مسفن حقوص فى قفص الاتهام

فى خطوة جرئية، وغير مسبوقة بالمرة ..، أقتحم مناضل إرترى شجاع حاجز الخوف الذى يملأ قلوب الناس كافة فى إرتريا، ومشى فوق حقول الالغام الشائكة، وهو يلتمس طريقه المحفوف بالمخاطر الحقيقية قاصداً الوصول إلى مسرح الإغتيالات السياسية الكثيرة فى ارتريا العزيزة ..، ووقف فوق هضاب مسرح الجرائم، وأخذ يرسم فى محضر الجرائم بدقة وعناية المواقع التى شهدت اغتيال قادة أفذاذ، وبات يرفع بمهنية عالية بصمات القتلة، وغدا يكشف الخطط والاساليب الدنيئة التى أتبعت فى عمليات القتل الآثمة، وسجل فى محضر الجريمة المعلومات المفصلة لأدوات القتل المستخدمة فى ازهاق أرواح المناضلين البررة ..، وكشف بوضوح دور كل مشتبه به فى العمليات القذرة ..،

ما قام به مؤلف كتاب “البذرة الفاسدة[1]“- تلمى نزرئى كرداد – يمثل خطوة جرئية، وموفقة للغاية، ويعد فتحا عظيما فى مجال كشف جرائم الاغتيالات السياسية الخطيرة، فالمؤلف قد نزع بقوة غطاء بئر الاسرار الملئ بالدم، ومد يده بثبات الى قاع البئر، ولم يخطئ هدفه إذ وصلت يداه الى خزائن الملفات السرية المكدسة بازدحام شديد منذ سنوات طويلة، وعلى الفور بات ينتشل نذرا يسيرا مما طالته يداه من الملفات القابعة فى قاع بئر الاسرار العميق الذى ظل مغلقاً باحكام شديد، وتحيط به أسلاك شائكة، وتحرس فُوَّهته كتائب مدججة بالسلاح من عتاة المجرمين ..، وبهدوء أخذ ينشر عبر الأثير بعض “الوريقات” الملتهبة من اكداس تلك الملفات الخطيرة، وهى تكفى لتحريك الضمائر الغافلة، وتمثل فى الوقت نفسه وقودا حيويا ان أحسنا أستخدامها تكفى لاشعال نار ثورة شعبية عارمة تحرق حراس البئر وصانعيه ..!

مازال الوقت مبكراً لتقييم محتوى الكتاب الكلي، ولم يعد الوقت كافيا لرصد ردود الافعال حول ما جاء فيه من معلومات مفصلة، واتهامات محددة لأشخاص بعينهم، وخاصة رد فعل الذين وجهت اليهم تُهم الاشتباه باغتراف جرائم الاغتيالات السياسية الورادة فيه، وهى كثيرة جداً. والكتاب لم يترجم بعد الى اللغة العربية ليطًّلع عليه كل الارتريين ..، وقد بدأ صاحبه لتوه بنشر حلقاته الأولى على مواقع :” أسنا” و” أسمرينو” و “دقى أبات ” . وقد استمعت على ثلاث حلقات منه مستعينا بصديق يقرأ لي الحلقات الثلاث، وهى السادسة والسابعة والثامنة ..، وكلها مكرسة فى كشف عملية اغتيال القائد الفذ إبراهيم عافة ورفاقه الكرام ..، وقدم المؤلف فى الحلقات الثلاث تحليلا سياسيا وعسكريا وأمنيا وجغرافيا .. اشتمل على ما اسماه بالدوافع السياسية لجريمة الاغتيال الآثمة، واستشهد فى تحليله السياسى بما كان ناشبا  من خلاف حاد ورئيسي بين الشهيد إبراهيم عافة وإسياس أفورقى حول قضايا أساسية، كقضية التصفيات الجسدية، مثل تصفية عناصر من أطلق عليهم بحركة “منكع”  ! وسؤال الشهيد لغريمه إسياس لكشف الغموض عن أسباب استشهاد ابرهام تولدى، وسؤاله أيضا على ما كان يشاع من اتصال إسياس بالاستخبارات الامريكية ..،..، وذكر “ألنا” عن خلاف الرجلين حول وحدة فصيلي الجبهة الشعبية وجبهة التحرير الارترية، وعلاقة ذلك بعملية تحرير ما كان متبقيا من مدننا المحررة فى سبعينيات القرن الماضى، إذ كان الشهيد مصراً على توحيد القوة الوطنية المقاتلة، ومن ثم استكمال التحرير قبل أن يتمكن العدو من ترتيب أوضاعه المنهارة يومئذ ..، وبين المؤلف ما كان يقوم به إسياس من عمل لعزل “عافة” وتهميشه، فانه قد أشاع فى الوسط الحزبي على أن إبراهيم يحيك مؤامرة سرية مدبرة بالتعاون مع “سبي” ابن أقليمه؛ لقلب الأوضاع فى التنظيم ليتبوأ منصبا مهما ..، ولم يصدق أحدٌ اشاعته؛ لأن الناس كانوا يعرفون جيداً أصالة إبراهيم الوطنية وثقتهم به كانت عالية جداً …، ولهذا لم يبال أحد بالاشاعة المفبركة[2] ..!”.

