مقاربة نقدية لبعض مكونات أزمة الفكر السياسي الإرتري المزمنة
بقلم: زين العابدين محمد علي “شوكاي”
أبدأ مقالتي هذه بفرضية تقول “إن الفكر السياسي الإرتري يعاني من أزمة مزمنة تتبدى تلك الأزمة بأشكال شتى، وأسبابها تتنوع بين ما هو ذاتي وآخر موضوعي، وهذا بدوره أدى ويؤدي إلى تعطيل ظهور أحزاب وحركات سياسية يجمع عضويتها فكر سياسي واضح”.
وتبعاً لهذه الفرضية هناك غياب واضح للعمل السياسي المؤسس على القناعة الفكرية الواضحة والمحددة يراها كل مراقب للعمل السياسي الإرتري، وبالتالي يبني الإنسان موقفه تجاه الجماعة المعينة وفقًا لهذا الوضوح في الفكر والموقف الذي تعكسه تلك الكيانات السياسية. معظم مظاهر العمل السياسي الإرتري إما أن تكون امتدادا لحركة الثورة الإرترية، أو أنها تنظيمات وحركات نشأت لاحقاً لكنها لم ترتق إلى مستوى تشكيل إضافة نوعية ومقنعة حقًّا، بعيدا عن كونها إضافة كمية فقط.
والمعضلة الأولى في هذه الإشكالية هي كيفية التعامل مع الماضي الذي كثيرًا ما يمثل مرجعية تبرر وجود تلك الحركات السياسية، والمنبع والأصل الذي تستمد منه تلك الحركات مشروعية استمرارها. الأمر الثاني الذي ظل باستمرار يسترعي انتباهي ويحتل حيزا من تفكيري فيما يتعلق بالحركات السياسية الإرترية هو تعاملها مع قضيتي الحرية والديمقراطية، خاصة قضية ممارسة الديمقراطية داخل هذه الحركات نفسها. وهنا تبدو الديمقراطية وكأن الآخر فقط المعني بتطبيق أسسها ومبادئها تجاه عضويته وتجاه الآخرين. أماّ إثارة هذا الموضوع داخل التنظيمات والحركات السياسية نفسها، والاحتكام إليها باعتبارها موجهًا وضابطًا لحركة تلك التنظيمات الداخلية كثيرًا ما يؤدي إلى انشقاق هذه الحركات إلى عدة تيارات، أو في أفضل الأحوال يتم التعامل مع الطرف الذي يحتكم إلى الديمقراطية وكأنه متآمر أو أقلية متمردة على خط الحركة أو التنظيم، ويتم التخلص من ذاك الطرف بالسرعة الممكنة، وكل منّا لديه بالتأكيد أكثر من مثال واحد يمكن الاستدلال به على مثل هذه الظواهر.
أما القضية الثالثة والأخيرة في هذه المحاور الثلاثة فهو ذلك الغموض الذي يحيط بقضية الهوية، والانتماء الوطني والإقليمي لإرتريا أرضًا وشعبًا. فإمّا أن يتم التحايل على هذه القضية داخل الحركات السياسية الإرترية، وطرح هذا الموضوع وكأنه ليس أمرًا ملحًّا أو مشكلة مطروحة على بساط البحث وتحتاج إلى تدقيق وتثبيت أوضح، وبالتالي هي قضية مرنة ومتروكة للمستقبل ولا يجرؤ أحد بالخوض في تفاصيلها وما يمكن أن يترتب على عدم الوضوح بشأنها من مشكلات مستقبلية. يبدو أن التنظيمات ليست على استعداد لدفع فاتورة الوضوح في الموقف من مثل هذه القضايا، لأن ما نراه على أرض الواقع اليوم هو قهر كل المكونات الإرترية واختزالها في هوية واحدة (حادي هزبي، حادي لبّي – شعب واحد وقلب واحد).
وبالتالي تعتبر هذه المحاور الثلاثة التي سبق الإشارة إليها بماثبة مفاصل أساسية تتمحور حولها هذه المقالة، في محاولة للخوض في تفاصيل أزمة الفكر السياسي الإرتري المزمنة، والنظر في الأسباب التي جعلت هذه الأزمة مزمنة، لم يتمكن خلالها الواقع السياسي الإرتري من تجاوزها واجتراح آفاق جديدة وجريئة تخرج بإرتريا وشعبها من المشاكل التي تعيق نموهم السياسي والاجتماعي والثقافي. فالمحور الأول هو إشكالية التعامل مع الماضي أو التاريخ، حيث نرى الحركات واقعة في مطب النظرة “الماضوية”، والثاني هو التعامل مع مفهومي الحرية والديمقراطية كممارسات واعية ومتقدمة تؤدي بالضرورة إلى تقدم أية حركة تمارسها بشكلها الصحيح، وفي غيابها يتحول أي تجمع سياسي ملتقى للأهواء الفردي منها والجماعي. والقضية الثالثة والأخيرة هي قضية هوية وانتماء إرتريا أرضًا وشعبًا، والتي تعتبر من المسائل الحساسة التي لا تتحمل اللامبالاة أو الغموض.
بالنسبة للتعامل مع الماضي والتاريخ، هناك نزعة واضحة لدى معظم الحركات السياسية الإرترية في اجترار الماضي، خاصة تلك التنظيمات التي يتكون غالبية قواعدها من حملة الثقافة العربية الإسلامية، حيث نرى استجلاب الماضي عند الأزمات كأساس لمعالجة ومحاكمة ما يطرحه الحاضر من مشكلات وقضايا، ليتم بذلك إلباس الماضي لباس الحاضر. والقول بترابط الماضي والحاضر يصبح في هذه الحالة المبرر والمسوغ للعودة إليه، وكأن المستقبل مرهون بالنظر إليه من الماضي – حسب تعبير أحد المفكرين العرب في وصفه للحالة العربية. والماضي هنا يحمل سلطة سلفية في معانيه وآلياته، وذلك ما أصاب العقل السياسي الإرتري بمشكلة تحصيل المعرفة من الماضي بحكم العجز عن إنتاجها بنفسه وباجتهاداته الخاصة انطلاقاً من معطيات الحاضر، وهذه المشكلة لاتنحصر في التنظيمات بل نلاحظها حتى على مستوى الأفراد.
