريا من الاستعمار الإثيوبي! وهو حتمًا زعمٌ باطلٌ قد أسسه عن حقائق التأريخ بالتزوير أو التجاهل، وعن هذا أبدأ قولي بالاستفهامات التالية:
1- هل يستفاد من كلامه أنه يجهل عمَن قرر منح إرتريا استقلالها الوطني؟
2- هل يستفاد من كلامه أنه يجهل لماذا تم تقرير منح إرتريا استقلالها الوطني؟
3- هل يستفاد من كلامه أنه يجهل كيف ومتى تم تقرير منح إرتريا استقلالها الوطني؟
4- هل يستفاد من كلامه أنه يجهل الأسباب التي أوجبت الإقرار بقبول استقلال إرتريا؟
5- هل يستفاد من كلامه أنه يجهل ما جرى في عام 1974 فأوجد قراءات جديدة؟
أحسب أن كثير منَّا أيضًا يجهلها، ويجهل أين حدثت، فما هي يا ترى تلك الأحداث؟ وفي أيِّ بلدٍ حدثت؟ وكيف غيرت مُجرى التأريخ؟ وما الذي أحدثته؟ ومَن هي الجهة الصانعة لواقع تلك الأحداث؟ هذا ما سأبينه في التالي لنشترك في فهمٍ مؤسسٍ بقراءة كيف أن مادة التغير كانت دولة إثيوبيا بإسدال الستارة على ماضيها لصناعة مستقبلها بإعادة ترتيبها من داخلها من قبيل التجراي، وبإعادة النظر في إرتريا التي ضمت إليها.
1- في عام 1974 انتهى النظام الملكي الإثيوبي بالانقلاب على هيلى سيلاسى ثم موته.
2- في هذا العام تحولت إثيوبيا من نظام ملكي كنسيٍّ إلى جمهورية شيوعية ضد الملكية.
3- في هذا العام أصبح للاتحاد السوفيتي شأن في البحر الأحمر بتحقيق إقامة حلفٍ شيوعيٍّ ثلاثيٍّ بين شيوعية الصومال، واليمن الجنوبي، وإثيوبيا حديثة الشيوعية، وهو الحدث الذي حقق مزاحمة السوفيت للأميركان في البحر الأحمر ودول الخليج الغنية بالبترول والغاز والسوق المالية والسوق الاستهلاكية.
4- في هذا العام سعت أميركا حثيثة من زاوية استخباراتها-CIA-للحؤول دون تمكين جهود أحلام السوفيت في هذا الإقليم، وترتب على هذا البعد ضرورة إسقاط نظام حكم منجستو الشيوعي الذي لم يكن ممكنًا إلا باستقلال إرتريا لقطع الطريق عليه، ومن ذلك كانت الدعوة إلى توحيد تنظيمي جبهة التحرير الإرترية وقوات التحرير الشعبية، فكانت أحداث عام 1975 من أجل توحيد التنظيمين من أجل منح إرتريا استقلالها لكون التنظيمين كانا مصنفين لدى الاستخبارات الأميركية والدول العربية المباشرة للإرتريين بأنهما ذوي اتجاه عربي إسلامي دون النظر إلى وجود الشيوعيين الذين كانوا هنا وهناك، وهو الأمر الذي قلل من شأنه الأميركان، وقد أوكلت أميركا مهمة توحيد تنظيمي إرتريا إلى جامعة الدولة العربية التي وجدت ضالتها في استقلال إرتريا التي على وجه الإجمال كانت ترغبه.
بناء على تطورات هذه الأحداث بتدخل السوفيت في لعبة تحريك أحجار رقعة الشطرنج، كانت قصة مؤتمر توحيد الإرتريين في الخرطوم المعلوم لدينا أجمعين، ذلك المؤتمر الذي باء بإخفاق عظيم بسبب وجود الحزب الشيوعي الثوري تنظيم في قوات التحرير الشعبية، ووجود الحزب العمل الشيوعي في جبهة التحرير الإرترية، ذلك لِمَا كان لهما من سيطرة كبيرة في التنظيمين، وهو الأمر الذي يصعب الحديث عنه في مثل هذا المقال.