ذكر “ألنا” بأن إسياس لم يكتف فى صراعه المكشوف مع الشهيد على محاولة عزله، وإنما سعى للتخلص منه بشتى الطرق، فكان يضيِّق عليه الحصار لدفعه الى الانتحار مرة بتجميده باجراءات ادارية تعسفية تحول دون ممارسته مهامه بالشكل المعتاد، وتارة بدس بعض العناصر السرية ليقدموا له بعض النصائح الخبيثة، كأن يدفعوه ليقدم على الانتحار ، ويزينوا له طريق الاجهاز على نفسه، ويضربوا له أمثلة على من أقدموا على الانتحار من القادة الذين واجهتهم تحديات مثل التى تواجهه ..، ولكنه لم يفلح فى مسعاه..؟!

ما لم يذكره ” ألنا” فى هذ المجال  ونمى الى علمى من مصادر موثوقة، بأن الشهيد كان يتعرض الى مؤامرة  استدراج دنيئة تدفعه الى اتخاذ ردود أفعال حمقاء تنهى بالسهولة دوره القيادى. ومما علمته أنه فى ذات مرة استهدف عميل سرى جنديا قريبا من الشهيد وأمر سلامته يهمه جداً، فاطلق النار عليه، ولما سئل عن سبب استهدافه لقريب الشهيد أجاب بكل سخرية ووقاحة:”حسبته غزالاً، فاردت اصطياده ..!”. والعاقل يفهم بالاشارة ..، فان الحادثة تعطى اشارة واضحة بأن المستهدف من عملية صيد الغزال كان استدراج ابراهيم عافه ليتَّخذ موقفاً أحمقاً ..!

أما المعلومة الثانية التى نمت الى علمى وهى أن إسياس وإبراهيم كانا فى زيارة لبلد عربى، وقد سهرا فى بيت الضيافة هناك مع ثلاثة من مضيفيهما، وأحد الثلاثة هو الذى روى لى مع مجموعة من الزملاء الواقعة التالية: “كنا نلعب “الكشتينة ” لتمضية سهرتنا، فأخذ ثالثنا وبحضور إسياس بالاساءة الى الشهيد بكلمات نابية، فحذَّره “عافه” أن يكفَّ عن ثرثراته المسيئة، ولم يرتدع المسئ اليه، فما كان من الشهيد ابراهيم إلاَّ أن “نطحه” برأسه ” نطحة “محترف بفنون القتال، فتكور الرجل حول نفسه منكمشا، وسقط على جنبه مغشيا عليه، وتدحرج بحركة لا إرادية، فانحشر بكامل جسمه المكور تحت السرير “يفرفر” كالديك المذبوح من شدة ألم الضربة القوية ..، ونهض “عافة” من جلسته قائما ينتظر بتأهب رد فعل خصمه المهان ..، ليزيده صفعاً أو لكماً قوياً إذا ما سولت له نفسه لفعل شئ ما يعيد له كرامته المهدورة ..، وما أبقاه الراوى فى صدره سرا مكتوما: هل الرجل كان مدفوعاً لاستفزاز الشهيد أم لا ..؟”.والأمر الغريب فى الموقف كان تصرف إسياس، فلم يحرك ساكنا، إذ رمق الشهيد بنظرة باردة، ولم يحاول تهدئته، فامرنا بتركهما يواجهان مصيرهما وحيدين فى الغرفة، ونهض قائلاً: “مجنونين .. اتركوهما ..هيا بنا ننصرف ..؟!”. فسبقنا الى الباب مسرعاً، وتبعناه، وخرجنا من الغرفة سوياً، فأغلق عليهما الباب بنفسه ..؟!