هنا ينبغي الإشارة إلى أهمية عدم الخلط بين أزمة القوى السياسية وبين أزمة المجتمع بأسره، والذي تعتبر أزمته أكبر وأبلغ أثرا من أزمة التنظيمات السياسية نفسها، رغم أن الفصل بين الأزمتين أمر غير ممكن من الناحية العملية. وعندما تمر الشعوب بأزمة معينة، خاصة إذا أصبحت تلك الأزمة مزمنة، تبدأ في طرح أسئلة وجودية، ويبدأ مفكروها وحركاتها السياسية بطرح القضايا الحقيقية التي تكمن وراء تلك الأزمة الوجودية، الأمر الذي بدت آثاره تظهر في الآونة الأخيرة على المستوى الإرتري. والإجابة على تلك الأسئلة لا تتأتى بتلك البساطة، بل في تراكم مستمر للأفكار المطروحة وتأصيلها وتطويرها، وهذا الأمر يستغرق بعض الوقت. فالعمل السياسي يجب أن يفهم في هذا السياق كعملية معقدة ومتواصلة وتراكمية، لكن ذلك لايمنع السعي في تحقيق نقلة نوعية، والإسراع بالعملية السياسية خطوات إلى الأمام. هذه الفرصة كانت متاحة أمام القوى السياسية، صبيحة تحرير البلاد، للمبادرة بالأخذ بها ووضع النظام الذي كان يتنكر لوجودها في حرج، لكنها لم تفعل ذلك لأسباب عديدة من بينها الارتباك الذي لاحظناه نتيجة غياب التخطيط المبكر، والنظرة الثاقبة، والرؤية النافذة لما يمكن أن يطرحه المستقبل من مشكلات وقضايا تحتاج إلى التصرف السريع والمحسوب بدقة في نفس الوقت، لمفاجأة الخصم السياسي.
نعود مرة أخرى إلى المحور الأول من محاور هذه الورقة وهو التعامل مع الماضي والتاريخ في العمل السياسي الإرتري. والماضي كثيرا ما يستخدم، عندنا وعند غيرنا، كأداة لاستنهاض الهمم، وبحجة الاستفادة من دروسه، وتوظيف ما يمكن توظيفه منه لمواجهة الحاضر والمستقبل. هناك تباين أيديولوجي واضح في هذا التوظيف لايتسع المجال للخوض فيه هنا، لكنه يمكن القول باختصار بأنه كثيرًا ما يتم توظيف الماضي بصورة تعيق الرؤية السليمة للواقع، والتفسير المقارب لحقائقه. والتباين الأيديولوجي في النظر إلى الماضي يتبدى في صور شتى، فهناك من يضفي الرومانسية بل القدسية على الكثير من قيم الماضي ووقائعه التاريخية بشكل لايصمد أمام أي تمحيص موضوعي ودقيق لتلك القيم أو الأحداث أو الوقائع. وكانت هناك أيضًا توجهات فكرية واضحة في العمل السياسي الإرتري تختزل الوقائع التاريخية في تفسير أحادي مادي لجعلها تتناسب مع طرح فكري معين، كما كان يحدث أيام المد اليساري، وما زالت آثاره الفكرية باقية وتتجسد في بعض المواقف حتى بعد أن أصاب هذه المنظومة الفكرية الوهن الشديد في المرحلة الراهنة.
وفي محاولة لتلخيص هذه المشكلة المعقدة والتي تلعب دورها وإن كان محدودًا في تعميق أزمة الفكر السياسي الإرتري في مرحلته الراهنة، يمكن القول إننا كثيرًا ما نتورط في انتزاع تاريخية وزمانية أحداث ومقولات بعينها، ونقع في الاستخدام المفرط لأهميتها في واقعنا الحاضر، بنـزعها عن زمانها وحدود مكانها، وبهذا نعطل كل الملكات النقدية التي أنعم الله بها علينا لنتجاوز كبوة الحاضر إلى المستقبل بزاد من المعرفة الدقيقة لواقعنا الحالي، مع وضع الاعتبار لمؤثرات الماضي والتاريخ على الواقع في سياق زماني ومكاني موضوعي. وكمثال على هذه الحالة نرى تخبطًا واضحًا في تفسيرنا لوجود الكيان الإرتري عندما يتم ربطه بالماضي البعيد، وبالتاريخ الوسيط الذي تم خلاله تكوّن القبائل والأقاليم الإرترية، وتاريخ نشوء إرتريا الحالية بموقعها الجغرافي والسياسي المعروف اليوم، وبنشوء الحركات السياسية والتفسيرات السياسية والاجتماعية والثقافية المعطاة لأسباب بروزها من حزب الوحدة مع إثيوبيا إلى حزب الرابطة الإسلامية الإرترية، إلى الأحزاب الأخرى في الكتلة الاستقلالية، ثم عند النظر في تاريخ ظهور فصائل العمل الوطني من حركة التحرير الإرترية وجبهة التحرير الإرترية، والتصفيات والانشقاقات التي رافقت مسيرة هذه الحركات حتى تم انفراد تنظيم واحد بساحة المواجهة العسكرية ضد إثيوبيا ضمن ترتيبات دولية وإقليمية وغيرها من الظواهر. ثم جاء الاستقلال والدخول في مرحلة أكثر ظلامية وأكثر تخبطًا بالمشروع الوطني الإرتري برمته، الأمر الذي دعا قوى اجتماعية وسياسية كثيرة إلى طرح أسئلة وجودية حقيقية وضعت المشروع الوطني برمته موضع تساؤل. هذه القضايا المطروحة كلها، والحقب التاريخية التي مرت على الكيان الإرتري، تلعب دورها بشكل حاسم في تكوين الوعي والوجدان الجماعي للإرتريين، ولا يوجد اتفاق بشأنها في مستويات عديدة، مماّ يتسبب في بعض الأحيان إلى خلافات في تفسيرنا للكثير من الوقائع والأحداث التي ننطلق منها لاتخاذ موقف معين، خاصة وأن الماضي كثيرًا ما يحكم تصرفاتنا ومواقفنا.
