مؤتمر أواسا نقلة سياسية نوعية
بقلم/ محمود عمر
قيام الدولة الارترية كان تحدياً كبيراً وذلك لأهميتها الاستراتيجية في السلم والحرب ووقوعها بين قطبين حضاريين عملاقين، السودان وحضارته النيلية من نبتة ومروي وسوبا ثم الممالك والسلطنات الاسلامية ودوره المشهود في العالم العربي والاسلامي، واثيوبيا ذات الحضارة الحامية السامية المتجذرة
والمدخل الاستراتيجي للقارة السمراء، هذا فضلاً عن التداخل الارتري الحضاري والاجتماعي مع هذين العملاقين الاقليميين. إلا أن قدرة شعبنا وإصراره علي فك طلاسم التآمر المحلي والدولي مكنه في خاتمة المطاف من إقامة كيانه المستقل في هذه المنطقة الحيوية بدماء أبنائه أولاً في الرابع والعشرين من مايو 1991م، ثم بتعـْـمِـيــده بالشرعية القانونية والاعتراف الدولي عبر الاستفتاء في 1993م وإعلان شعبنا بالصوت الداوي رفضه للتبعية والإلحاق القسري، حيث أصبحت ارتريا بعد ذلك دولة ذات سيادة بحدودها البرية والبحرية والجوية المعترف بها دولياً واقليمياً وتبوأت مكانها بين أمم المجتمع الدولي.
ومنذ بزوغ فجر الاستقلال تطلع الشعب الارتري للسلام والاستقرار وإرخاء الحزام النضالي الذي تمنطقه طيلة خمس عقود من الزمان، وكان كل بيت أو مناضل ارتري يحلم بعقد مائدة جامعة داخل الوطن ليستريح فيها من عناء المرحلة النضالية الطويلة والمريرة وما خلفته من دمار وذلك بغية تقييم تلك المرحلة للتزوُّد منها بالدروس والعبر وتوثيق تراثها التاريخي البطولي بأحرفٍ من ذهب ليبقى مصدر فخرٍ وتحفيز للأجيال الصاعدة والقادمة، ومن ثم وضع خارطة بناء دولة المستقبل التي ظلت مرسومة طوال السنين في مخيلة كل ارتري أمين علي مبادئ ودماء الشهداء.
بيد أن التحدي الذي لازم الشعب الارتري ومنذ بواكير قيام دولته هو انفراد فئة بالاستحواذ علي كل منجزات الشعب الارتري، فئة جعلت البلاد ملكاً شخصياً تحكمه وتتحكم فيه كيف شاءت، بيد أن الشعب الارتري أعلن رفض ذلك التصرف الإقصائي الانعزالي بصوتٍ واحد وفي الداخل أولاً وفي عقر دار الحزب أو الطغمة الحاكمة نفسها، حيث يذكر الجميع علي سبيل المثال لا الحصر، حركة الأسلحة الثقيلة في أسمرا 1993م ثم حركة جرحى ومعاقي حرب التحرير في 1996م في ماي حبار، ثم مذكرة ال 13 في 1997م ثم حركة اللجنة المركزية للحزب الحاكم (الجبهة الشعبية) في 2001م والتي انبثــق عنها ما عرف بمجموعة ال 15 G 15) (، حيث واجهت تلك الحركات عنف السلطة الدكتاتورية الإقصائية ببسالة ودفعت الثمن اعتقالات وتصفيات جسدية وتشريد وتجميد فردي وجماعي طالت معظم القيادات التاريخية والعسكرية للجبهة الشعبية، ولا تزال المقاومة الشعبية والسياسية مستمرة في الداخل والخارج حتى تحولت البلاد الي سجن جماعي كبير.
أما ضحايا الحرمان السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي من شتى قطاعات المجتمع الارتري التي تنكــَّــــــرَ الجلاّد لدورها النضالي وتضحياتها الجسيمة والسباقة في سبيل الوطن والشعب، ناهيك من أن يشركها في حقها في بناء مستقبل البلاد، قد أدركت أهمية تجميع صفوفها منذ وقتٍ مبكر، أي منذ انفراد الجبهة الشعبية بالساحة الارترية وإعلان نواياها الإقصائية والتصفوية بكل سفور ووقاحة. واستمرت محاولات تجميع الصف منذ الثمانينيات فكانت اتفاقية جدة ثم صنعاء ثم التجمع الوطني في نهاية التسعينيات، الي أن توجت جهودها بقيام التحالف الديمقراطي الارتري في 2005م كمظلة جامعة لكافة فصائل المعارضة الوطنية ومزيلة للشكوك والريبة بين مكوناتها القديمة والجديدة القادمة من داخل النظام، تلك المظلة التي أوقفت التراشق الاعلامي بين مكونات المعارضة وسخرت كلَّ الجهود والطاقت لمواجهة النظام والنظام فقط، بعد ذلك عقدت المعارضة ورشة العمل التمهيدية لملتقى الحوار الوطني في 2008م بعد أن شدَّت أطرافها المتراخية، وبالفعل تمكنت من عقد ذلك الملتقى رغم كل المعوقات والعراقيل والذي بدوره انبثقت عنه المفوضية الوطنية للتحضير للمؤتمر الوطني الجامع لكل فئات المجتمع الارتري التي تنشد التغيير الديمقراطي.