ركبنا سيارتنا، وكان الليل فى ثلثه الاخير، وكنا نشعر ببعض الانتشاء والخدر ..، فتحركنا بالسيارة على غير هدىً .. وبعد سيرنا مسافة قصيرة من البيت انحرفنا من الطريق ناحية الرصيف فصدمنا عمود كهرباء صدمة خفيفية.

وبعد فترة قصيرة حضر إلينا رجال الشرطة، وطلبوا منا ابراز هوياتنا الشخصية، ولما علموا بهويتنا اهتموا بأمرنا اكثر، وتعاملوا معنا بلطف كبير، ونصحونا بان نعود من حيث أتينا، فعدنا الى بيتنا، فوجدنا الشهيد إبراهيم مستيقظاً وصاحبنا الثالث الذى أكل علقة ساخنة، وجدناه ممدداً على السرير يغطُّ فى نوم عميق .!”.

كانت هذه الرواية على ذمة الراوى، وهو ورفاقه الثلاثة مازالوا على قيد الحياة، وقد يأتى يوماً يعيد الراوى تفاصيل الحادثة ويزيد عليها ما خفى منها بحكم الضرورة ..، والرواية بهذا القدر البسيط تعطى استنتاجاً واضحاً وهو :”أن إبراهيم عافة كان مطلوباً رأسه قاتلاً أو مقتولاً!. فان قتل خصمه المدسوس عليه تحت تأثير الغضب لفَّ إسياس حول رقبته حبل المشنقة، وأعدمه أمام الناس، وان قتله العميل نصب إسياس نفسه قاضيا وقتل قاتله فى مشهد عام. وبذلك يكون تخلص من خصمه العنيد، وكسب لنفسه سمعة طيبة فى تأريخه الملطخ بالدماء..؟!. والآن دعونا  نعود الى مضابط محضر الجريمة !!.

وقف الكاتب فوق قمة جبل “عقامت”، وأخذ يطل من هناك معايناً مسرح الجريمة الآثمة، ويرسم بوضوح تضاريس المنطقة المتسمة بالعلو الشاهق، وبالوعورة الشديدة مما كان عصياً على العدو الوصول اليها وهو فى أوجِّ تفوقه العسكرى ابان شنه الحملات العسكرية الكبرى، وبات من هناك يقيس المسافات الفاصلة بين قمة “عقامت” وتحصينات العدو، ودفاعاتنا العسكرية …، وأوضح القدرة الفائقة لجهاز استخباراتنا بعد استيلائه على أجهزة دقيقة كانت تمكنه من رصد تحركات العدو من أسمرا وتحديد اتجاه حركته، وأسمرا بعيدة جداً من “عقامت”.

وخلص من تحليله مستغرباً: كيف تمكنت وحدة استخبارات صغيرة للعدو من اجتياز العوائق الجغرافية الوعرة …؟ وكيف اخترقت استحكاماتنا الحصينة؟! وكيف فلتت من رصد أجهزة استخباراتنا المتطورة؟! ووصل “ألنا” من تحليلاته الى قناعة كاملة باستحالة وصول قوات العدو المتسللة لاغتيال ابراهيم عافة ..، وعاد يطرح استفهامات منطقية: اذا كانت قوة العدو المتسللة هى التى أغترفت جريمة الأغتيال فاين الدليل ؟؟. لقد اختفى أى دليل يدل على القوات الأثيوبية، فلم يُعثر على جثة قتيل واحد، ولا على” نتفة ” لحم من أشلاء القتلى، ولم يُعثر أيضاً على شئ من مقتنيات وحدات العدو كالخوذ العسكرية، أو الاحذية أو الالبسة، أو اسلحتهم ..، بل ولم يُعثر على نقطة دم فى صخرة أو حجارة صغيرة من تراب، وحجار وصخور “عقامت” ؟ وتساءل الكاتب:  كيف وصل هؤلاء القتلة الى “عقامت” ؟؟ هل هبطوا من السماء رذاذاً ساماً فاغترفوا الجريمة ثم تسربوا الى قاع الأرض السفلى ؟؟. أم أنهم شقوا الأرض وفعلوا فعلتهم القذرة ثم تبخروا الى السموات العليا ؟؟؟ أفيدنا ياسادة؟؟؟