قلتُ أن تقرير استقلال إرتريا في هذه الحقبة من جهة الأميركان تَمَّ من زاوية نظر الـ CIA، أي برؤية استخبارية فقيرة البعد الإستراتيجي السياسي الذي يترجم سيرة أميركا التي تعتمد على إِعْمَال سياسة القتل والقهر الذي بموجبه كانت نشأة دولة أميركا بشرط إبادة الهنود الحمر، وفي الحرب الثانية بعد تحقق عجزها العسكري أقدمت إلى سياسة حسم واقع صعوبة الحرب بإبادة مدن يابانية آمنة بالقنابل ذرية أسقطتها في هيروشيما ونجزاك.
هنا تدخل أهل السياسية من خارج أجهزة الاستخبارات الأميركية من جهة الكنائس عامة، ومن جهة الكنيسة الإنجيلية-Evangelical Church-خاصة، وكذا إسرائيل من زاوية رؤية خاصة بطبيعة الصراع بينها وبين الفلسطينيين في الشام على وجه الإجمال، وهذا ما نجح فيه حلفاء جبهة التجرينيا ممثلين في تنظيم الشعبية، وحلفاء إخوانهم التجراي ممثلين في تنظيم ويانى تجراي، سواء عملوا مجتمعين أو متفرقين.
أمَّا لماذا خاصة الكنيسة الإنجيلية، فتلك قصة كبيرة نشأت بعض أحداثها التي تعنينا بعد حرب عام 1967 وعام 1973 بين العرب وإسرائيل اللاتي انتهت نتائجهما لصالح إسرائيل بتدخل أميركيٍّ مباشر، ثم مطالبة نيكسون لإسرائيل بعوض لكون أميركا هي مَن حسمت الحرب لصالح إسرائيل ضد العرب، وقد كان باعث طلب أميركا بالعوض، من أجل أن تحيد إسرائيل الجالية الإسرائيلية الأميركية التي كانت ضد حرب أميركا في فيتنام، وقد ذكرتُ بعض الشيء في كتاب لي أرجوا الله أن يصدر قريبًا بعد أن تآمر على إصداره البعض.
لقد كان تأسيس موقف الكنائس وإسرائيل ضد فكرة استقلال إرتريا برؤية الاستخبارات لكون ذلك لن يكون مفيدًا لهم أجمعين في المدى البعيد، وكذا لنصارى التجراي تجرينيا في إثيوبيا وإرتريا، وإن كان لا بدَّ من استقلال إرتريا، فلا بد من صناعة تنظيم موالٍ لنا داخل الثورة الإرترية من أبناء التجرينيا النصارى ليتم استقلال إرتريا بقيادتهم، وعلى هذا التنظيم القضاء على التنظيمات ذات التوجه الإسلامي العربي؟!
