كتاب هام يتحدث عن هدر الإنسان 2/3
مراجعة: زين العابدين محمد علي “شوكاي”
الفصل الرابع ـ الاعتقال والتعذيب
أساليب العنف المادي من خلال الاعتقال والتحقيق والتعذيب والسجن، هدر لإنسانية الضحية. “التعذيب ينطوي على إنكار إنسانية الإنسان المعتقل. حالة خارجة عن كل اعتبار إنساني، نحن هنا عند مستوى إلغاء إنسانية الإنسان” (ص128)…. والجديد فعلاً هو انتشار أساليب تعذيب خفي تتوسل تقنيات تنال من التوازن النفسي، وصولاً إلى ضعضعته، أو حتى تدميره. وبدأت تشيع برامج التعذيب وغسل الدماغ التي تقوم على مبادئ التحكم في السلوك وتغييره. كما تقوم على معطيات الطب النفسي، وتأثير العقاقير النفسية، وأصبح هناك خبراء تعذيب وتدمير نفسي يعملون جنبًا إلى جنب مع الجلادين الجسديين (ص129). والحالة المثلى للتعذيب هي حين ينتهي الأمر إلى تطويع الضحية وتحويله إلى متعاون أو مخبر. وبالطبع فإن غسل الدماغ يذهب أبعد من ذلك، حيث يستهدف تغيير القناعات نهائيًّا وبشكل قسري (ص130). أما الدلالة الثقافية للتعذيب فتهدف إلى تحقير الضحية وإذلالها وتجريدها من دلالتها الإنسانية (ص131).
يحاول الجلاد أن يكون مهنيًّا ناجحًا أمام التحدي العنيد الذي يقاوم بصلابة، ولا يحب الجلاد الضعفاء الذين ينهارون منذ اللحظة الأولى، بل يزدريهم ويعتبرهم غير جديرين بممارسة سطوته عليهم…. وأكثر ما يثير جنون الجلاد فشله في كسر مقاومة السجين. هو يتفنن في التعذيب كي يحس بالظفر والقوة والسطوة التي لا تقاوم (ص154)،
وهنا تتجسد سادية الجلاد. تحقيق الذات يتحقق من خلال إنزال الألم بالضحية؛ تكريس للأنا وهيمنتها المطلقة. … يسعى للاطمئنان على سطوته المطلقة مع الإحساس الدفين بالتهديد والخواء الداخلي والعجز واللاقيمة حيال الضحية (ص155).
الجلاد المتخصص بالتعذيب نكرة أمام رؤسائه وزعيمه، إنه مجرد أداة بالنسبة إليهم، تفقد قيمتها عندما تصبح غير فعَّالة…. أما خبراء غسل الدماغ من أطباء وأطباء نفسيين، ومحققين، فهم بدورهم مجرد أدوات تنخرط في اختبار الكفاءة والفاعلية كي تشعر بذاتها وتحققها، تحت تغطية العمل من أجل القضية السامية أو خدمة الزعيم. إننا هنا أيضًا بصدد حالات مَرَضيَّة من تحقيق الذات وإثبات الجدارة، حيث يتعطل الحس الخلقي والرباط الإنساني. يدرب هؤلاء عمومًا على إماتة كل إحساس إنساني لديهم، ويغسل دماغهم من مفهوم العدالة والرحمة (ص156).
على أن مقاومة الجلادين وتكوين الحصانة ضد التعذيب تقوم على أربعة أركان: توفر عقيدة تتسامى على الوجود المادي؛…مرجعية قيادية يتماهى بها السجين وينتمي إليها؛ الجماعة المرجعية المتمثلة في أخوة القضية أو العقيدة، والتي توفر “نحن مرجعية”. هنا تكتسب الذات قوة ال”نحن” ومناعتها وتستمد منها الحصانة من خلال الانتماء. الضحية لا تظل كيانًا فرديًّا معزولاً قابلاً للتحكم فيه والنيل منه. ثم تأتي الأسرة، وخصوصًا الأم، والبطولة لا تنفصم عن الأمومة الراعية (ص137).