إذن فإن المؤتمر الوطني للتغيير الديمقراطي الذي عقد مؤخراً باثيوبيا في 21 – 30 نوفمبر 2011م من حقه أن يفخر ويعتز بأنه الوليد الشرعي والثمرة الناضجة لأعباء ضخمة ومسئوليات جسام تكبدتها سائر القوى الوطنية الديمقراطية وجهود مضنية ومخلصة بذلتها تلك القوى وشعبها الصابر الصامد عبر مراحل مختلفة وتحت ظروفٍ شتى، وهي لا شك جهود مهما تعددت مشاربها وتباينت مساراتها تتفق في الهدف النهائي للشعب الارتري، ألا وهو بناء دولة المؤسسات، لا الأفراد والعشائر والفئات أو الطبقات الحاكمة بأمرها دون تفويض من أحد.
إن المؤتمر الوطني للتغيير الديمقراطي تجربة فريدة من النضوج والتسامح والصبر، بذل فيها كل الحضور أقصى ما يستطيع من التنازلات والتوافقات التي أدت في النهاية الي نجاحه دون أن تحس فئة من الفئات المشاركة فيه أنها ظلمت أو أقصيت، وصحيح لا أحد يدعي الكمال للمؤتمر، إلا أن شهادة الحق تستوجب أن نقول إن المؤتمر لم يمر بمشكلة أو معضلة ذات طابع شخصي أو جماعي أو فئوي إلا وبذل أقصى المستطاع لحلها وإرضاء صاحبها أو أصحابها، ومن أبرز الأمثلة لذلك المشكلة الشخصية للسيد/ دانئيل العضو التنفيذي بالمفوضية الذي أحالت المفوضية قضيته للمؤتمر ضمن تقريرها العام موضحةً جميع تجاوزاته وتصرفاته المريبة علي حد قولها، حيث ناقش المؤتمرون مشكلته باستفاضة وشكلوا لها لجنةً للحل النهائي الهادف الي إعادته الي وضعه الطبيعي ومكانه المألوف في صفوف المعارضة، وقدمت اللجنة تقريرها حول المشكلة للمؤتمرين.
يعتبر مؤتمر أواسا نقطة تحول هامة لتنظيم قدرات الشعب الارتري، إذ تداعت كل فعالياته وتكبدت مشاق الحضور من إرهاق جسدي وتكاليف مالية من الجيب الخاص، وقد تشكلت لوحة الحضور من الرعيل الأول بمن فيهم من حمل البندقية مع عواتي وقيادات العمل الوطني في الستينيات (حضور الأحياء من القيادة العامة أو جلهم) وكذلك عدد كبير من قيادات وكوادر مدرسة جبهة التحرير الارترية بمختلف أجنحتها قبل محنة 1980م، وكان أيضاً ضمن الحضور من استنشقوا رائحة السلطة في بواكير الاستقلال من سفراء وقيادات مدنية وعسكرية من مدرسة الجبهة الشعبية، كما كان ضمن الحضور رجالات الدين من قساوسة ومشايخ عبروا عن التعايش السلمي بين الأديان في ارتريا، وكذلك الحركات الاسلامية من رعيلها الي مدارس التجديد الاسلامي، بل الفصائل القومية والمرأة وجيل الشباب الذين أفرد لهم المؤتمر خصوصية لأنهم أمل المستقبل بالإضافة للأكاديميين والإعلاميين رسل القضية وسفراء الشعب.
تداعت تلك الأمم التي تمثل العقد الفريد للوطن الارتري وديدنها أن هذا التنوع الطبيعي لشعبنا مفخرة تزين جيد الوطن وتعمق ملامح الشخصية الارترية، وكان الهم الحاضر بقوة هو المساهمة، بل التعاون والتضافر لإنقاذ الوطن من الانهيار الذي يعانيه من أفاعيل سلطة الشيطان كما وصفها أبونا القس/ ولد برهان طقاي في كلمته.