وبدلاً عن استئناف واستنساخ الماضي، واستجلابه لنعالج من خلاله المشكلات التي يطرحها الحاضر، يجب الآن الإقرار باستقلال الحاضر عنه والانطلاق من حيث توقف الأبطال الذي سبقونا للاستمرار في المشاريع الكبيرة التي أملت عليهم ظروفهم أن يتحملوا مسؤولية قيادتها. وهذه مسؤولية سياسية وأخلاقية لأبناء هذا الجيل، وتقف كتحد كبير أمامهم في إجادة فن قراءة الواقع والحاضر باستقلالية واضحة عن الماضي، واجتراح حلول جريئة ومخارج سليمة من التخبط الذي يعيشه أبناء هذا الجيل، وإلا سنظل أسيري الماضي، ومشوشين في الحاضر، ودون أية رؤية مستقبلية.
أنتقل بعد ذلك إلى المحور الثاني من هذه الورقة والمتمثل في تعاطي الحركات السياسية الإرترية مع قضيتي الحرية والديمقراطية كشأن من شؤون هذه التنظيمات الداخلي، وكشأن عام تناضل الحركات السياسية في سبيل إرساء دعائمه وتقوية وتعزيز دوره في الحياة السياسية الإرترية. سبق في هذه المقالة أن أشرت إلى أن أي تجمع سياسي عاجز عن ممارسة الديمقراطية في داخله، ولا يتيح لعضويته قدرًا وافرًا من الحرية الواعية والملتزمة لممارسة النقد وتقويم مسيرته، سوف يصبح حتمًا عاجزًا عن النضال من أجل الحرية والديمقراطية لغيره.
يقال فيما يقال إن الحرية هي لحظة الاختيار الفاصلة والدقيقة التي تقف فيها الجماعة أو يقف فيها المرء بينه و بين نفسه، وهذا يعني ضمنًا أن ما يملأ هذه المسافة أو هذا الفراغ الدقيق هو الفكر، حيث يحول الفكر الحرية إلى طاقة أو قدرة الفرد والجماعة على تغيير الذات والواقع سلبًا أو إيجابًا، بمعنى تغيير نظام التفكير ونمط الحياة. والفكر باعتباره ميزة الإنسان، وقدره، ومصدر قوته، وجاعل المستحيل ممكنًا، على الإنسان أن يفكر على سبيل الفحص والتدقيق والنقد لاكتساب معارف جديدة تمكنه من تفكيك آليات عجزه، وتعرية مكامن ضعفه وقصوره. بهذا المعنى تمثل الحرية رؤية للعالم والوجود، وشكل من أشكال الوعي، وموقف من الحقيقة، وعلاقة الإنسان بذاته وبغيره من الناس والكائنات الأخرى في هذا الوجود. كما أن للحرية علاقة قوية بعملية الخلق أو الإبداع، وفي غياب الواحد نرى غيابًا للآخر، لأن الخيال أو التخيل أحد أهم أبواب الحرية. إذًا الحرية والفكر والإبداع منظومة متكاملة تسير بموجبها ماكينة العمل، سواء كان هذا العمل سياسي أم غيره.
والرؤية النقدية للحرية تنـزلها من ملكوت الفكرة المجردة والمتعالية إلى أرض الحدث وميدان الممارسة، لأن هناك تجارب كثيرة، سواء كانت هذه التجارب إرترية أم غير ذلك، تشهد في الواقع على أن تقديس القضايا ومن بينها الحرية يدفع صاحبها ثمنًا باهظًا لهذا التقديس أو هذا العشق ويقع ضحية له. وكمثال على هذا الأمر لو نظرنا إلى تجربة الثورة الإرترية نرى بوضوح العلاقة غير المتوازنة وغير العادلة بين مقولتي الحرية والتحرر السياسي والاجتماعي، سواء كان في معسكر السلطة أم معسكر المعارضة، وأن الكثير من الحريات على مستوى الفرد والجماعة حققت تراجعًا لصالح فكرة التحرر الوطني، وأن كثيرًا من شعارات التحرر السياسي والاجتماعي أصبحت تتعارض مع مفهوم الحرية الفردي منها والجماعي، والذي كان من المفترض أن يكون شرطًا ومقدمة للتحرر الوطني نفسه. كل ذلك تم بمساعدة وتواطؤ بعض النخب السياسية والثقافية، ويتحمل جزء من هذه النخب ما نحصده اليوم من الظلم والاستبداد.