الفصل الخامس – هدر الفكر
هدر الفكر أهم ركن في ثلاثية الهدر الأخطر. أي هدر الفكر والوعي والطاقات. إنها تصيب حيوية المجتمع ونمائه في الصميم. إذ هي تتركه في حالة انكشاف وفقدان المناعة تجاه الضغوط الخارجية المتنامية. … قوة المعرفة هي أساس اقتدار المجتمعات راهنًا، وأن درجة الوعي ويقظته هي الضامن لنفاذ الرؤى وفاعليتها واتساع أفقها. لا يمكن لاستبداد أن يحكم سيطرته، ولا يمكن لعصبيات أن تستفحل وتستنزف قوى المجتمع وموارده ومؤسساته إلا من خلال هدر الفكر والوعي والطاقات (ص163). تكمن الخطورة المنهجية في أن الهدر الثلاثي ـ الفكر والطاقات والوعي ـ تظل خارج التركيز، حيث يسلط الضوء على الأبعاد السياسية من حرية وديمقراطية، وعلى الفساد الاقتصادي (من نهب واستغلال ورشاوى)؛ في حين يتعين تسليط الضوء على الهدر الثلاثي (ص164).
فقط المعرفة وبناء الاقتدار المعرفي هما الضمانة للحفاظ على المكانة ولعب الدور راهنًا ومستقبلاً. .. لم يعد هناك إعداد معرفي مكتمل وناجز، بل جولات متتالية ومتصاعدة من التطوير والتحول يكادان يجعلان السباق عسيرًا (ص165). .. فقد ولى عهد المرجعيات التي كانت تشكلها الأجيال السابقة إلى غير رجعة، وبالتالي عهد النقل والتلقين الذي كان يسبغ عليه طابع اليقين. .. ولى عهد الجواب الواحد والاستنساخ المعرفي للقديم في طبعات متكررة. وكل تقصير عن اللحاق بقطار الاقتدار المعرفي وتحولاته وطوفان أسئلته الناسفة للثوابت والعاصفة بالحدود لا يعدو كونه بطاقة ترشيح لعضوية المستغنى عنهم (ص166).
الفكر بما هو نتاج التفكير، يخدم غاية كبرى في سيطرة العقل على العالم وظواهره، وبالتالي سيطرة الإنسان على ذاته وواقعه، وصولاً إلى صناعة مصيره. وعليه يقود هدر الفكر إلى فقدان السيطرة، وإفلات زمام تسيير الحاضر واستشراف المستقبل وصناعته. وبالتالي هدر الكيان الإنساني ذاته من خلال رده إلى مستوى النشاط العصبي الموجه لإشباع حاجات البقاء البيولوجي. … يعطل استخدام الدماغ، ولا يبقى سوى الجزء المسمى ” الهيبوثولاموس”، وهو كتلة في وسط الدماغ لا يزيد وزنها عن خمسة غرامات، أي ما يشكل خمسة وثلاثين بالمائة من الواحد بالمائة من وزن الدماغ البشري الراشد. وهذه تضبط وظائف الأكل والنوم والجنس والانفعال (ص167). و يتناسب التخلف طرديًّا مع هدر الفكر. … ثبت أن تشجيع الفكر من خلال الحوار والنقاش وتعزيزهما، يطلق مادتي الأندورفين والدويامين في الدماغ، وهما تولدان حالة من النشوة والحيوية والاستمتاع والدينامية. كذلك فإن التحديات الفكرية وطرح المشكلات التي تحتاج إلى حل، وتنشيط التفكير التحليلي النقدي يساعد على زيادة تكوين الشبكات العصبية في الدماغ، من خلال نمو النشاط المعرفي تنمو هذه الشجيرات، وتوفر للدماغ شبكات عصبية جديدة تزيد من كفاءته. وعلى العكس من ذلك فإن التزمت والحجر على التفكير وكذلك التلقين وفرض الجواب الواحد الصحيح، تؤدي إلى تصلب الدماغ وتردي كفاءته من خلال تقلص تشبيكاته العصبية الناتج عن قصور نمو الشجيرات العصبية وتدهورها (ص168).
كما أثبتت الأبحاث الحديثة على الدماغ البشري أن البيئة الرتيبة الخالية من المثيرات، كما هو الحال في أنظمة القمع والمنع، تعمل على ترقيق القشرة الدماغية، وبالتالي إلى تدهور الكفاءة الذهنية. ويتجلى ذلك في قصور التخطيط والانتباه وصناعة القرار وحل المشكلات وتشكيل الخيارات وتنفيذها. ترقيق القشرة الدماغية تحد من الضبط العقلي مما يفتح السبل أمام غلبة السلوك الانفعالي الاندفاعي (ص169).
