ملتقى الحوار الوطني علامة فارقة في مسيرة نضالنا الديمقراطي
بقلم / خليفة عثمان حامد
لم يكن ذلك الذي كان يجري الإعداد له مؤتمرًا دوريًَا أو طارئًا لتنظيم من التنظيمات أو مؤتمرًا توحيديًَا لتنظيمات تحمل ذات التوجهات، كانت قد انشقت عن بعضها وتبعثرت… بل كان نوعًا جديدًا من المؤتمرات التي لم تكن تعرف ساحتنا لها مثيلاً . كان ذلك الذي يجري محاولة طموحة لإقامة هيكل تتحد في ظله كل ألوان طيف المعارضة المتنافرة والتي ظلت معظم تنظيماتها ترفض بعضها بعضًا.
لم يكن المخاض سهلاً، ومع ذلك حدثت المعجزة ! فكان ميلاد التجمع الوطني الإرتري. وقد لقي في حينه ترحيبًا حارًّا من الجمهور الإرتري المعارض الذي كان قد سئم من صراعات تنظيمات المعارضة وأصيب بالإحباط.
وفي الحقيقة فإن قيام التجمع الوطني في نهاية القرن الماضي قد أملته الظروف التي كان يمر بها الوطن آنذاك، حيث كادت مغامرات النظام “الوطني” تجهض ثمرة نضالات وتضحيات أجيال استمرت لأكثر من نصف قرن من الزمان. وعلى الرغم من أن التجمع الوطني قد مرّ بأزمات عديدة وخطيرة كادت تودي به بل وانعكس بعضها على تنظيماته، فقد قاوم كل عوامل الفناء واستطاع أن يستمر في التواجد وإن بمسميات مختلفة. وباستمراره ظلت جذوة “أمل الخلاص” متقدة في النفوس، ومع ذلك لم تسلم تلك المظلة الجامعة من الانتقادات الحادة التي ظلت توجه إليها من الجمهور المعارض، بسبب خلافات وصراعات تنظيماتها المستديمة والتي كانت تحد من فعالية أدائها. ومع كل تلك النواقص فإن التحالف الديمقراطي الإرتري (التجمع سابقًا) هو الذي مكننا من عقد ملتقى الحوار الوطني للتغيير الديمقراطي، الذي فتح صفحة جديدة في مسيرة نضالنا من أجل الديمقراطية والعدالة والمساواة.
كان الملتقى، بتنوع المشاركين فيه، يعكس صورة مصغرة للوطن بتنوعه الإثني والديني والثقافي والمناطقي …. إلخ. ليس ذلك فحسب بل ومثلت فيه كل أجيال النضال الذي لم ينقطع منذ الاربعينات. مناضلو الأربعبينات كانوا ممثلين بصورتي رمزين من رموزهم: إبراهيم سلطان وولدآب ولدي ماريام، وجيل رواد الكفاح المسلح بممثلي منظمة الرعيل، وكم تمنى الرعيل وتمنينا معهم أن تجد صورة قائدهم ومفجر الكفاح المسلح الشهيد حامد إدريس عواتي، مكانًا لها بجانب صورتي الزعيمين الكبيرين. وبجانب الرعيل كان هناك جيل الاستقلال من الشباب. كان المشاركون من خلفيات سياسية مختلفة: جبهة التحرير، قوات التحرير، الجبهة الشعبية. وكانت المرأة حاضرة في الملتقى بقوة، قادمة من كل مواقع الشتات الإرتري وبأعداد لم نألفها من قبل في أي من مؤتمراتنا، سواء كانت مؤتمرات التحالف أو التنظيمات المنضوية تحته أو خارجه. ليس هذا فحسب بل أنها كانت الأكثر نشاطًا وحماسًا. وكيف يمكن أن يمحى من ذاكرة المرء ذلك المنظر الذي كانت فيه بعضًا من عضوات الملتقى خلال المظاهرة التي نظمت قبيل الافتتاح الرسمي له وهن يترددن مهرولات بين مقدمة المسيرة ومؤخرتها، يرددن الهتافات ويلهبن حماس المتظاهرين ويبعثن فيهم روح التحـدي. كم كـنٌ رائعات حقًّا ! ولكم سعدت بالتعرف على عضو سكرتارية المؤتمر فرويني قبري ظادق، شقيقة المناضل الجسور ورفيق النضال الطويل تخلي برهان قبري ظادق (ودّي باشاي) الذي غُدر به وبزميله ولدي ماريام بهلبي حيث تمٌ اختطافهما من قبل عصابات النظام في مدينة كسلا في العام 1992 حيث كانا كليهما عضوين في اللجنة التنفيذية لجبهة التحرير الإريترية – المجلس الثوري.
