مصاريع الاستبداد
فتحي_عثمان
مصاريع الاستبداد
أثار المقال السابق تحت عنوان “خطوات في الطريق نحو الاستبداد” نقاشاً مفيداً مع الأصدقاء الذين أفادوني بتعقيباتهم النيرة وفتحوا بذلك – مشكورين- آفاقاً جديدة للنقاش والحوار.
دار نقاش حول افتراض أن جبهة التحرير كانت تنظيماً “يؤمن ويطبق” التعددية والتساؤل حول هذا الافتراض، وهو تساؤل مشروع أثاره المقال. أنوه قبل الدخول في تفاصيل جديدة أن الافتراض كان عبارة عن “افتراض اختبار” لذلك قلت أن افتراض أن الجبهة كانت كذلك يظل محل تساؤل، وهو الأمر الذي تجسد في الحوار مع الأصدقاء.
اعتقد أن هناك عدة معايير للحكم على التنوع والتعددية في الجبهة، أولاً المعيار التاريخي: هو واقع صدامها الأولى مع حركة تحرير ارتريا في “عيلا صعدا” ولاحقاً تعاملها مع قوات التحرير الشعبية والتيارات التي بدأت تظهر داخلها. معيار آخر يعبر عنه السؤال التالي: “لماذا كانت الحركات داخل الجبهة سرية؟” لسبب أن التيار العام تعامل مع أي تنوع بأنه “شق” لصف الثورة وتعامل بما تمليه الشرعية الثورية. مما دفع الاتجاهات السياسية المغايرة إلى اللجوء للسرية بغرض “التقية” والتخفي.
وفي سياق الحوار مع الأصدقاء طرأت المقارنة مع منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح المتعددة المكونات. في بعض الأحيان تتسم المقارنات ببعض التعسف، ولكن تسليط الضوء على سياق المقارنة يساعد على رفع العسف. جبهة التحرير الارترية ومنذ تكوينها في القاهرة في العاشر من يوليو من عام 1960 كانت تضع الكفاح المسلح نصب أعينها ولم تر بديلاً عنه لتحقيق استقلال ارتريا. نصيحة المجاهد المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي لقادة الجبهة الجديدة باتباع سبيل الكفاح المسلح للحصول على الدعم العربي جددت العزم على متابعة هذا الخيار، بكل مشاقه ومتاعبه وهو ما وسم تجربة الجبهة في العشر سنوات الأولى من عمرها.
حركة فتح من ناحية أخرى قامت على التنوع بتعدد الأقطاب المكونة لها كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية وحزب الشعب الفلسطيني وجبهة التحرير العربية.. الخ، وكان التركيز أولا ليس على الكفاح المسلح، بل إبراز القضية والحق الفلسطيني وتحريك الجبهات العربية، لاحقاً، وفقاً لفكرة “التوريط الواعي” وهي فكرة تقوم على توريط الجيوش العربية في مواجهة شاملة مع إسرائيل تحقق تحولاً نوعياً في مسار النضال الفلسطيني (انظر: ماجد كيالي، نقاش السلاح: قراءة في إشكاليات التجربة الفلسطينية.) وتنوع فتح لم يكن سرياً ولم يتم التعامل معه بالعنف الثوري القائم على الشرعية الثورية والتنظيم الثوري الواحد بغرض تحقيق وحدة التنظيمات الوطنية. فمسار جبهة التحرير نحو الكفاح المسلح حدد من البداية تقديم العمل العسكري ومتلازماته (خاصة الشرعية الثورة وأمن الثورة) على الاعتبارات السياسية الصرفة.
ويقودنا مجمل ما تقدم إلى افتراض أن التنوع في جبهة التحرير كان ناتجاً من التنوع الثقافي لأصحابه خاصة (التعليم والتجربة الحياتية) فالقادم من العراق ليس هو بالطبع مثل القادم من سوريا أو السودان أو مصر، ولكل واحد من هؤلاء تصوره السياسي لمعنى الكفاح المسلح والاستقلال والطريقة التي يجب أن تسير بها الأمور. إذن نحن أمام تنوع طبيعي أدي إلى تباين سياسي اتسم بالسرية تارة وبالصدام تارة أخرى.
بالمقابل، أيضاً، اعتمدت الجبهة الشعبية في النصف الثاني مع عقد السبعينات وبشكل كبير على مكون اجتماعي واحد مع مراعاة عناصر (التعليم والتجربة الحياتية) التي ميزت أعضاء الجبهة، فالتجانس الذي اتسم به التنظيم تم توظيفه في صب المقاتلين في “قوالب” فكرية وعملية جاهزة، مبنية على المحاذير التي وقعت فيها الجبهة مع الحرص على عدم تكرار الأخطاء السابقة، وهو ما أشرنا إليه بتوحيد القيادة والتوجه السياسي.
وتطرح هذه القولبة السؤال الكبير المتعلق بالهوية الوطنية وتعامل التنظيم معها. انفراد الجبهة الشعبية بالساحة منذ مطلع الثمانينات ولعقد كامل أسهم وبروية في تخمر رؤيتها للهوية الارترية على مبدأ المواطنة الارترية الواحدة أو (حادي ارتراوي مننت)، أي بناء الهوية الوطنية الارترية على وحدة قومية وثقافية: حزب طليعي واحد (وقائده واحد كذلك)، لغة واحدة ومصير مشترك واحد. أي في المحصلة الأخيرة نحن أمام “توحيد قسري” وليس “وحدة” طبيعية للمكونات الاجتماعية.
وهذا من مبتدعات التنظيم المصمت من الناحيتين الثقافية والسياسية، بحيث تتبادل كلا الناحيتين التأثير
المتبادل وهذا مصراع آخر من مصاريع الاستبداد
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47228