كرار في بلد الفرات
العام عام جفاف وجراد ومجاعة ، والسيقان التعبة تزرع الأرض فرارا نحو الملاذ من البشاعة… كرار والأخرون ، أمه وأخوته الصغار .. قد مات الأب طحنته الملاريا واليرقان .. دفنوه بمساعدة أهل القرية ألأنصاف احياء ، وقرأ عليه الشيخ همد سورة ياسين وبعدها فروا نحو الحدود ولم تجف بعد دموع الأطفال على أبيهم ، وصلوا ” ود شريفي” معسكر اللاجئيين وكتاب المآساة المفتوح.. هرع اليهم موظفوا الغوث والممرضين وقوادين النساء الباحثين عن الفتيات الصغار.. لتشغيلهن في رواكيب المقاهي التي في موقف العربات المترب أو في رواكيب المتعة .. فسقوهم الحليب وأعطوهم شئ من الدقيق والزيت .. ووضعوا العلامات الخضراء والحمراء في جباههم ضرورة الاحصاء.. ناموا ليلتهم في العراء والبرد الصحراوي القاتل يتسرب الى ما تبقى من عظامهم ومفاصلهم.
بعد ثلاثة شهور ابتاعو لآنفسهم من أحد تجار التكارنة بعض من الأخشاب والبروش بعد مقايضة ثلاثة جركانات من الزيت ونصف شوال من الفتيريت .. تعرف كرار على سوق المعسكر وجعل لنفسه بعض الأصدقاء وتردد على المدرسة فهو يحفظ جزء من القراءان فقد سنوات عمره الاولى في خلوة شيخ همد في قريته، وكانت الرغبة تتنازعه ما بين العمل فهو راجل البيت والمسؤولية على عاتقة كبيرة ومابين رغبته في العلم.
في شهره التاسع أصبح كرار يبيع ويشتري في سوق المعسكر، فقد جعل لنفسه ركن للخضار يذهب في الصباح الباكر الى المزارع والحدائق المجاورة يشتري ثم يفترش الأرض في السوق. خلال هذه الفترة تعرف كرار على بعض أعضاء التنظيمات الارترية الذين يأتون الى المعسكر بغرض تجنيد الشباب وأصطيادهم، أحد هؤلاء وضع عينه على كرار ودعاه الى عزومة غداء وشاى وتدخين .. كرار يدخن سيجارته الأولى يخطو الى عالم مختلف .. أحس بنوع من الأهمية سأله الرجل الخفي عن اسمه الكامل وأصله وفصله وموطنه الأصلي وجده الكبير والصغير وعمدة القبيلة وشيخ الغفر ..الخ، ثم ابتسم الرجل ابتسامة فيها بعض من الدهاء ، ولم يعلم كرار سر الابتسام ولكن بادل الرجل بابتسامة بسيطة ، وازداد غموضه عندما دعاه الرجل الى مكتب التنظيم بكسلا ، فبادره كرار انه لا يرغب في التجنيد وان المسؤولية تجاه اسرته كبيرة فطمئنه الرجل ومضى.
يوم الجمعة ارتدى كرار جلابيته البيضاء وتوجه الى كسلا لمقابلة الرجل الغامض بعد وصوله الى كسلا توجه الى مكتب التنظيم وأخبر حارس الباب بغرض حضوره، دخل الحارس .. وخرج ومعه الرجل الغامض يرحب به ويدخله الى نفس الغرفة التي خرج منها ليجد جمع من الرجال يصل عددهم الى سبعة جالسون يستمعون الى رجل يتحدث .. تملكته الرهبة أحس بعدم أهميته جلس متحفظا.. تطلع الى وجوههم .. الى شواربهم الكثة.. استمع الى طقطقات حبات السبح التي بأيديهم وجدها سبح غير تلك التي كان يراها في يد شيخه بالخلوة.. ملأ مناخيره بعبق الغرفة المختلط بطيب غريب وأرياح الدخان الفاخر وسرح بخياله ” بحاري ولا بنسون ” ، فدفعت يد قوية بكوز من الماء الى وجهه .. وجدها يد الحارس .. ابتسم تناول الكوز ” جنبلق جنبلق ” وادار عينه فلمح ان أحدهم يحدق فيه بطريقة جعلته يغير من طريقة شربه للماء ” جنقيط جنقيط…جنقيط” ، ولشدة برودة الماء رغب في أن يزيد ولكنه صرف النظر عن هذه الرغبة حياءا. ثم بدأ بهز رأسه موافقا عقب كل كلمة يتفوه بها الرجل المهم الذي كان يتوسط الحلقة ، والذي كان يكرر كلمة ” ألأمة العربية” و ” القومية ” كثيرا ، ولم يفهم كرار كلمة “القومية” وان كان يعرف معنى الأمة العربية.