من أوجه القصور لهدر الفكر غلبة العقل البياني/العرفاني على حساب العقل البرهاني. فالعقل البياني يهدف إلى الإقناع من خلال الإبهار وتخدير الفكر، وصولا إلى التسليم للمتسلط بسلطته. .. وأما العقل العرفاني فهو تعطيل الفكر الفاعل لصالح الإيمان بسلطة بعض المحتكرين لتأويل النصوص. …وبينما خاض العرب والمسلمون معركة استمرت قرونا لصالح البرهان واستتباب سيادة العقل وسيطرته قادت ثلاثية الهدر معركة لا تقل عنها ضراوة إنما في الاتجاه النقيض، أي للقضاء على العقل وهدره. وبدلاً من تعزيز مركز الضبط الداخلي في سيطرة الإنسان على ذاته ومقدراته، من خلال العقل، تم تعميم مركز الضبط الخارجي الذي يسلب الإنسان سيطرته على ذاته ومصيره لصالح ثلاثية الهدر… وحين يخصى العقل يتصلب الفكر ويسود الانفعال بالضرورة، ويفتقد الإنسان القدرة على التعامل المرن والاستيعابي مع الوقائع لخدمة نمائه، وكذلك الدينامية والحيوية الذهنية وما فيهما من قدرة على التجديد والتنويع، إن إلغاء التاريخ، بما هو بناء الكيان، يجعل العقل لا إستراتيجي، لا تخطيط بعيد المدى ولا استيعاب للواقع في رؤية شمولية دينامية جدلية. كيف يكون هناك التخطيط الاستراتيجي مع استفحال ذكاء تدبير الحال، ومداراة الحاضر بالحاضر والتعامل مع التحديات والوقائع بردود أفعال (ص182). فهل من عجب غياب المؤسسات المدنية التي هي مركز الحيوية الدينامية، وتشكل الحصانة الوطنية؟ هل من عجب أن تسود في أنظمة الهدر الفكر الانطباعي الضبابي محل الفكر الميكروي التجريبي، الذي يتعامل مع التفاصيل ويستوعب دقائقها التي تمكن من النفاذ إلى آليات عملها، وكذلك محل الفكر الماكروي التحليلي النقدي الاستراتيجي، الذي يبني التصورات العقلية الكبرى التي تستوعب الواقع وتسيره؟ وكيف لنا أن نملك زمام كياننا وصناعة مصيرنا مع هذا الهدر؟… تورطت الدول النامية وأنظمة الهدر التي تتحكم فيها في الاعتقاد الخاطئ بإمكانية التصنيع من خلال استيراد التكنولوجيا وحدها، وبدون الاستثمار في بناء المعرفة العلمية، واستيعاب فلسفة العلم، وصولا إلى المشاركة في إنتاجها (ص183).
تقدم العلم يجعل من المستحيل معه صب المجتمع في إطار شمولي من أي نوع كان؛ لأن ذلك مجاف لمنطق العلم وروحه. … العلم ليس تراكميًّا إنما هو استيعابي انقلابي: نقد ونقض، ثم نقد النقض ونقضه، في بحث دائب عن الاختبارات والتقنيات التي تميز العلم. وهكذا تكون فلسفة العلم في جوهرها فلسفة التقدم المتمثل في سلسلة متلاحقة من الثورات، حيث كل تقدم يقوم بتكذيب ما سبقه وبالتالي الثورة عليه. وباشلار يقول إن كل معرفة لا بد وأن تحارب حين تتحول إلى عقبة عندما تترسخ. ولا يتحقق التقدم العلمي إلا بنوع من التطهير الشاق للأخطاء، أي القطيعة المعرفية التي تشكل الفكرة الأساس في فلسفته العلمية (ص194).
كما أن التقنية ليست مجرد آلات وأدوات وأنظمة تستورد وتظل على مستوى الاستهلاك المحض. التقنية تحتاج كي تنمو إلى استيعاب روحها وفلسفتها الموجهة لها، ومناخاتها الفكرية الطليقة، وإلا فلا يمكن تجاوز مرحلة الاستهلاك المتفاوت بدوره في كفاءته وفاعليته. يتضح من ذلك بالتالي مقدار خطورة بل وكارثية هدر الفكر، هدر الفكر هو هدر فعلي لفرص التنمية التقنية والإنسانية سواءً بسواء. وليس مجرد أمر يمكن التساهل بشأنه بمختلف المبررات كما هو حاصل في بلاد هدر الإنسان وفكره (ص197).