هذا التواطؤ بين المثقف والسياسي في التبرير الذي كان يتم تقديمه للحد من الحريات، وتم التعبير عنه بأشكال مختلفة، ليس ظاهرة إرترية محضة، بل نراه قد حدث قبلنا ويحدث الآن أيضًا في محيطنا وفي دول قريبة وبعيدة، لكن الذي يميز التجربة الإرترية في هذا المضمار هو أن من أسهم أو مارس هذا الفصل بين النضال من أجل التحرر الوطني وبين الحريات العامة التي كان من المفترض أن تنمو وتزدهر وتتعزز في خضم هذا النضال التحرري هم من أبناء الثورة والتجربة الثورية والوطنية الإرترية. وعندما أقول تواطؤًا أقولها من باب تحميل المسؤولية للنخب السياسية والثقافية في خلق هذا النوع من الفكر والوعي الذي أضر بحركة التحرر نفسها، وليس لتصويره وكأنه كان ناتجًا عن عقلية تآمرية أو عن سوء نية مبيتة، لكن ذلك لا يعفي من مناقشة هذه الظاهرة بعمق على المستوى الوطني الإرتري، وليس بهذا الشكل المبسط والسريع والقابل لتأويلات عديدة، نسبة لضيق الحيز المتاح هنا لمناقشة ظواهر معقدة ومتعددة الجوانب بهذه العجالة.
وبحكم أن الديمقراطية هي لا محالة قرينة الحرية، وأن الإنسان الحر وحده القادر على ممارسة الديمقراطية والاستفادة من ثمارها، فلا يمكن للديمقراطية كممارسة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، والثقافة الديمقراطية كقيمة، وحالة فكرية، ووعي فردي وجماعي أن تزدهر إلا إذا توفرت الحريات، والحريات نفسها لا تتوفر إلا في المجتمعات الديمقراطية التي تسمح لها بالنمو والازدهار. هذه العلاقة الجدلية للأطروحتين تجعل مسألة مناقشتهما كنقطتين متداخلتين أمر مفهوم ومقبول. والديمقراطية لها وجهان، الأول هو ما يمكن تسميته بالممارسة الديمقراطية في العلاقات الداخلية والوجه الآخر لهذه الممارسة هو كشأن عام ومنظم لعلاقات الأفراد والمجتمع ومؤسساته التشريعية والتنفيذية.
فالديمقراطية التي نحاول جميعا، بصرف النظر عن موقعنا الجغرافي ، وجنسياتنا، وثقافاتنا، وأدياننا، أن نتمسك بها، ونؤكد إيماننا بها وولاءنا للقيم الأساسية فيها، ما هي إلا نتاج غربي وبضاعة غربية بصورتها الحالية، واسهامات الشعوب والثقافات الأخرى فيها، بما هي عليه الآن، قليل للغاية، ويكاد ألاّ يذكر، سواء كان ذلك تنظيرًا أم ممارسة. والغربيون أنفسهم يحاولون ربط ما يسمى بالنظام الديمقراطي في الحكم باليونان القديمة، وإن بقي من تلك الممارسة اليونانية اسمها فقط “ديموكراتيا – حكم الشعب”، والمبادئ العامة لهذا النظام. ويعترف منظرو الغرب أنفسهم بأن الديمقراطية مازالت في سيرورة ورحلة لم تنته بعد ولن تنتهي، لذا ينتظر من الشعوب المقهورة والمتخلفة اليوم بمقاييس هذا العصر وهذا العالم أن تكون لها إسهاماتها في المستقبل، لإيجاد شكل من أشكال الممارسة الديمقراطية الذي يلائم واقعها والقيم الثقافية والاجتماعية التي تحكم علاقاتها الداخلية. ومهما رأينا من حروب تخاض من أجل فرض شكل معين من أشكال الديمقراطية، وأموال يتم ضخها لإنجاح مثل هذه المشاريع المستوردة من الخارج، فإنها لم ولن يكتب لها النجاح طالما أنها لم تأت في سياق التطور الطبيعي لهذه الشعوب، وتكون حركتها الداخلية قد فرضت ذلك الأمر.
انطلاقًا من كل ما ذكر يمكن الإقرار بأن هذه الممارسة “الديمقراطية” رغم غرابتها على شعوبنا، إلا أننا لا نملك إزاءها أي بديل آخر سوى التمسك بما تقدمه من حلول ومبادئ عامة لإدارة الحكم وإدارة الصراعات. وإذا أسلمنا من حيث المبدأ بغرابتها أولاً، ثم بعدم وجود أي بديل آخر لها من إنتاج ثقافاتنا المحلية أو القريبة منا، فالخيار المتاح أمام شعوبنا وأمام حركاتنا السياسية هو الأخذ بها، والتعلم ممن سبقونا فيها، ومحاولة إخضاع هذا المفهوم العصي وهذه القضية المعقدة، لظروف شعوبنا، والتطور التاريخي الذي مرت به هذه الشعوب، والتكوينات الثقافية والعرقية لتلك الشعوب.
واقع الحركة السياسية الإرترية وخطابها السياسي يؤكد فشلها في تعميق وتجذيرمفهومي الحرية والديمقراطية كممارسة داخلية تحكم العلاقة التنظيمية، تارة بحجة ضرورة المركزية الديمقراطية، أي بتقديم المركزية على الديمقراطية ليأكل وحش المركزية ما تتيحه الممارسة السطحية للديمقراطية من هامش بسيط، وتارة أخرى بحجة محاربة الرجعية والتخلف سواء تمثل ذلك في محاربة من يختلفون معها في الرأي، أم في محاربة ظواهر اجتماعية وثقافية في المجتمع كانت الحركات السياسية ترى فيها عائقًا لمشروعها التحرري، الذي كان انتقأ ئيًّا وأحاديًّا واقصائيًّا في أغلب الأحوال، وما ممارسة التصفية في الساحة الإرترية بحجة أن الساحة لا تتحمل أكثر من تنظيم واحد إلاّ نتاجًا لهذه العقلية، وهذا الفهم القاصر لمعركة الحرية والتحرر، وبعيدًا كل البعد عن المبدأ الأساسي للديمقراطية وهو القبول بالآخر وبالتنوع.