لم يكتف “ألنا” فى كتابه القنبلة باسقاط زيف المزاعم واحداً تلو الآخر بتحليله المنطقى الشامل أو باستفهاماته الذكية …، وشرع يفضح بأدلة شبه قاطعة كيف تمت جريمة الاغتيال الكبرى ..، وبدأ يروى القصة بتتابع مقنع وبأسلوب مثير ..، وبتقيد دقيق فى تحديد اركان الجريمة النكراء ..؟ وكانت روايته لاحداث الجريمة على النحو التالى:”سافر إسياس أفورقى فجأة الى السودان بعد أعطى أوامره لعاملة الاتصال بمكتبه على أن تتصل بابراهيم عافة كل ساعة، وتوافيه بالمعلومات أولا بأول، وتحرص الاتصال به كل ساعتين على الأكثر، وبجانب متابعته لمجرى العملية خطوة بخطوة عبر الاتصال المباشر، كان قد أمن فرقة اغتيال مجهزة بأسلحة كاتمة للصوت، وزودها باجهزة اتصال حديثة، وأمن لها وسيلة نقل _ سيارة تويوتا_ وكلف عناصر قيادية لتنفيذ الجريمة وهم:

1.       فلبوس ولدى يوهنس .

2.       أيوب حليباى .

3.       مسفن حقوص .

رسم هؤلاء الثلاثة خطة الاغتيال المحكمة، وأتبعوا فى خطتهم أساليب تمويه مدروسة، ووزعوا المهام التنفيذية فيما بينهم، ومن أساليب تمويههم ان ” فليبوس”  و”حليباى” ومرافقيهما تحركوا من “عراق ” الى شمال شرق الساحل ثم انحرفوا ليصعدوا  الى  قمة جبل “عقامت” حيث يُرابط “عافة” وباتوا بالقرب منه، وفى تمام الساعة الرابعة قبل الفجر فتحوا عليه النار بغتتا، وعتمة الليل ما زالت تسدل ستائر الظلام فى المنطقة ..، وقتلوه غدراً مع رفيقه شامبل “مبرهتو تولدى مدهن” ومرافقيهما بعد أن أجهزوا على حرس الدورية الليلى، وكانوا يعرفون سر الليل ..؛ لأن الحرس لم يتمكن من انذار رفاقه[3] ..، وفى هذه الساعة الحزينة من التاريخ اتصلت باسياس عاملة البدالة بمكتبه ، وابلغته بعدم رد” ابرهيم ” عليها،فكانت فرحته بالخبر بالغة للغاية ..، أما مسفن حقوص فقد اشاع بين الناس أن له موعداً مع ابراهيم عافة ، ثم فك اشاعة أخرى بأنه سيبيت مع فليبوس فى “عراق” وُوجد فى الصباح الباكر على مشارف “عقامت” يرد الناس الذين هبوا ناحية مصدر أصوات الرصاص للمساعدة والانقاذ . وكان يقول لهم :”ارجعوا .. لا شئ.. هى وحدة استخبارات صغيرة للعدو تسللت وأطلقت رصاصاً طائشا!ً، فابدناها عن بكرة أبيها .. عودوا الى مواقعكم واهتموا بشؤون وحداتكم ..،”.

بينما كان مسفن حقوص يأمر وحدات الانقاذ بالعودة الى مواقعها ويخبرهم بأن الوحدات المتسللة قد أبيدت عن بكرة أبيها، فان اطلاق الرصاص ظل يسمع لغاية الساعة الثانية عشر  ظهراً، وهو أمر يثير الاستغراب والريبة ؟؟ فاذا قوة العدو المتسللة أبيدت عن بكرة أبيها، فلماذا استمر اطلاق الرصاص لثمانية ساعات كاملة ..؟، والإجابة على السؤال بالقطع: ان القتلة كانوا يطلقون الرصاص للتمويه حتى “يمحوا” اثار الجريمة، ويخفوا تماما أية علامة قد تشى على هوية القتلة ..!

فعلاً ..، أبيدت وحدة القتلة عن بكرة أبيها..، وكان “تسفا ألم” من بين القتلى، فقد نجا من القتل لحظتيئذ، إذ أصيب بجراح فى بطنه، فربط جراحه، وفر هاربا، وتمكن من الوصول الى المستشفى وهو شاهد عيان على وقائع الجريمة النكراء، وبحكم اشتراكه يعرف تفاصيل الواقعة، ويعرف أيضاً هوية القتلة عن قرب معرفة أكيدة، ودقيقة؛ ولدفن السر أمتدت اليه يد الجناة، فاختفى من المستشفى، ولم يعرف مصيره حتى الآن ..؟.