قد يقول قائل، من أين لك هذه المعلومان يا أبا أسامة، أقول له من الساحة الإرترية وما يتصل بها بمثل التقرير الذي حصلت عليه من أميركا يوم كنت في كندا، من جهة، ومن جهة أخرى إذا كنتَ لا تقرأُ ولو قراءة تقليدية، أو إذا تقرأ ولم تكن أهلاً لاستقراء الأحداث التي تملأ آفاق السياسات الدولية، فالأمر إذًا يعود إليك، لذا أقول لك: كيف تجهل هذه الحقائق العظام التي غيرت مُجرى التأريخ، ألم يكن بوسعك إذ لم تقرأ أن تسأل عن أسباب التغيرات؟
نعم، على بناء على ما قررته شركات التنقيب على البترول في احتفالها على باخرة في شمال مدينة مصوع، ثم إخفاق مخطط مؤتمر التوحيد في الخرطوم عام 1975، تم إنشاء تنظيم الجبهة الشعبية بقيادة أسياس أفورق، وهو الذي تبنى القضاء على قوات التحرير الشعبية من داخلها باستيلاء حزبهم المدعو في حينه: (سلف ناظنت) على مقاليد أمر شؤون قوات التحرير الشعبية يوم كان أسياس رئيس اللجنة الإدارية المسؤول عن جيشها، ثم تم الإعلان عن تنظيمهم الخاص باسم: (الجبهة الشعبية لتحرير، وبهذا انقسم تنظيم قوات التحرير إلى جناحين أحدهما بقيادة عثمان صالح سبى-رحمه الله-، والآخر بقيادة أسياس، وبهذا أيضًا تم القضاء على جهة التحرير الإرترية من داخلها بقيادة حزب العمل الشيوعي في عام 1981 بعد أن قضى حزب العمل على شظايا التنظيمات ذات التوجه العربي الإسلامي، نيابة عن الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا ومَن وراءها، وأصالة عن نفسه بسبب عدائه للإسلام والمسلمين بغية إخلاء الفضاء الإرتري من أي قوةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ تمهيدًا لمحادثات تقرير مصير إرتريا؟!
بعد هذه الأحداث المتلاحقة من عام 1974 وحتى القضاء على جبهة التحرير الإرترية عام 1981 التي كانت تمثل رمز النضال الوطني لدى المسلمين خاصة، تم التوجه إلى المخطط السياسي الأكثر وعيًا وتنظيمًا، ذلك المخطط الذي عُرف بمحادثات أتلانتا، وبه تقرر استقلال إرتريا بترتيب على أن يكون بقيادة تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، وهناك معلومات وأسرار جمَّةٍ في شأن استقلال إرتريا قرأها الملأ بعناية ودقة، وهي التي تُعنى بشأن المسلمين، ولو أني دخلتُ في قراءتها فسوف تكلفنا ما لا يقل عن خمسين صفحة، لذا سأتركها لأجراء مستقل آخر-بإذن الله-بقراءة مستقلة وبعنوان مستقل، لاسيما أنها صعبة فتحتاج إلى تهيئة العقول لفهما، وهذا ما أوددتُ لو أننا أجريناها في لقاء مباشر مفتوح للكشف عما قاله رئيس وفد الجبهة الشعبية لتحرير–الأمين محمد سعيد-عن محادثات أتلانتا عمن قرر استقلال إرتريا في مقابلة أجرتها معه سفارة دولة الإمارات العربية بواشنطن عن المحادثات السياسية التي نظمتها الولايات المتحدة الأميركية، وأسندت رعايتها إلى رئيسها الأسبق جيمي كارتر، وهي المحادثات التي كانت بين تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا وإثيوبيا في عهد منجستو هيلى ماريام القائد العسكري الشيوعي، وقد حصلتُ على صورة من تلك المقابلة المطبوعة على الأوراق الرسمية للسفارة عندما كنت في تورنتُ بدولة كندا؟
وكذا كلام صلاح عن حزب الجبهة الشعبية الذي أحبط مخطط وياني تجراي الذي كان يريد غزو إرتريا حسب زعمه، ولهذا مدح كثيرًا الجبهة لتحرير إرتريا، وحزبها الحاكم بعد إذ خصاهما بفضل التحرير ثم رد غزو وياني تجراي، وكل ذلك زعم باطل إذ لم يشير إلى نضال الشعب الإرتري بقيادة جبهة التحرير الإرترية وما تفرَّع عنها من تنظيمات قد صنَّفتها الاستخبارات الدولية والعربية أنها ذات: (بعد عربيٍّ وإسلاميٍّ)، وما إن صنفوها كذلك فقد قرروا قطع الطريق دونها لمنعها من الوصول إلى الحكم خشية أن تضاف إلى العرب والمسلمين في زمن صراع الثقافات في الشام، وإلى هذا انتهى حوار الساعتين وزيادة بين صلاح ومحاوريه.