هذه التركة الثقيلة والتجارب المؤلمة من فترة الكفاح المسلح ما زالت تتحكم في الخطاب السياسي الإرتري ووصفه للحالة الإرترية، ولم يخرج هذا الخطاب من تلك الجمل والمفردات التي تكوٌن المفهوم السياسي لخطاب السلطة والمعارضة على حد سواء حتى الآن. أرجو ألاّ يفهم من كلامي هذا أنني أساوي بين السلطة والمعارضة في حجم المظالم التي يمارسونها ولكنني هنا بصدد عدم إعفاء المعارضة من ممارسة التضليل في خطابها السياسي للجماهير، حتى عندما يندلع خلاف داخل جماعة واحدة كانوا بالأمس القريب في تنظيم واحد، وخاضوا تجربة العمل السياسي معًا لفترة طويلة. هذا الأمر وحده يكفي للاستدلال به في هشاشة التجربة السياسية الإرترية، وفشلها الواضح في حسم القضايا والخلافات وفق مرجعية جماعية متفق عليها بوضوح ومبدئية، لذا يجد كل طرف يريد إدانة من يخالفونه الرأي هامشًا واسعًا للعب بالمشاعر، وتجيير القضايا حسب مواهبه، وما يتمتع به من دهاء ومكر وخداع ومراوغة ووسائل الإقناع المشروعة وغير المشروعة في تكتيل وتأليب الناس، وإلهاب مشاعرهم بالحق والباطل، لا فرق طالما أن الغاية تبرر الوسيلة، في سلوك انتهازي واضح، كان ومازال حتى يومنا هذا يحكم مواقف وسلوك الكثير من أدعياء السياسة والتسيس، ولا أقول السياسيين.
أنتقل أخيرًا إلى المحور الثالث والأخير من هذه المقالة أو المناقشة، وهو غياب رؤية واضحة للكيان الإرتري نفسه، أي أزمة الهوية، كما يحلو للبعض أن يطلقوا عليها، وعلاقة هذا الكيان بمحيطه الجغرافي والثقافي. هذا الأمر أيضًا يجوز أن يكون موضع خلاف ومساومة بين الأطراف المكونة للوطن الإرتري، لكنه لا يتحمل أن يكون موضع إهمال وهروب من قبل القوى السياسية، باعتباره قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر إن عاجلاً أم آجلاً، عليه يجب المبادرة إلى نزع فتيل الانفجار اليوم قبل الغد. السلطة القائمة في إرتريا لم تخلق هذه الأزمة، فهي كانت قائمة مع قيام الكيان الإرتري نفسه، وفي الصراعات التي أعقبت قيامه، لكن السلطة الحالية عمقت هذه الأزمة، واستغلتها استغلالاً بشعًا لأغراضها وأهدافها الآنية والضيقة. ولن تزول هذه المشكلة بزوال السلطة الحالية لأن أسباب وجودها أعمق وأقدم من السلطة الحالية، كما أنها لم تلق حتى الآن المعالجات الصحيحة التي تستحقها.
التناول السلبي أو الإيجابي لقضية الهوية وسبل معالجتها مرتبط إلى حد كبير بالتغيرات الفكرية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع الذي تطرح قضية الهوية في نطاق البحث في داخله. وأهم ما يمكن الإشارة إليه في هذا المضمار هو أن الفهم الديناميكي لهذه المعضلة يؤكد أنها، أي الهوية، تتميز بثبات نسبي فقط. كما أود الإشارة إلىالفهم المتقدم الذي كان يميز الجيل الأول من السياسيين الإرتريين، عندما وضعوا للأجيال التي أعقبتهم أسسًا للاتفاق والالتفاف حول بعض الثوابت لتبني عليها، لكنها عجزت عن القيام بذلك، خاصة الطرف المسلم، بكل مكوناته. وهنا يحضرني المثال الذي تحدث عنه المناضل/ أحمد محمد ناصر، في كتابه “إرتريا والتحديات المصيرية”، في المناظرة السياسية التي تمت بين عضوي البرلمان الإرتري، السيد/ ناصر بيه أبوبكر، وبين رئيس الحكومة الفيدرالية السيد/ تدلا بايرو، الذي حاول إحراجه لدى دفاعه داخل البرلمان الإرتري عن اللغة العربية لاعتمادها في الدستور كلغة رسمية أخرى بجانب اللغة التيجرينية، قائلاً له أنت نفسك لاتجيدالتحدث بها، فقال الرجل بفطرته السليمة، وبصلابة وعدالة الموقف الذي كان يدافع عنه، إن أحفاده سوف يجيدونها، وهذا ما حدث بالفعل اليوم، وهذا هو بالتحديد ما قصدته بالفهم الديناميكي المرن لقضية الهوية، الذي كان متوفرا لدى أبناء الجيل السابق، وعجزسياسيو هذا العصر عن إدراك المتغيرات في علاقاتهم الداخلية، وفي علاقتهم بالآخر. والسؤال الذي يطرح نفسه في عصر العولمة الذي نعيشه هو هل اندماج الهويات له حدود أم هو مفتوح على كل الاحتمالات، وهل انتهى في مثل هذا العصر إمكانية الاحتفاظ بالخصوصية، وهل يسقط الماضي والتاريخ لصالح اليومي والواقعي؟