هناك جهد يتعين بذله للدخول في الفكر العلمي وامتلاك ناصيته، ليس فقط على مستوى الإعداد والتكوين اللذين يظلان ممكنين، إنما قبلاً على مستوى توفير الشروط المسبقة المتمثلة في توفير المناخات السياسية والاجتماعية والثقافية التي توفر التربة الملائمة لاستزراع الفكر والتكوين العقليين والعلميين واستنباتهما وازدهارهما. الثورات التي مرت، ثورات العلم، تصادف معوقات جدية في عالم هدر الإنسان والموارد والكيان، من خلال الحجر على الأذهان والأفئدة وقمقمة الطاقات الحية التي يتمسك بها ثلاثي الهدر، ويفرضها قسرًا (ص198). التفكير أو الموت، حيث لا حياة للأفراد كما الجماعات والمجتمعات إلا بالتفكير وإطلاق العنان له. التفكير هو الحياة المليئة المتجددة المستوعبة والظافرة والصانعة لمكانتها ومصيرها. وموت التفكير هو النكوص والتقهقر إلى مستوى حياة النباتات، والدخول في فئة الشعوب المستغنى عنها.
الفصل السادس ـ الشباب المهدور، هدر الوعي والطاقات والانتماء
الشباب قوة البناء والتنمية في المجتمع. فهو هدر للوعي وللطاقات والانتماء، وصولاً إلى تعمية الرؤى، وبالتالي الحيلولة دون تبصرهم بما هم فيه، وفيما يجب أن يكونوا عليه.. … في محاولة لإخماد كل نزعة للقيام بمسئولية المصير (ص201). الشباب باحث عن البطولات ومعاركها التي ينتزع فيها الاعتراف والتقدير. من خلال البطولات يحصل توافق مع الذات، أما في بلاد الهدر فلا مكان للبطولات. ويتصعد الهدر من خلال تبرير الانصياع للإرادة الأجنبية بدعوى الواقعية السياسية، والذي يترجم قمعًا وكبتًا لكل تعبير لرفض الاستسلام والتمرد على المهانة، والانتفاضة للحقوق الوطنية (ص221). أخطر ما يتجلى هدر الشباب في قضيته الوطنية، حين يحرم الشباب من أن تكون له قضية وطنية عامة تملأ حياته؛ وتكون فرصته للتضحية والبذل والعطاء (ص202). كما تدل دراسات البيولوجيا فالحيز الوطني مجال للدفاع والحماية لكل كائن حي. الوطن ليس مسألة اعتبارية قابلة للمساومة في الزيادة والنقصان، بل هو قضية مغروسة الجذور عميقًا في صلب الكيان الحي ذاته.
يضع الهدر الثلاثي الشباب في حالة مأزقية فعلية تهدد عافيته وصحته النفسية، ويجعله نهبًا لمختلف ضروب السلوك التعويضي الضار أو غير المجدي على الأقل (ص202). وتتعمد أنظمة الهدر تسكين الأوجاع وتخدير الوعي من خلال ملهاة وزارات الشباب والرياضة (ص203). وتنبري الشاشات الفضائية لتعويض انسداد الأفق بصور ونماذج وبرامج للنجومية البديلة الملهاة. وحملت العولمة تحولات لإعادة تشكيل الشباب، من أبرزها خروج الشباب خصوصًا والناس عمومًا من الأطر والمرجعيات المجتمعية التقليدية، بفضل الانفجار الإعلامي وانفجار الانفتاح على الدنيا.
