مفاتيح الحراك الوطني (بين دهاليز التقليد ومنصة التجديد)
إن مايثير حزن وحنق الكثيرين ويصيبهم بالحيرى والإندهاش في آنٍ معاً رؤية عناصر قيادية(شابة وأخرى تأريخية) محسوبة على طلائع النخبة السياسية والثقافية للمجتمع الإرتري ، غير مؤمنة بالوعي المتطور الذي بلغته قواعد جماهيرنا المناضلة ، تلك التي طوت من قبل مراحل نضالية شاقة ومستويات مختلفة من الوعي المتقدم بمفاتيح الحراك الوطني ، الأمر الذي أعمى نظر هذه الطليعة وأظهر تزمرها وعدم قبولها لأي حراك جماهيري خارج إصطفافها التنظيمي ، كما جعلها تصدر أحكامها المسبقة لطمس آثار هذا الحراك والتقليل من شأنه وإظهاره كعمل غير مشروع بل وكأنه لا ينتمي الى البناء الوطني من قريب أو بعيد .
هذا ما حدث عندما تلقوا خبر ملتقى القوميات الإرترية بمدينة مقلي الإثيوبية ، ذلك الملتقى الذي أجمعت من خلاله شريحة جماهيرية معتبرة على إنتخاب آلية نضالية جديدة تعمل على نقل الحراك النضالي الجامد الى مربع الحراك القومي الناشط كتجربة حديثة تسعى لتفعيل الإطار الثقافي لمكونات الشعب الإرتري، وإعادة بناء العلاقات السياسية من خلال لبناتها الداخلية المكونة لمفاصل البناء الإجتماعي(الثقافي والقومي) بعد أن ظلت هذه الفئة مبتورة عن الحراك الوطني العام لعقود طويلة مضت، نتيجة عزلها طوال تلك الفترة عن مقام التوجيه والقيادة المباشرة لحقوقها ومصالحها الجوهرية .
ومن ثم رأينا كيف إنفلق هذا الإتجاه النضالي الجديد كإنتفاضة ثورية رائدة على الأوضاع الجامدة منذ عقود ،إنتفاضة نوعية تتجه لا لبعثرة الصفوف بل لجمع شتاتها ورفع الحرج والمعاناة عن الشريحة الجماهيرية وتقليص المستطاع من حملها الزائد عن طاقتها، بعد مراحل سنواتٍ عجاف من التضحية بالروح والدم والمال من أجل أهداف ثورية لم يتحقق منها سوى إجلاء المستعمر لتبقى القيادة التأريخية ،كماهي على مربع سلطتها الماسية وداخل حلبة تصارعها الداخلي ،بصورة لا تعبر بأي حال كان عن تقديرها لكل تلك التضحيات التي قدمت في سبيل التحرر والإنعتاق النهائي من واقع التمييز والتعنصر الداخلي خلف قبة المطالب القياداية المستعرة الراغبة في السلطة ولو على رأس الجماجم ،ومع ذلك نجدها لازالت مصرة على سياسة التأجيل المستمر لقطار الخلاص النهائي من زل الممارسات الإستعمارية الصادرة ممن يتوشح ثوب الإنتماء الوطني ويمارس أدوار فشل المستعمر الأجنبي في تحقيقها .
ألا يكفي عبئ إنتظار التغيير الديمقراطي كل هذه السنوات ومشقة التسول على موائد القوى الإرترية التي تقلدت مهام القيادة والتوجيه لعموم الحراك النضالي، بحثاً عن بارقة أمل ووميض إنفراج ،أما كان هذا هو حال الجماهير منذ اللحظة التي إستقلت فيها البلاد حتى فاض فيها الكيل وبرز فيها هذا التحول الجديد في مسار الحراك النضالي ، لتعلن الجماهير من منبر ملتقى القوميات أن كفى خداعاً وتمويها وضحكاً على عقلية الجماهير الإرترية المناضلة ، كفى إستهتاراً بقدراتها الجبارة التي إستطاعت من قبل أن تنتزع الحرية من قبضة المستعمر وتسجل إنتصاراً باهراً للإرادة الوطنية المستقلة الرافضة لأشكال القمع والتهميش والإزدراء بمكانة الإنسان الإرتري ومقامه النفسي الكريم وحقوقه الوطنية المتساوية.