للإجابة على هذه التساؤلات المطروحة وغيرها ينبغي الانطلاق من واقعنا الإرتري الذي ظلت قواه السياسية تجتهد إلى يومنا هذا بمختلف مشاربها للتأكيد على أهمية الوحدة الوطنية، على حساب التنوع، ومعالجة قضايا التنوع والاختلاف من خلال أساليب غير ديمقراطية، وفشلت هذه القوى في إدراك أن هوية الإنسان والمجتمع قائمة على التنوع داخل الوحدة وبالتالي نرى دومًا ثقافات وديانات متباينة تحاول التعايش فيما بينها ضمن إطار واحد، ووضع أسس وضوابط لتقنين هذا التعايش. ظلت مخاوف القوى السياسية الإرترية تتمثل في ألاّ تقع مجابهات بين الهويات المختلفة والمتباينة، وهذا التخوف أسهم بصورة أو بأخرى في المحاولة التي تمت في إطار الثورة الإرترية لقمع هذا التنوع، لكن ذلك لم يحقق ما كانت تسعى إليه تلك القوى، بل تصادمت الهويات وكاد النسيج الاجتماعي الإرتري أن يتمزق بأشكال شتى منذ فترة تقرير المصير، وحتى في فترة الثورة. السؤال الذي يطرح نفسه هو هل المجابهة بين الهويات المختلفة أمر حتمي، أم أن هناك إيجابيات يمكن أن ينعم بها الإنسان سويًّا على اختلاف هوياته، سواء كان ذلك على المستوى الإرتري أم كمبدأ إنساني عام. يمكن للإنسان أن ينعم بجهود متعاونة رغم اختلاف هوياته بخيرات البلاد من تقدم اقتصادي وعلمي، وبيئة نظيفة، ومحاربة الجهل والفقر والجوع والمرض، وهذه شرور تؤذي الإنسان وتقتله بغض النظر عن انتمائه، والعمل معًا في إزالة هذه الشرور من جهل وفقر وجوع ومرض، والانتفاع بخيرات البلاد بشكل عادل ومتوازن، ينـزع فتيل التوتر، ويزيل مبررات التنازع والصراع بين الناس. وهنا تحضرني مقولة حكيمة تختزل في طياتها بعد فلسفي قالها رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد واصفاً مجتمع بلاده المتعدد الأعراق والديانات عندما قال ” كان أمامنا خيارين فقط لا ثالث لهما وهما إماّ أن نتقاسم البؤس والحرمان أو أن نتقاسم خيرات البلاد معًا، واخترنا اقتسام الخيرات”.
من المكونات الهامة للهوية هي السمات الثقافية دينية كانت أم لغوية، وقد واجه الدين على وجه الخصوص هجمة شرسة من كلا المعسكرين الرأسمالي الليبرالي والشيوعي في العقود القليلة الماضية، ورغم انكسار المعسكر الشيوعي، وانتهاء ما يعرف بالسرديات الكبرى، وانتعاش نسبي ومؤقت يشهده الفكر الليبرالي الرأسمالي الغربي، إلاّ أن تعامل هذين التيارين الفكريين الطاغيين على السياسة العالمية مع الدين والتدين ظل ينطلق من التجربة الغربية التي عانت من الإقطاع الكنسي الذي تسبب في نفورها الغريب من الدين والتدين.
فالدعوات الليبرالية تنطلق من أن المجتمع الليبرالي لا يفرض على أعضائه أية التزامات أخلاقية غير تلك التي يفرضها الشخص ذاته على نفسه، ومحاولة إسقاط الدين من الحياة العامة. وأن تخضع العلاقات بين الناس للأخلاق المدنية، إذ يكفي عدد قليل ومحدود من المبادئ الإنسانية الرفيعة لسير الحياة مثل المساواة، والاستقلال الذاتي، أي ان يكون الإنسان ملك نفسه، وأخيرا بناءً على هذه الدعوة فصل الدين عن الدولة، أي العلمانية.
والفكر الشيوعي أيضًا فكر علماني غربي، يرفض فيما يرفض كل المعتقدات غير المادية من ميتافيزيقية، ومثالية، ولاهوتية، واعتبار الدين أفيون الشعوب، ووسيلة من وسائل السيطرة الطبقية، واعتباره جزءًا من الرجعية، والتخلف. كما يعتبر الفكر الماركسي أن الأخلاق تحكمها العلاقات المادية بين الناس ولا تحكمها نظم وقيم أخرى مثالية، ولذلك ظلت الأنظمة والحركات التي تتبنى هذا الفكر تضيق الخناق على الدين والمتدينين بصورة ربما أسوأ بكثير من النظم الليبرالية الغربية.
تأثرت الحركة السياسية الإرترية، بحكم المد الثوري واليساري الذي رافق عقدي الستينيات والسبعينيات التي اشتد فيها عود الثورة الإرترية، بوجهة النظر الداعية إلى فصل الدين عن الحياة السياسية، هذا الأمر كان من الممكن أن يكون فقط مقبولاً لو تمت ممارسته في إطار من الديمقراطية وقبول الآخر، لكنه تمت ممارسته ضمن سياسة إقصائية حاربت الدين والمتدينين، واعتمدت العلمانية دينًا آخر يقصي كل ماعداه من التوجهات الفكرية الأخرى، بحكم أن هذه كانت الصفة الغالبة في الممارسة السياسية للحركات السياسية والثورية في العقود الماضية، ولم تكن الحركات السياسية الإرترية استثناءً من تلك القاعدة، ووقوع الكثير من هذه الحركات في إشكالية رفض الدين والتدين لا يعتبر استثناءً أيضًا، لكنه لا يتناسب وليست له أية علاقة بالمنظومة القيمية والأخلاقية والاجتماعية التي تحكم المجتمع الإرتري مسلميه ومسيحييه. كما أن الطرح العلماني الثوري اليساري الوافد على مجتمعنا دخل في صدام مباشر مع المنظومة القيمية والمعتقدات الدينية للمسلمين بصورة أكثر حدة من الطرف المسيحي، لأن المسيحية نفسها تمنح هامش فصل الدين عن الحياة العامة، ولهذا السبب تحديدًا دخل المسلم الإرتري في مواجهات مع سلطة الجبهة الشعبية قبل وبعد التحرير، وما زالت معركته معها محتدمة، وهي معركة مع المسلمين الإرتريين بكافة فئاتهم وأقاليمهم، وليست مع التنظيمات الإسلامية كما يحلو للسلطة السياسية تصويرها غالبًا، للإستفادة من الأجواء العامة المشحونة تجاه الإسلام والمسلمين، ويتورط أحيانًا في مثل هذه الحملة الوافدون الجدد على قوى المعارضة.