غالبية الشباب متوسطي الذكاء تزداد الفرص أمامهم انحسارًا؛ وقد يصل الإحباط بهم حد اليأس من الدراسة الأكاديمية ذاتها، إذ تبدو غير مجدية. هذه شريحة من الشباب يهدر مشروعها الوجودي في بناء مكانة منتجة ومجزية. … تواضع نوعية التعليم لا يؤهلها للمنافسة في سوق العمل ومتطلباته، والتعليم الجامعي وما قبله يراكم معلومات ولا يبني معرفة علمية قابلة لأن تتحول إلى مهارة مهنية منتجة. الشباب المهدور يتحول إلى عبء على السلطات المستبدة المصادرة للخيرات الوطنية؛ ولذلك تتعامل السلطات معهم بالوعود التخديرية المراوغة، مقرونة بالشدة والتهديد بقبضة البوليس الحديدية. … والشريحة الأكثر عددًا في بلاد الهدر هي الشباب؛ إنها فعلاً الشريحة المهمشة الفائضة عن الحاجة، وبالتالي المستغنى عنهم (ص209). منذ الطفولة لا إدارة ولا تخطيط ولا تبصر بمستقبل، بل استسلام لأقدار، يحكمه قانون الأقوى جسديًّا ويحول الطاقات العقلية إلى “الذكاء التحايلي” أو ذكاء تدبير الحال، المناقضين لنمط الذكاء المطلوب للنجاح في الدراسة…. (ص210). لا يطيق المستبد كل ذا كفاءة يعمل للصالح العام ، بينما يحيط نفسه بمجموعة من المتفانين في خدمته ويغدق عليهم الأعطيات، أو يتيح لهم فرص النهب المنظم الذي يكون له منه النصيب الأعظم (ص212).
ويرى علم النفس المعاصر أن للوعي عمومًا وظيفتين رئيستين هما المراقبة والتوجيه. الوعي يراقب الذات والمحيط، ويضبط الفكر، أما وظيفة التوجيه فإنه يسمح للشخص أن يبدأ أفكارًا وسلوكًا للوصول إلى هدف ما أو ينهيه. لذلك ينشط الوعي حين يختار الشخص أحد بديلين لحل مشكلة ما. يركز الوعي عادة على الأشياء غير الرتيبة، أو غير المتوقعة. أي تلك الأشياء التي قد تؤثر على الحفاظ على البقاء والنماء وحسن الحال. وبينما يتصرف الناس في الحياة اليومية بشكل روتيني آلي وخارج نطاق الوعي في معظم الأوقات، نرى الوعي يتدخل عند بروز خيارات هامة، مما يسمح برفع فاعلية التفكير والتبصر بالأحداث ذات الدلالة، والعمل على مقارنة نتائج الخيارات بين البدائل. من هنا نرى مدى خطورة هدر الوعي، وإبقاء الناس في أنظمة الهدر على مستوى التفكير السائد والسلوك الآلي الروتيني على مستوى المعاش، والحيلولة دون التبصر بالذات وتدبر وسائل الفعل والمبادرة (ص228). من خلال زيادة درجة الوعي والحساسية لهذه الطائفة من الخبرات التي تحتاج إلى مزيد من التمحيص تتم عملية التوجيه والانتقاء والتمييز واليقظة. إننا هنا بصدد التفكير التحليلي النقدي المتبصر الذي تقوم به العمليات العقلية العليا، فيما يتجاوز السلوك الروتيني الآلي.
يتحالف مع هدر الوعي في الحرب على العقل والتبصر، الكبت والتعصب والظلامية، وكلها مناهضة للوعي. .. مطلوب أن تنقاد وتعيد إنتاج الأفكار والتوجهات في تكرار ثباتي محاط باليقين. الوعي، كما هو معروف في التفكير العلمي و الفلسفي سواء بسواء هو الخطوة الأولى للتغيير. بدون وعي لا تبرز الحاجة إلى التشكيك والتساؤل حول مشروعية الوضع القائم وملاءمته. .. الوعي وحده يحول الواقع الراهن (فرديًّا وجماعيًّا) إلى مشكلة تحتاج إلى تفكر وتدبر وصولاً إلى الحل (ص229).
من حسنات الإعلام الفضائي توفير فرص حقيقة ل”الذكاء الجماعي”، أي المشاركة في قضايا الكون وبناء رأي عام عالمي يساند القضايا العادلة. هذا الذكاء الجماعي هو في طور النمو والانتشار وتوثيق مجالات التفاعل والتبادل ما يخلق حركات ضغط وجماعات ضغط عالمية متزايدة التأثير محليًّا وعالميًّا، تلجم جموح سلطات الاستبداد وممارساتها واستفرادها بالناس. غير أن أوجه الهدر لا زالت نشطة ومؤثرة ومتزايدة الانتشار، من خلال استراتيجية التلاعب بالعقول والإرادة والإدراك المعروفين جيدًا في عمليات صناعة الموافقة من خلال التضليل (ص231). هدر الشباب ليس مجرد قمع؛ بل إنه هدر مستقبل الوطن وهو بداية العبور إلى فئة المجتمعات المستغنى عنها (ص237).