أما الشخص الآخر الذى عرف بالجريمة، وهوية فاعليها، وهو الآخر فر هارباً بجلده من الموت المحقق، ودخل السودان، ثم عاد الى ارتريا، والتحق بـ”تسفاى محرت” وأودع سر الجريمة عنده، ولما عرفوا مكانه شكلوا بأمر من إسياس وحدة طوارئ خاصة، ولحقوا به، وباشراف مباشر من إسياس قتلوه هناك مع “تسفاى محرت[4]“.

لقد ظن الفاعلون أن السر قد دفن تماماً، وأحاطوه بسياج معتم، واطمأنوا أن لا أحد يجرؤ بنبش مدافن السر الخطير .. ولكن “حواء” الارترية ولاَّدة، فقد انجبت “ألنا” فنبش قبور الاسرار. وبعثر الملفات الخطيرة على الهواء مباشرة متحدياً كل المخاطر والأهوال .. ليدع الحقائق الجنائية فى أيدى شعبه المقهور ..!

بحق تعد الحلقات االثلاث من الكتاب صحيفة جنائية مكتملة الاركان، فقد حدد فيها المؤلف أركان الجريمة السياسية والجنائية، وساق “تُهماً” الى أربعة رجال مازالوا أحياء بيننا، ونحن لا نسلم بصحة التهم الموجهة لثلاث من هؤلاء الاربعة، ايمانا منا بمبدأ “المتهم برئ حتى تثبت ادانته ” وسوف نناقش بعد قليل فحوى هذا المبدأ القانونى الأصيل ..، أما رابع الاربعة فوضعه مختلف بحكم موقعه السياسي، وهو إسياس أفورقى، فأنه مدان بالأدلة والقرائن الثبوتية فى جرائم كثيرة غير جريمة اغتيال إبراهيم عافة ورفاقه. والجرائم المنسوبة اليه كثيرة جداً، ويصعب على المرء حصرها فى مقال متواضع، ولكثرتها، ونأياً عن اطالة الموضوع نذكر منها القليل الذى يثبت إدانته بالدليل القاطع وهى:

1.جرائم قتل

فى عام 1993 أصدر إسياس أفورقى الى قوة مدججة بالسلاح أمراً مباشرا بالقتل، وتنفيذاً لأمره أطلق الجناة الرصاص على  موكب جرحى حرب التحرير الوطنية المتجه من معسكرهم بـ  “ماى حابار” الى أسمرا لطلب العون والمساعدة الإنسانية، فقتلوا منهم عدداً من الرجال، واصابوا بجروح اعداد أخرى. وهؤلاء لم يغترفوا جريمة تستوجب القتل ..، ولم توجه إليهم تهم قانونية محددة أصلاً..، ولم يمثلوا أمام محكمة قضائية عادلة اطلاقاً ..، فقد قُتلوا خارج نطاق القانون بالكامل ..، ونُفذت جريمة قتلهم فى وضح النهار وعلى قارعة طريق عام ..، وقد برر إسياس قتلهم بالدفاع عن النفس ..، وجريمة قتل مماثلة نُفذِّت بحق عدد من افراد الجبش الشعبى باسمرا عقب تجمهر عدد من الجنود بساحة عامة للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية .. وهؤلاء القتلى ليسوا “دجاجاً” فى مزرعة الحاكم بأمره ليذبحهم بمزاجه الخاص؟!