من الظلم القول إن الثورة الإرترية لم تحاول وضع حلول لجزء من المشكلات التي كانت تواجهها، وحسب الرؤية والأطر النظرية التي كانت تحكم حركتها في تلك المرحلة، لكن تلك المعالجات لبعض القضايا، في مجتمع يعج بمشكلات ثقافية واجتماعية وسياسية، بمعنى آخر مجتمع تعاقبت عليه سلطات استعمارية غريبة عنه تعمدت تخريب بنيته الثقافية والاجتماعية، لم يكن أمرًا يسيرًا. وفضلاً عن أن الكثير من تلك المعالجات كان مبنيًّا على أسس نظرية خاطئة غريبة على البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع الإرتري، خاصة القطاع المسلم منه كما سبقت الإشارة إليه، كانت المعالجات تركز على نتائج تلك الظواهر، أكثر من تركيزها على وضع حلول ومعالجات بعيدة المدى لمسبباتها. وقد أدّى ذلك إلى استغلال تلك المشكلات الثقافية والاجتماعية في صراع التنظيمات نفسها ممّا عمقها حتى يومنا هذا.
ما تم التطرق إليه يعتبر بعضًا من أوجه تصادم الهويات، وآخرها ما نراه من طرح قومي والمتمثل في طرح العفر والكوناما لقضاياهم القومية ـ إن صح التعبير ـ بشكل أكثر حدة ووضوحًا، وهو ما أشرت إليه في وقت سابق كمشكلات عرّضت وتعرّض مقولة الكيان الإرتري برمتها للمراجعة. ورغم اعترافي بمعرفتي المحدودة بتجارب التنظيمات ذات الطابع القومي، إلاّ أنني أعرف حتى لو كانت معرفة غير كافية لخصوصية الحالتين العفرية التي احتككت بها أثناء أدائي الخدمة الوطنية في إقليم دنكاليا عام 1979 ـ 1980، وتعرفت جزئيًّا على المشكلات التي كانت تحيط بالإقليم، وتجارب الثورة الإرترية هناك وما تركته تلك التجارب من آثار سلبية في ذلك الإقليم، وكذلك انتمائي لإقليم المنخفضات الغربية نشأة وميلادًا يجعلني أكثر تفهمًا وقربًا من الخصوصية التي يتمتع بها الكوناما كجزء من الشعب الإرتري.
ما ينقص التنظيمات القومية حتى الآن – حسب رأيي- هو بلورة واضحة لطرحهم، وعدم وجود رؤية واضحة في طريقة عقدهم للتحالفات، وفي علاقتهم بالمكونات الأخرى للكيان الإرتري، وهذا أيضًا ليس استثناءً بل هو جزء من التشوش العام الذي تشهده السياسة الإرترية. وما يمكن التأكيد عليه بهذا الشأن هنا هو أن قضايا من هذا النوع تحتاج إلى بيئة ديمقراطية تمارس فيها المجموعات والأفراد حقهم في طرح القضايا على بساط البحث بصورة أكثر شمولية عما هو مطروح اليوم، لأن هذه التنظيمات نفسها لا تدعي تمثيل أبناء هاتين المجموعتين بصورة كاملة، ولم تحصل التنظيمات القومية على تفويض نهائي للحديث باسم المجموعات الإرترية التي تدعي تمثيلها أو للتباحث بشأن تقرير مصيرها. وهذه التنظيمات هي اجتهاد من أبناء هاتين المجموعتين للمطالبة بحقوقهم وبخصوصيتهم بصورة أكثر تنظيمًا ووضوحًا، وهذا حق تكفله لهم النظم والقوانين المعمول بها في هذا الخصوص، فالثورة الإرترية نفسها لم تحصل على تفويض من الشعب الإرتري للمطالبة بحقوقه المشروعة، لكنها فعلت ذلك، بل وحققت الاستقلال، بحكم أن الشعب رأى فيها ممثلة لطموحه في التحرر من ربقة الأجنبي فالتف حولها.
وأخيرًا، تأتي قضية انتماء إرتريا الإقليمي، هذا الموضوع الحساس والهام في مستقبل إرتريا ككيان سياسي، وكبلد يضم مكونات عدة لها امتداداتها الثقافية والقومية بل والقبلية في دول الجوار الثلاث السودان، إثيوبيا، وجبيوتي، كما أن انتماء إرتريا العربي ـ الأفريقي، يعتبر موضوع خلاف دائم هو الآخر. هذه الإشكالية رغم ما تحظى به من أهمية، ورغم أنها كانت مصدر خلاف لمكونات الكيان الإرتري منذ نشأته، إلاّ أن ما تم بشأنها من تأكيد للثوابت لا يتعدى عملية تثبيته في البرامج السياسية للتنظيمات ولم يرق في يوم من الأيام إلى مستوى أن يتحول إلى موضوع نقاش مستمر لهذه التنظيمات والحركات والرأي العام، باعتبار أنه لا مفر من الإقرار ببعض الحقائق الثقافية والجيوسياسية للتأكيد على ثوابت معينة إن لم يكن للوطن بأكمله فعلى الأقل أن يتفق المسلمون على ثوابتهم الخاصة التي لا يتخطاها أي تنظيم أو حزب يشكل المسلمون نسبة كبيرة من عضويته، سواء كان ذلك التنظيم إسلاميًّا أم غير ذلك. وأن يتيح المسلمون لشركائهم في الوطن أن يتفقوا معهم فيما يتفقون فيه، وأن يختلفوا معهم فيما يختلفون في إطار احترام الرأي الآخر، ونحن الآن ما زلنا في طور المعارضة، واخضاع مثل هذه القضايا لنوع من التراضي والتسويات التي تحفظ للكيان الإرتري استمرايته موحدًا.