ثانيًا، في الشأن أيضًا وجدتني لدي قراءات أخرى، فإليكموها:
1- أن الأخ صلاح بالتأكيد لم يمثل نفسه، ولا أفرادٍ من صحبه الذين ربما أغضت مضاجعهم هموم وآلام وأحزان أمتهم خلال العقود الثمانية الخوالي والحال لم يتغير، بل حتمًا يُمثلُ جهةٍ مؤسسةٍ بلا أدنى ريب عقلاً ومنطقًا، وفي هذا وددتُ لو أنه قال لنا مَن يمثل لكي نحكم على خطة العودة من خلال الجهة التي يمثلها وبالفكر الذي قاله.
نعم، من هي الجهة التي يمثلها لكي نعيد قراءة فكرها وسيرتها وأعمالها على أرض الواقع، فنحن المسلمون نملك الأدوات اللازمة لمثل هذا العمل، ففي ديننا قواعد شرعية لمعرفة وقياس الأشياء والأفكار والأعمال، إذ لدينا قاعدة تقول: (الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره).
2- كونه لم يقُلْ لنا مَن يُمثِّلْ، فهذا التَّعتِيمُ والتَّغييب يُستنتجْ منهُ أن هذا العمل بهذه الظاهرة، فيه دلالة مؤامراتٍ لخلق واقع مزيد من التفتيت والتشرذم والتمزيق لقوى العمل الإرتري، وبالتأكيد عملٌ من هذا القبيل ليس إلاَّ تمهيدٌ لما هو أسوأ وأكبر منه بصناعة تنظيم يحمل فكر دعوة العودة بلا هدف معلوم يُحقق مطالب الإرتريين الذين أُخْرجوا من ديارهم قسرًا وقهرًا، وصناعة تنظيمٍ آخر ضد دعوة العودة مِن ذات المُخَطِّطِ المجهول، الأمر إذًا شرٌ عظيمٌ في المستقبل القريب والبعيد، لاسيما إذا علمنا أن تنظيمات من هذا القبيل لا بد أنها من أعمال الاستخبارات عادةً، وهي التي سوف تُغذِّي هؤلاء وهؤلاء حتى تُفني به الإرتريين المسلمين بجعلهم وقودًا لنار حرب يُرادُ لها أن تستعر في شرق السودان بغية القضاء عليهم كما هو يجري الآن بين أظهرنا على أرض الواقع، وكذا القضاء على من بَقِيَ منهم في إرتريا!
3- هنا سؤال يقول: تُرى مَن هي الجهة المستفيدة من هذا العمل الخطير الذي بدأه أبوراي بهذه الدعوة الفجة في ظاهرها، بيد أنها تُنبي بعد مؤسسيِّ في عميق عند التدقيق والتمحيص لما جاء فيها بتصنع البراءة والحرص على الأمة.
بالقراءة المعمَّقة لا ولن يُعقل أن يكون هذا المخطط الجبار لحسم مصير المسلمين في إرتريا وشرق السودان إلا لصالح أهدافِ الأعادي المحليين والإقليميين والدوليين المُوجِّهين، ذلك لأنه يُعنَى بصناعة واقع مستقبل المسلمين في هذا الإقليم باستغلال حاضرهم المتردي وإن كان بدون اختيار، بيد أن الحقيقة المرة، أن مَن لا يصنع واقعه في حارضه لمستقبله، يصنَعُهُ لهُ عدوَّهُ؟
ترى مَنْ المستفيد ومَنِ الخاسر؟
المستفيد الأول، هو عنصر التجرينيا الذي دأب يرفض فكر التعايش السلمي في وطن مشترك بينه وبين المسلمين الذين هم أصحاب الفضل والحق الأعظم، لإنقاذهم إرتريا من الذوبان في الكنسية الإثيوبية بمخطط التجرينيا حين عملوا لضمها إلى إثيوبيا أو بتمزيقها بين إثيوبيا والسودان المصري البريطاني عندئذٍ، ذلك بناء على المكون الفكري الناشئ عن رابط الدين النصراني ولجهة التجرينيا مع أكسوم بين التجرينيا والتجراي، ورابط الدين الإسلامي واللغة العربية مع إقليم شرق السودان في الخريطة المعاصرة، إذ لم يكن للسودان عندئذٍ دولة مستقلة.