الفصل السابع – الهدر الوجودي في الحياة اليومية
في الفصل السابع “الهدر الوجودي في الحياة اليومية” يتطرق الباحث إلى الدمار النفسي والذهني الناجم عن آليات القهر والهدر، والمتمثل بالعقد والأعراض المَرَضية في السلوك اليومي للأغلبية الساحقة من المواطنين.
مجتمعات القمع والاستبداد تنتج علاقات الاضطهاد العدواني في تفاعلات الحياة اليومية فيما بين الناس، مع ما يتمخض عنها من حالات الاضطراب (ص242). أبرز مخلفات الهدر في النفس يتمثل في فشل مشروع تحقيق الذات وصناعة كيان في الوجود: هدر الرغبة، هدر نوعية الحياة، الهدر الزوجي وهدر المكانة والدور، وهدر الغربة في أرض الوطن أو خارجه. يقف تحقيق الذات في قمة هرم الحاجات الإنسانية جميعًا، وقد يتخذ أشكالاً جانحة إن لم تتوفر وسائله وأساليبه المعافاة (ص243). وإذا فقد الإنسان حصانته الإنسانية يتحول إلى الشيء العبء أو التهديد أو أداة الاستغلال. ونغدو بذلك “حيال انهيار قيمي وأخلاقي ينسف خدعة الفقير الشريف، عفيف النفس” (ص246). ومن استبيحت إنسانيته سوف يستبيح كل شيء حين تحين له الفرص. وأحداث الاضطرابات خير شاهد، حيث التلذذ بالقدرة على الهدم والهدر. “نزوة الموت الوجودي التي فتكت بكيان الميليشيات تعود فترتد على أيديهم تدميرًا للعمران” (ص247).
ويتسلل الهدر العام ليصبح هدرًا متبادلاً حتى في العلاقات الزوجية. ليس هناك علاقة زوجية تخلو من الهدر في مرحلة أو أخرى من مسارها. كل هدر على أي صعيد ومن قبل أي من الزوجين تجاه القرين سيقابل عاجلاً أم آجلاً وبشكل مباشر ومقابل أو بديل ومناور بهدر مضاد. وهو ما يدخل العلاقة الزوجية في حالة من التهادر. تحدث المفاجأة المولدة للصراع والانخراط في التهادر المتبادل من انعدام واقعية النظرة إلى الحياة الزوجية في إرضائها وأعبائها، وخصوصًا في كلفة السعادة وهنائها التي يتوقع كل طرف أن تأتيه هينة وبدون ثمن. عندها سيحل الشعور بالغبن والإحساس بالهدر أمام كثافة الواقع ومتطلباته… وقد يكون عدم التكيف لجدليات مراحل الحياة الزوجية وتغير أولوياتها أحد أسباب تفجر الصراعات، وبالتالي الانخراط في عملية التهادر. فكما أن الحياة ذاتها مجموعة مراحل وأطوار، ولكل منها أولوياتها ومهامها ومتطلباتها مما يجب الانخراط في عملياتها والقيام بمستلزماتها، كذلك فإن للحياة الزوجية أطوارها المعروفة، وبالتالي فأولويات كل طور ومستلزماته ومهامه تختلف عما عداه (ص266). فقد تتجاهل الزوجة ضرورات التلاؤم وتصر على استمرار شهر العسل؛ وينسى الزوج الحياة العاطفية ويضعها خلف ظهره في انطلاقة نحو تحقيق ذاته في مجال المهنة أو العمل والكسب، أو يتجاهل حق زوجته في تحقيق الذات بدورها .. حينئذ يعيش كل قرين عقبة بوجه قرينه ويعيش حالة من الهدر الوجودي… وإذا كان لكل امرئ نصيبه من الاضطراب النفسي وبالتالي قسطه من الصراع والتناقض مع الذات، فإن الصراع والتناقضات لابد أن تتراكم حتى في أكثر العلاقات وثوقًا. وهي إن لم تجد لها سبيلاً إلى الحل بالمواجهة والفهم والتوافق والتسويات فإنها ستنتهي حتمًا إلى الهدر المتبادل (ص267).
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9512
أحدث النعليقات