لقد جاء الأوان لتنطلق عبر صيحة الشباب من جماهير شعبنا ، صيحة النصر التي طالما إنتظرتها وما أدركت ملامحها حتى إهتدت إليه مع إطلالة خيوط ملتقى القوميات الإرترية الواعد ، الذي فجَّر بداخل قطاعات واسعة من أبناء الشعب الإرتري ماكان مغموراً من الأماني والأشواق، لكيان نضالي يبدأ إنطلاقته بتأمين حقوق كل شريحة إجتماعية على حدى، ليمنحها بذلك مقعدها النضالي الذي يتناسب معها بعد إكتسابها صفة التوجيه والقيادة لحقوقها ومصالحها القومية ، كإطار وطني يحمي حقوق الأفراد من خلال حمايته لحقوق مكونهم الثقافي الذي ينتمون إليه (الإطار القومي) ، ثم ليبدأ من بعد ذلك مسيرة النضال إنطلاقاً من وعي حقيقي لمفاصل الكيان الوطني، الذي ينتمي إليه ولحقيقة الأهداف الوطنية العليا التي تقتضي التجمع داخل إطار الجبهة الديمقراطية للقوميات الإرترية، كوعاء وطني يعمل على رسم خارطة الحقوق والمطالب الوطنية، إنطلاقاً من تثبيت حقوق كل قومية وفق الشراكة والتعايش والقبول الطوعي لمبدأ الوحدة الوطنية الحقيقية (المفقودة داخل أبنية ودهاليز البناء التنظيمي (التقليدي) للقيادة الوطنية )،نعم إن الوحدة الوطنية ممارسةً موجودة على أرض الواقع الجماهيري والشبابي على وجه الخصوص ومعدومة داخل الأطر الجامدة للبناء التنظيمي السياسي ، هذه حقيقة ثابتة ، ولكن رغم ثبوتها لم يتشكل البناء التنظيمي البديل المعبر عن تصحيح هذا المسار التنظيمي التقليدي ، حتى لحظة تشكل البناء القومي الأصيل الغير مطلي من الخارج لإخفاء ما بالداخل من عيوب وممارسات خارج حدود الصلاحيات والأهداف الوطنية ، حقيقة مؤلمة طالما حاول الحادبون على مصلحة الوطن التركيز عليها لبعثرة الشعارات الوهمية التي وضعت أمام هذا البناء التنظيمي التقليدي (الهولامي) لإيهامنا بأنه متماسك وقوي ، بينما هو ليس بحاجة لسوى هزة بسيطة لينهار كما إنهار من قبل وخرج من مهامه الثورية التأريخية ليحل محله بناء الهقدف القومي (الممثل لقومية التجرينية) والمتخفي بصورة تقليدية خلف إطار وطني للتمويه ليس إلا، واقع مؤلم يصعب وصف تفاصيله وتسليط الأضواء على الجراح التي أدماها ، ولعل مخرجات هذا الإتجاه تكفي لتدل على مكوناته الهشة.
وبينما نجد عدم تماسك البناء التنظيمي للحراك الوطني في المراحل السابقة ناجم عن سيطرة أيدلوجيا خارجية (مثل الشيوعية ثم العلمانية)على ثقافة الحراك (السياسي)، وعن إبتاعده من ثم عن عوامل التماسك الطبيعية الموجودة في مفاصل بناءه (القومي) المنظم لحراك المجتمع الإرتري منذ وجوده على هذه البسيطة ، هو مايميز البناء التقليدي للنظام السياسي المعمول به منذ عهود غابرة دون إجراء أي معالجة حقيقية لتصحيح مساره الذي مات كثيرون من أبناء هذا الوطن الحبيب وتم تصفيتهم بأمر هذه القيادات عندما تجرؤا في الخفاء لإعادة تنظيم أنفسهم بعد إجراء تعديلات جوهرية في هذا البناء التقليدي المعمول به في الساحة السياسية كواجهة للحراك الثوري المسلح .
نجد مايميز البناء القومي هو أصالة التكوين أي خلوه من تدخلات الأيدي الخارجية ومن أي ثقافة غير وطنية تعكس محتواه الأيدلوجي أو الثقافي أو السياسي، وليتأكد لنا بالتالي أن هذا البناء إرتري صرف ، يعبر فقط عن وجود مكونات إرترية ذات ثقافة متباينة تتعدد في تسعة فصائل قومية لها لغاتها أو لهجاتها الخاصة،ليأتي من بعد ذلك البرنامج السياسي معبراً عن واقع هذا الحال التنظيمي الأصيل ومنظماً لحراكه السياسي والإجتماعي والثقافي والإقتصادي بما يخدم المصلحة العامة لجميع هذه المكونات ،عملاً بشعار أن الوحدة الوطنية للمجتمع ما تأكيدٌ لوحدة مكوناته القومية (وتعبير عن إيماننا بالخارطة الثقافية لشرائحنا ال وطنية وبحدودنا الديموغرافية والسياسية الإرترية ).
بقلم: أبو نضال
Abu.nedal@live.com
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=3859
أحدث النعليقات