المستفيد الثاني، هو القوى الدولية التي تحكم العالم، فهي إذًا تحمي مصالحها الإستراتيجية في الجزيرة العربية، لكون الجزيرة العربية مصدر طاقةٍ بتروليةٍ عالميةٍ، وأنها سوقًا ماليًّا ضخمًا، وأنها سوقًا استهلاكيًّا كبيرًا يستوعب كثير من المنتجات.
المستفيد الثالث، هو قوى إقليمية حليفة للتجرينيا غربي البحر الأحمر في عموم إثيوبيا وتفاصيلها، وشرق البحر الأحمر في الشام حيث إسرائيل، وفي هذا الشأن العظيم ليَ كلامٌ قد ذكرتُهُ في كتاب لي سيرى النور قريبًا-بإذن الله، وهو ما قد قلتُهُ كثيرًا مما ربما يشكك في كلامي.
ولمَّا كان هؤلاء هم المستفيدون من الحرب المخطط لها في شرق السودان وإرتريا لتقرير مصير هذا الإقليم بقتل رجاله، وإرجاعه إلى الخلف لبضع عشرات من السنين، فحتمًا ثّمَّ خاسر في هذه الحرب التي تكاد أن تطل بوجهها الكالح على الإقليم.
مَن يا ترى هؤلاء الخاسرون؟
الخاسر الأول في هذه الحرب، هم المسلمون في إرتريا وشرق السودان بما لا يحتاج إلى بيان، بل حسبنا إعادة قراءة واقع الإقليم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى حينه، سواء بما كسبت أيدي أبناء الإقليم في إرتريا بمثل الحرب الأهلية التي أهدينا نتائجها إلى الخصم المحلي، والعدو الإقليمي، والطامع الدوليِّ، وبمقتضى تلك الحرب الأهلية كيف تم تمزقنا تمهيدًا لمطاردة بعضنا البعض، وأخيرًا تم القضاء على رمزنا الوطني النضالي ممثلاً في جبهة التحرير الإرترية بعد أن قضت هي على شظايا التنظيمات.
الخاسر الثاني في هذه الحرب، هو السودان الذي سوف لن يكن بوسعه درأُ مفسدة الحرب عن جزء عزيز من وطنه، ذلك لأن السودان قد أسس لهذه الحرب بقراءة سابرةٍ للواقع منذ استقلاله عام 1956، ذلك بلا استكبار على حقائق التأريخ وحمية جاهلية، وهذه الحقيقة قد أفردتُ لها صفحات في الكتاب الذي أشرتُ إليه بالتوثيق والقرينة.
الخاسر الثالث في هذه الحرب، هم عرب الجزيرة خاصة، والدول العربية عمومًا، فهؤلاء لا يبالون بقراءة المستقبل من زاوية بعده الإستراتيجي في شأن أمنهم القومي ومصالحهم الإستراتيجية، أقول ذلك بتجربة الثورة الإرترية معهم، إذ كانت صلتهم بالثورة الإرترية بأجهزة استخباراتهم التي لم تفلح إلا ضد بعضها، هذا وهم الحليف الطبيعي الإستراتيجي لإرتريا كما هو حال الآخرين مع كل بني ملتهم وأمنهم وأطماعهم، كل ذلك بالتأسيس على موقع أهمية الجغرافية السياسية لإرتريا.