اجتماع هذه الأجيال والمدارس ومكوناتها المختلفة طيلة ما يزيد علي عشرة أيام وهي تكافح وتناطح من أجل إقرار الحوار والتشاور والتعبير عن مختلف القناعات في مناخ من الحرية، كان فرصةً جد نادرة، قلما حدث أن توفرت للأمة الارترية.
انعكس دور القدرات الإدارية الفائقة في حسم كثير من الأمور علي نجاح المؤتمر في انتخاب سكرتاريته برئاسة الأستاذ/ عمر صالح ونائبه الأول الأستاذ/ بآولوس وبقية الطاقم الفريد الذي وضع نصب عينه أهمية هذه التظاهرة النادرة وابتكر المؤتمر تجميد المختلف حوله والعمل بالمتفق عليه، ففي الأوراق التي أقرت كانت هناك تباينات في بعض القضايا وخاصةً من جانب التنظيمات الاسلامية والقومية ولكن احتفظت هذه التنظيمات بجزء من قناعاتها لنفسها تقديراً منها للمرحلة العصيبة التي يمر بها الوطن.
جاءت المحطة الخطيرة والتي هي مفصلية دائماً في المؤتمرات، ألا وهي السلطة، وهنا كان الإخراج الأمثل والديمقراطي، حيث وضعت معايير للمشاركة في طبـَــق السلطة وهي:
أولاً: زيادة نسبة التمثيل الشعبي أكثر من الفصائل السياسية.
ثانياً: عدم تغييب أي قوة سياسية من الحضور.
ثالثاً: ضرورة التمثيل الجغرافي علي حسب الوفود وحجمها من أقاليم العالم المشاركة.
رابعاً: مراعاة المكوِّن الإثني والعقدي والثقافي في المجتمع الارتري.
الأمر الذي أدى الي رضا الجميع عن تلك المقاييس وما تمخضت عنه من تمثيل شامل وكامل لكافة القوى المشاركة في المؤتمر.
إن ميلاد المجلس الوطني للتغيير الديمقراطي من قوى تمثل هذا الفيض من المجتمع الارتري وفي ظروف تشهد فيها المنطقة الغبن الداخلي وما نتج عنه من الإفرازات الاجتماعية والجهوية دون الدولة ومراحل الدولة الفاشلة بسبب تخلف الدولة وعدم قدرتها علي التطور المجتمعي الذي لازم الشعوب في إيجاد دولة المواطنة الحديثة، ورغبة تلك الشعوب في المواكبة أفرز ولادة كيان شرعي جديد من رحم الأمة الارترية ينبغي علي أي وطني غيور الشد من أزره، بل اعتباره نتيجة إيجابية قابلة للتطوير والتقويم مادام يمثل اجتهاداً بشرياً.
أمام المجلس الوطني ومكتبه التنفيذي فرص وآفاق تتلخص في المقام الأول في الحراك الشعبي المقاوم لدولة السيستم الإقصائي في العالم الثالث، وخاصةً ثورة الربيع العربي والافريقي الذي يعتبر شعبنا جزءاً أصيلاً منه، سواء كان في شكل الحكم الذي يعاني منه أو القدرة علي الانتفاضة إذا توفرت الشروط الأساسية لها، فوجود مجلس منتخب جامع لكافة المكونات والتجارب حافز أساسي لهذا الحراك، وفرصة أخرى تتمثل في احترام المجتمع الدولي لخيارات الشعوب في التحول الديمقراطي ودعم الحراك السلمي ورفض استخدام السلطة للقوة في قمع الشعوب، بالإضافة للخصام المستحكم بين النظام والمجتمع الدولي والاقليمي وتصنيفه بالجائر وغير المتعاون، هذه الفرص تضع أمام المجلس ومكتبه التنفيذي مسئولية تاريخية بوضع خطة جريئة وعاجلة لطرق الحديد وهو ساخن واستغلال الفرص والتنسيق مع كل الارتريين المعارضين، أفراداً وتنظيمات خارج هذه المظلة، بل بذل أقصى المجهودات لكسر جدار التعتيم بين الداخل والخارج واعتبار المجلس وسيلة لتحقيق غايات شعبنا النبيلة في السلام والاستقرار وفي إيجاد دولة تحترم خيارات شعبها وتؤسس لدولة عصرية تكتمل فيها المؤسسات التشريعية والتنفيذية والعدلية حتى يكون القانون والمواطنة دون تمييز هما السائدان في تلك الدولة.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=39743
أحدث النعليقات