2.جريمة تقييد الحريات والإبادة الجماعية

جرت وما زالت تجرى فى إرتريا عمليات دهم واسعة، واقتحامات عديدة لحرمات البيوت، واختطاف الآمنين الابرياء من منازلهم أو من مقار أعمالهم أو من الشوارع أو من الاماكن العامة، وهذه العمليات الاجرامية الواسعة تُنفذ دون اذن قانونى من النيابة العامة، وهى جرائم ثابتة يدان فيها إسياس، لأنه هو الآمر بارتكابها، وضحاياها يعدون بعشرات الآلاف من الرجال والنساء. وقد مضت سنوات طويلة على اختطاف بعضهم، والزج بهم فى معتقلات سرية لا تخضع لأى شروط قانونية، وتفتقد لأبسط شروط الحياة الادمية، واعداد غفيرة من هؤلاء يعدون بالآلاف يلقون حتفهم لاسباب عديدة، فإما بالاعدامات السرية، واما يموتون تحت التعذيب العنيف بوسائل محرمة دولياً، أو أن لحومهم تذوب بفعل الحرارة الشديدة والضغط العالي فى الكهوف العميقة أو فى الاقفاص الحديدية الحارقة مما يؤدى الى موتهم ببط بعد أن يذوقوا مرارة الموت يوميًّا وهم أحياء ..، فتقييد حريات الناس بدون حكم قضائى من محكمة قانونية هو فعل جنائى يُعاقب عليه المجرم قانونياً، ووضع الناس فى معتقلات سرية حتى الموت، والتصرف فى حياتهم بوسائل قتل متعددة؛ هى إبادة جماعية يُدان ويُعاقب بأشد العقوبات مَن يرتكبها بموجب القوانين الوطنية والدولية المعاصرة ..!

فى كل بلاد الدنيا الانقلاب على الدستور جريمة يُعاقب مرتكبها عقاباً قاسياً، وإسياس قد انقلب على الدستور الذى أعده على مقاسه. وعطل العمل به بدون مبرر قانونى مشروع، رغم أن الدستور المعطل مطعون فى مشروعيته ؟!

كنا قد أجلنا قليلا مناقشة مبدأ “المتهم بريء حتى تثبت ادانته” لنبين أن المشتبه به الأول فى جريمة اغتيال إبراهيم عافة، وهو إسياس أفورقى حالته القانونية مختلفة، عن حالة شركائه أو مأموريه الثلاثة. وهؤلاء الثلاثة ليست براءتهم دائمة، وانما هى براءة مؤقتة مرهونة بمثولهم أمام قضاء عادل، والقضاء وحده الكفيل ببراءتهم أو إدانتهم وفق أسانيد، واجراءات قانونية متبعة ..، والقول أنه بامكاننا أن نقدم “فلبوس” و” حليبياى”  الى المحكمة أمر يتجاوز حدود قدراتنا، وقد يثير السخرية منا، والناس لهم الحق أن يسخروا من مثل هذا الادعاء لان المشتبه بهما ما زالا يتمتعان بحماية القوة المادية لاسياس وسلطته الغاشمة، فإدعاء جرهما الى المحكمة يبدو حلماً ساذجاً  على الأقل فى هذه اللحظة ..!

أما مسفن حقوص فوضعه يختلف عن بقية شركائه، فهو خارج السلطة الغاشمة، ويعيش فى بلاد سيادة القانون فيها واقع راسخ، فننتظر منه ان يدلى بشهادته بالمثول الى أقرب محكمة وطنية حيث يعيش فى بلاد يسود فيها القانون ولها محاكم فى كل زاوية من زوايا قُراها ومدنها، والبلاد التى يعيش فيها قد وفرت له امتيازات مقدرة وفق قوانيها، ومحاكمها مهنية تتسم بالنزاهة والحياد، فهى مكان مناسب له ليقدم افادته ليفنِّد ما نسب اليه من تُهم، ويسجل بوضوح فى محاضر المحكمة: ماذا رأى ؟ وماذا سمع؟ أو ماذا اغترفت يداه من الجرائم المنسوبة اليه أو  غيرها من الجرائم السياسية والجنائية التى نفذِّت وهو على رأس السلطة السياسة والعسكرية والحزبية فى إرتريا؟!

عند خروج مسفن حقوص من ارتريا وجه اليه فى مقابلة اعلامية سؤالاً: عن اعدام مائة وخمسين مسلماً، اعدموا سراً بالجملة، وقد أفشى سر اعدامهم شاهد عيان فر من ارتريا. وحقوص نفى نفياً قاطعاً علمه بالأمر. ومستمعيه لم يصدقوا نفيه، واعتبروه تستراً على الجريمة وفاعليها! وأما هذه المرة فالسؤال مختلف عن سابقه، فهو اتهام موجه اليه علناً، وعلى الهواء مباشرة، فالنفى كالمرة السابقة فى وسائل الاعلام بالكلام المباشر أو بالاماءة الساخرة بهز الكتفين،أو بمط الشفاه، أو بتحريك الحاجب:”اندعى..لا علم لى ..” اجابة غير مقبولة، ولا تفيده أبداً. فالنفى بالحركات الساخرة، أو السكوت على موضوع الاتهام وكأنه لا يعنى شيئاً ذا قيمة، فالتصرف الساخر هذا أو اللامبالة المقصودة لا تثبت البراءة من التهم الكبيرة الموجة اليه، وانما تعنى دليل إدانته بوضوح شديد..!