إن دولة إرتريا تطل على الحجاز من جهة جبال الشمال الإرتري، وأن مياهها الإقليمية جزءًا من المتحكمين في البحر الأحمر من مضيق باب المندب وحتى قناة السويس، مرورًا بشواطئ وموانئ العرب حتى إيلات في الشام، وكيف أنهم تجاهلوا خطورة أرخبيل دهلك الذي ترفرف فيه اليوم رايات دولة أخرى على خلاف حتى درجة العداء معهم.
هل يعني هذا أننا ضد العودة إلى الوطن؟
كلا وألف كلا، بل نعم للعودة ولكن؟
نعم للعودة ولكن، يجب أن يَعلمَ عِلْمَ اليقين كل مَن يدعوا إلى عودة الإرتريين عامة، واللاجئين خاصة إلى وطنهم، يجب أن يعلم الحقائق التالية، ثم ليعمل بنظم موجبها، وهي شروط مسبقة للعودة الجمعية المنظمة، أي لستُ أعني عودة الآحاد، وأمَّا أهم الشروط المسبقة للعودة الجمعية فهي:
أَوَّلاً، من المعلوم بالضرورة أننا نحن المسلمون لا نرضى بالضيم في ديننا، أي لا نعود إلى وطنٍ نُجرَّدُ فيه من خصائص ديننا، فلا نستطيع أن نقيم فيه شعائر ديننا الجمعية والفردية بمظاهرها ومشاهدها، إذ لا فائدة من وطنٍ لا نَذُبُّ فيه عن ديننا وأعراضنا وإرثنا الثقافي، بل يراد لنا أن نكون فيه كالبدون، أو كمستوطنين وليس مواطنين أصليين، إذ المستوطنون عادةً لا حقوق لهم، لأنهم غير معترف بهم.
نعم، لا نرضى بعودة نحن فيها سفالاَ مطأطئ الرؤوس، فلا نقوى إلى النظر في أمر مشايخنا ومُعَلِّمينا الذين تم تغييبهم في سجون الظلم والظلمات منذ فجر الاستقلال بحجة الإرهاب والطرف الديني الذي افتعله الغرب الوثني الماجن بمثل أحداث سبقت أحداث حادي عشر سبتمبر عام 2001 ثم أعقبها غزو أفغانستان، ثم سجن المجاهدين في جزيرة جوانتانامو الكئيبة، ثم غزو العراق، ثم تباعًا ما تليَ العراق إلى يومنا.
نعم، لا نرضى بعودة نحن فيها سفالاَ مطأطئ الرؤوس، فلا نقوى إلى النظر في أمر سجناء الفكر والرأي الذين حين أرادوا إصلاح شؤون البلاد والعباد من داخل وخارج الحزب غُيِّبوا في السجون بافتعال الخيانة والعمالة بعد إسقاط كافة حقوقهم الفكرية، ثم أن مَن يكيلون بمكيالين ضموا هذا الحزب في إحدى لجان حقوق الإنسان!