هناك نظرتان متباينتان لكيان الوطن الإرتري، طرحت نفسها للنقاش مؤخرًا ولم يصل بصددها الإرتريون إلى اتفاق عام بعد. فالأولى، وهي ما يمكن أن يطلق عليها النظرة التقليدية لهذا الكيان، التي تعتبر الوطن هبة السماء، ويجب الحفاظ عليه وعلى وحدته بأي ثمن كان، ودون مناقشة الأضرار المترتبة على هذا النهج، من اختلال يصيب توزيع السلطة والثروة من جهة، ومن تشوه للوعي الجماعي في ترتيب الأولويات بحيث تأتي فكرة الوطن المجردة والحفاظ على وحدته بأي ثمن كان في المقام الأول. أمّا النظرة الأخرى، وهذه نظرة بدأت تطرح نفسها بقوة بعد الاستقلال، تخضع فكرة الوطن المجردة لمعايير واقعية تقدم كرامة الإنسان وحريته، والحفاظ على مكونات الوطن أكثر من الحفاظ على الفكرة المجردة للوطن في المقام الأول.
هاتان النظرتان لهما أنصار أقوياء في الواقع السياسي الإرتري، سواء داخل التنظيمات أم خارجها. فأنصار وجهة النظر الأولى هم من خريجي مدرسة الثورة الإرترية، الذين تلقوا فكرة الوطن المجردة في مدرستها، ويصعب عليهم التنازل عن تلك النظرة المثالية للوطن بتلك السهولة، بينما يرى أنصار النظرة الجديدة الأخرى إمكانية إخضاع فكرة الوطن المجردة للمعايير الواقعية التي تؤمن أن وطنًا لايوفر قدرًا مقبولاً من الكرامة الإنسانية لأبناء شعبه بعيدًا عن انتمائهم الطائفي، أو الإقليمي، أوالقبلي ليس جديرًا بأن يسمى وطنًا للجميع. أرجو ألاّ يفهم من هذا الطرح أن هناك معسكرين متباينين ومتصارعين في تبني هذين الطرحين داخل الحركات السياسية الإرترية، بل ما يمكن ملاحظته بهذا الخصوص هو أن هناك فصل جزئي في وعي الناس بين النظرة التقليدية التي تقدس فكرة الوطن المجردة، وبين إخضاع فكرة الوطن لمعطيات الواقع الجديد الذي يقر بالتعدد، ويحاول أن يوجد له أساليب في التقنين والتشريع تأخذ في الحسبان كل مكونات الكيان القائم، ولخلق حالة من التسويات بالتراضي بين مكوناته لتتعايش فيما بينها سلميًّا. لذا يمكن القول إن فكرة الوطن المجردة آخذة حقًّا في التراجع على نطاق واسع، ولا يعود الفضل في خلق هذا الوعي لطرف بعينه، بقدر ما هو حالة فكرية عامة أخذت في التنامي في السنوات التي أعقبت استقلال إرتريا، وهي كحالة عامة نشهد لها تطورات مماثلة ومتوازية مع ما يحدث في محيطنا الجغرافي، ومع ما يحدث في العالم من توجه تفكيكي للعلاقات البالية وإعادة صياغتها على أسس جديدة.
وأخيرًا، أعتقد جازمًا أن عقد مؤتمر مصالحة أم وفاق جامع للإرتريين تتأكد أهميته كلما اقتربت المعارضة من الساعة التي يمكن أن توضع فيها في محك عمل حقيقي، في حال حدوث تغيير سريع ومفاجئ في إرتريا. وأهمية هذا المؤتمر تأتي من أنه يمكن أن يضع حقائق ومكونات الواقع الإرتري في نطاق البحث، دون أن تكون هناك أية ضمانات للاتفاق بشأنها، بل ليس من الضرورة أن نفترض من لقاء جامع مثل هذا أن يخرج منه الناس متفقين، بل قد تتعرض التنظيمات السياسية الإرترية لهزات من داخلها وتتباين المواقف وفقًا للكثير من العوامل الثقافية والاجتماعية التي يمكن أن تفرض على الناس اصطفافًا من نوع آخر، مختلفًا عمّا هو قائم اليوم، فيما لو طرحت قضايا الخلاف الإرتري-الإرتري، التي حاولت الحركات السياسية الإرترية الهروب من مواجهتها، على نطاق البحث. ما طرحه في مهرجان كاسل الإخوة البروفيسور/ تسفاظيون مدهاني، والمناضل/ إسماعيل علي، من دراسات في هذا المضمار يعتبر – حسب علمي ومتابعتي- طرحًا متقدمًا ومتكاملاً، وجديرًا بالمناقشة والتأمل والدراسة والمراجعة النقدية، ليكون أساسًا يمكن البناء عليه لمناقشة قضايانا الوجودية الهامة في مؤتمر وطني جامع. أتمنى على الإخوة / تسفاظيون مدهاني واسماعيل علي أن يعملا على ترجمة تلك الأوراق ونشرها لتعميم الفائدة ولتوسيع رقعة النقاش. وكما أسلفت يمكن أن يكون مثل هذا اللقاء الوطني الجامع لبنة أساسية للوقوف على قضايا الخلاف في أفهام الإرتريين أفرادًا ومؤسسات لحقائق واقعهم، دون أن تكون هناك بالضرورة شروط مسبقة للخروج باتفاق حولها، لكننا نكون في أسوأ التقديرات قد بدأنا رحلة البحث عن الذات بناءً على أسس جديدة.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6465
أحدث النعليقات