منذ ذلك اليوم ولج كرار الى عالم مختلف تماما، فكان يتكرر حضوره الى كسلا وفي أسبوعه السادس كان كرار في مطار الخرطوم متوجها الى بلاد الرافدين وعاصمة هارون الرشيد… كان في طريقه الى بغداد.
في بغداد للحياة طعم مختلف حتى الوجوه والسحنات تغيرت ، حتى وان بقي اللسان.. بيد أن الحنين الى المعسكر المترب وشجر السيسمان وجبل قلسا الرابد في البعد كاد يأخذ بلبابه لدرجة انه ود لويرجع ادراجه الى كسلا وود شريفى…ثم يحدث نفسه ان هذه فرصة نادرة لا تتتكرر وان بامكانه ان يساعد اخوته الصغار ويزوج أخته الوحيدة.
لفت نظر كرار طريقة الاجتماعات التي تعقد ومحاضرات التثقيف وكيف ان هناك ليفيف من القوم لا هم لهم سوى السياسة والحزبية أما تحصيلهم الاكاديمي فهو ضئيل .. وكيف أنهم دائمو التحرش بالناس وكيف ان الطلاب يطلبون مساعدتهم في قضايا المنح وتغيير الكليات والمدارس والمواد وغيرها. في ذلك الوقت كان هؤلاء يروجون للدفاع عن البوابة الشرقية ضد الخطر الفارسي ومن يوافق من الطلاب بالذهاب الى الجبهة الشرقية فأن له الجنة لا يظمأ فيها ولا يشقى أبدا… حينها كان كرار لا يملك شهادة معتمدة تدخله أى كلية أو حتى الاعدادية رغم انه تم تسجيله بالاعدادية لرسالة كان يحملها من الرجل المهم.. فبدأ هؤلاء بدفع كرار لللالتحاق بالجبهة الشرقية وانهم سوف يتكفلون اسرته وان واجباته في الجبهة ستكون خفيفة وهكذا حتى ضاق ذرعا بهم وفي اجتماع عام انفجر كرار من غيظه وحنقه على هؤلاء ” كيف ندافع عن بوابة شرقية أو غربية ونحن ابوابنا مخلعة ..فليدافع ابنائها المئة مليون عن هذه الارض فهناك أرض أخرى تحتاجنا” تعالت الهممات بينما انبرى رئيس الجلسة الذي احمرت عيناه وانتفخت أوداجه حتى كادت تتطاير شلوخها بأن يخرج من الاجتماع.. خرج كرار ولم يعد .. واختفى من الذاخلية ومن بغداد فليس بمقدور أحد أن يسأل عنه حتى اشياءه وسريره بقى مكانه لثلاثة شهور اكتسب لون آخر من طبقات الغبار.. أما أمه المسكينة لم تتمكن من ايجاد اجابة شافية من كل المعنيين ولكنها لم تقطع الأمل.
…..
أحاط به رجال ذوي شوارب كثة ودخان السومر يزكمه . وكوة في الجدار تفضح تقاطيع وجوههم وتعري ظلام الغرفة الرطبة .. أتشتم القائد يا كلب..
هه مين …
لكمة من يد ضخمة مشعرة .. افقدته التوازن .. علقوه مثل خروف العيد .. كاد كعبه ان ينخلع من رجله النحيلة .. ومضت أعوام من التعذيب المهين حتى ذاكراته فقدت تماسكها وانهارت واختلطت صور ابيه وأمه وأخوته ..بهتت صورة الرجل المهم .. شيخ همد .. جعفر العجلاتي .. وترحاس ست الشاي وحلت محلها أصوات شرار التيار الكهربائي والكرابيج… تردد كثيرا الى المستشفى وبعد ثلاثة أعوام اخرى أخذوه على المطار.
…..
وفي ساحة الموقف المترب يتضاحك الناس حول فتى نحيل اسمر يمشي على عكاز لشلل في رجله اليمنى ..يرمي قفشاته ويحكي عن قصص مرعبة وأخرى مثيرة وبينما هم في حديثهم اللاهي هذا يأتي أحد مساعدية البص يشق الصف ..ثم يصيح في الفتى
_ صدام .. كيس تمباك لعمنا .
وتقرأ اليافطة على الصندوق الازرق ” كرار للعماري الجيد”.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=7992
أحدث النعليقات