ثانيًا، نعم للعودة ولكن، من المعلوم بالضرورة أننا نحن المسلمون ثقافتنا العامة، وغالب شهاداتنا العلمية باللغة العربية التي اخترناها بِعلمٍ منذ تقرير مصير مستعمرات إيطاليا بعد الحرب الثانية، وقد أقرها الاستعمار الغربي لكونها رغبة السكان الأصليين، فكيف نرضى بضيمنا وقسرنا في لهجة التجرينيا التي ليست لغة علمٍ ولا أدبٍ ولا فنٍ، وكيف نقبل برفض حزب الجبهة الشعبية الحاكم بسياسة الأمر الواقع، خيارنا للغة العربية التي تمثل رمز قوتنا، وأنه لم يفعل ذلك إلاَّ لتمكين رمز قوته لهجة التجرينيا؟
ثالثًا، نعم للعودة ولكن، ما لم يُقَرَّرْ أمر اللاجئين كونه من أهم أولويات العودة للعمارة، ومن أجل ذلك لا بد من تحرير خُططٍ علميةٍ وعمليةٍ لتوطينهم ودعمهم بما يضمد بعض جراحاتهم وخسائرهم الحسية والمعنوية في الأنفس والأموال، وأن عودة اللاجئين لدينا يتكامل مع أرض الوطن واللغة العربية، وإن لم يكن شأن اللاجئين من أولى الأولويات، فمن يا ترى المعني بالعودة، بل هم، بل هم، بل هم؟
رابعًا، نعم للعودة ولكن، لا بد من العلم ثم العمل بأن الوطن للجميع، وأن أملاك المسلمين في أرضهم الإرثية التي تمت مصادرتها، وتغيرت معالمها، وبُني في شُرفاتها كنائس للاحتجاج بها تقادمًا كونها أرضٌ نصرانيةٌ مرفوضٌ جملة وتفاصيل، لا بد إذًا من تقرير إعادة كل شيء إلى أصله، أي لا يمكن العودة إلى ذُلٍّ وهوَانٍ وضيمٍ ومزيد خراب وصغار وتهميش وجوعٍ وخوفٍ، كل ذلك لأن التجرينيا لا يعترفون بأن المسلمين شركاءهم في الوطن-إرتريا-، بل هم الشريك الأكبر.
أقول أن المسلمين هم الشريك الأكبر بناء على شاهد حقائق التأريخ الثابتة، وليس بما يدعيه التجرينيا بالتدليس والتلبيس، إذ المسلمون هم مَن أبقى إرتريا بما تتمتع به اليوم من واقع السيادة بعد إذ أراد النصارى محوها من الخريطة السياسية، إما بضمها جملة إلى إثيوبيا سياسة وتديُّنًا، أو بتمزيقها بين إثيوبيا والسودان المصري البريطاني كذلك تديُّنًا.
خامسًا، نعم للعودة ولكن، إلى دولة قانون يحكمها دستور وطنيٌّ صادر من برلمان وطني يمثل كل المكون الوطني بخصائصهم العلمية والثقافية والتأريخية.
سادسًا، نعم للعودة ولكن، بعد الاتفاق على دستور انتقاليٍّ من قَبِيلْ الدستور الذي ناقشناه في أواسا بإثيوبيا عام 2011 في مؤتمر المعارضة، تلك المسودة التي كنتُ أنا –بفضل الله-من أكبر المدافعين عن فقراتها الدستورية الواقعية، ليس إذًا غير دستور دولة إرتريا مَن يحسم هذه المطالب، أي لا مكان للاندساس خلف العواطف.
سابعًا، نعم للعودة ولكن، يجب أن يكون من المعلوم، أن الكثير والكثير مما قرره وطبَّقه حزب الجبهة الشعبية في الوطن، مرفوضٌ من قبل المسلمين وغيرهم كثير، ومن ذلكم: أن أسياس منح أبي أحمد كل إرتريا عام 2018 عند لقائه به في إثيوبيا قُبَيْلِ حرب التجراي، وقد ظَهرَ في ذلك اللقاء وهو يضحك بما لم يضحك مثله قبله وبعده، ومرفوضٌ أيضًا تأجيره أرض إرتريا لقواعد عسكرية وتجسسية إقليمية ودولية.
فهلاَّ أمسك أخونا صلاح أبوراي عما يشبه تضليلاً ربما لكوننا نعاني مِن ضعفٍ سياسيٍّ وفكريٍّ واضح، وهذا لا يعني أننا نجهل حقائق التأريخ الإرتري، وما ضعفنا اليوم إلاَّ لترق قياداتنا في تنظيمات عاجزة غُلب فيها الأحرار، وآخرون جهلة لا يدرون ما يجري؟
أبو أسامة المعلم
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=46567
شاكر لك هذا المقال الاكاديمي الجيد والمؤسسة على تاصيل موضوعي بوركت