لدى مسفن حقوص اسرار مخفية عن عامة الناس، فقد افاد بمعلومات لها علاقة بالجرائم السياسية والجنائية، فاما افادته الأولى فكانت  علمه بإستشهاد ابراهيم عافة، إذ ذكر أنه كان على موعد معه قبل استشهاده، وهذا يدلنا أنه يعرف الملابسات المحيطة باستشهاده، ويمكنه أن يكشف كل المعلومات المخفية أو يفِّند المعلومات الواردة فى الكتاب..، أما إفادته الثانية فهى قوله :”أن إسياس لديه خلية لم تشبع بعد من دم[5].!” وهنا يفُهم من كلامه أن خلايا إسياس غير خلية واحدة مشبعة بالدماء…، فنسأله: من دماء من شبعت خلايا إسياس أفورقى..” ونريده أن يسجل إجابته فى محضر محكمة قانونية نزيهة؟!.

قد يرى مسفن حقوص أن التهم الواردة فى الكتاب “كيدية” ولا تستند على وقائع حقيقية، ومن حقه أن يرى ذلك، والفيصل فى التثبيت من “كيدية” التهم أو صحتها هو أمر تقرره محكمة قانونية محايدة، فاذا كان واثقاً من براءة ساحته مما نسب اليه من الجرائم، فعليه أن يُسرِع برفع دعوى قضائية متظلما من المؤلف “ألنا” ومن المواقع الناشرة له. وهذه فرصته التأريخية لإثبات نزاهته إذا كان نزيهاً فعلاً ؟!

إذن، أمام مسفن حقوص خيار واحد، وهو خيار المثول الى المحكمة، فاما أن يَمثُل اليها طائعاً بمحض إرادته لخدمة العدالة… ليسجِّيل افادته عما يعرف من معلومات متصلة بالجرائم السياسة .. أو ما اغترفت يداه . أو أن يذهب الى المحكمة مدعياً على من نَسبَ اليه التهم ويترافع ضده حجة بحجة!. وإذا لم يمثل اليها طائعاً أو مدعياً فلا يلوم إلا نفسه، لأن عواصف دم الشهداء لا يمكن السكوت عليها الى الأبد!. وقضية العدالة تعنى كل الشعب الارتري: بأهاليه، ومنظماته المدنية وهيئاته الحقوقية وقواه السياسية كافة وعلى رأسها حزب الشعب الديمقراطى الذى ينتمى اليه، فاذا لم يُسارع حقوص الى المحكمة شاهداً أو مدعياً، فسيجد نفسه مغلولاً فى قفص الاتهام، وستجرى له محاكمة عادلة، وننصحه أن يأخذ الأمر جدياً، ويتخذ قراراً صحيحاً وحاسماً حتى لا يكون ضيفاً محشورًا مع مغترفى الجرائم ضد الانسانية فى “لاهاى”.. والسوابق فى هذا المجال كثيرة جداً.؟!

حامد عبدالله

Ghadam61@yahoo.com


[1] .البذرة الفاسدة: ترجمة بتصرف لعنوان الكتاب – تلمي نزرئي كرداد-.

[2] .الاقتباس من الكتاب ليس اقتباسا حرفيا، وإنما مترجم بتصرف. انظر أصل الحلقات المنشورة بالكامل في المواقع المذكورة في المقال وموقع (تقوربا).

[3] . انظر مقال: (الظروف الغامضة لاستشهاد إبراهيم عافة) لكاتبه رؤسوم كيداني – الحلقة الأولى المنشورة بموقع “فرجت” منقولا إلى العربية من “أسمرينو”.

[4] . ارجع إلى كتاب البذرة الفاسدة “تلمي نزرئي كرداد” لمعرفة التفاصيل.

[5] .ارجع إلى بيان أو تصريح مسفن حقوص، عند إلقاء القبض على مجموعة 15.

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9886

نشرت بواسطة في ديسمبر 3 2010 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010