ولم يكن الشباب بأقل نشاطا وحماسًا من المرأة. هؤلاء الذين لم يروا من هذا الوطن الذي ناضل واستشهد أباؤهم وإخوانهم في سبيله، سوى معسكرات التدريب وأعمال السخرة وفظاظة رجال النظام، وكل أنواع الحرمان: الحرمان من الحياة الحرة الكريمة والآمنة في وطنهم والحرمان من التعليم والعمل، باختصار الحرمان من التمتع بكافة حقوق الإنسان. وهروبًا من الجحيم الذي تحولت إليه بلادهم ركب هؤلاء الشباب البحار وعبروا الصحاري، فدفنوا رفاقهم تحت رمال الصحراء ووقفوا عاجزين يذرفون الدموع ومياه البحر تبتلع زملاءهم، فكانوا شهودًا على كل المآسي التي يعيش في ظلها شعبهم. ولذا فهم الأكثر قناعة بالنضال الذي يخاض من أجل إحلال الديمقراطية والسلام، إن وجدوا من يرعاهم ويكون لهم القدوة. ولا ننسى بأن خلافاتنا المتكررة في الماضي هي التي كانت تبعث الإحباط في النفوس وتجعل شبابنا ينفض من حولنا. ولكني متفائل اليوم بمستقبل وطننا بمشاركة هذا الشباب الواعد الذي آمل أن يكون قد تشرب من روح النضال والوحدة والأخوة والشعور بآلام الآخر التي اتسم بها الملتقى. وكم كان تأثري كبيراً وأنا أستمع لابن المناضل الكبير الشهيد محمد أحمد عبده وهو يلقي كلمة من على المنصة، فقد تذكرت زيارتي للمناضل محمد أحمد بصحبة المناضل محمد عمر يحيى، حينما حلٌ بالخرطوم خلال مرضه الأخير طلباً للعلاج، وطافت بذهني مسيرة التضحيات الطويلة لشعبنا ومع ذلك فما زال الوطن يعاني. وعزاؤنا أن شريف محمد أحمد عبده ورفاقه وفرويني ورفيقاتها يسيرون في نفس طريق النضال الذي سار فيه آباؤهم وإخوانهم.
كان المؤتمر فريدًا من نوعه، حتى مؤتمر بيت قرقيس الذي عقد في العام 1964 والذي يعتبر سابقة في محاولة راب الصدع عن طريق مؤتمر يشارك فيه جميع الفرقاء، لم يحقق ما حققه الملتقى، حيث خرجت الغالبية الساحقة من أعضائه إن لم نقل كلهم راضين عما حققه، بعكس مؤتمر بيت قرقيس الذي خرج المشاركون فيه وقد تعمقت خلافاتهم من حيث أرادوا تضييقها. وفي ذلك يقول إبراهيم سلطان متذكرًا وقائع ذلك اليوم كما جاء في “أينفالالي” بأنه حيثما طلب منه الحديث رفض لأنه وزملاءه لا يمثلون المسلمين وبأن الزعامات الإسلامية مغيبة عن المؤتمر، واقترح تأجيله لموعد آخر حتى يشارك فيه الجميع، وقد تلقى الإهانات من الشباب الموالي للوحدويين، الذين كان عددهم كبيرًا. ومن هناك، والحديث لإبراهيم سلطان، “توجهت رأسًا إلى مكتبي في مقر عملي وبدأت أكتب برنامج حزب الرابطة الإسلامية.
ومع ذلك فإن غياب حزب الشعب الديمقراطي عن حضور الملتقى لمؤسف حقًّا، ولكن يظل الأمل قائما لأن يلتئم الجمع في المؤتمر الوطني الجامع المزمع عقده خلال عام، ولا سيما أن الحزب لازال عضوًا في التحالف وأن الملتقى قد أبدى حسن نية تجاهه بتخصيصه مقعدين له في مفوضية المؤتمر مثله في ذلك مثل تنظيمات التحالف الأخرى. والأهم أن يكون الحوار ثم الحوار هو الطريق الذي نسلكه لحل خلافاتنا وسد أيٌة ثغرة يتسلل منها أعداء نضالنا.
نوقشت الأوراق المقدمة لملتقى الحوار الوطني للتغيير الديمقراطي بكل صراحة ودون تحفظ، وكثيرًا ما كانت تحتد النقاشات ولكن في النهاية كان الحسم يتم ديمقراطيًّا، وكان الكل راضيًا ومقتنعًا بالنتيجة وبالأسلوب الديمقراطي التي كانت تدار به الجلسات. والأهم هو أن الحقائق كانت تطرح عارية على الأرض دون حسابات أخرى غير إنقاذ الوطن. ولذا لم نسمع الكلمة التي ألفناها ” الكل مظلوم” وكفى، بل اعترف المؤتمر بالمظالم المتفاوتة التي تعأتى منها مكونات الشعب الإرتري، كما اعترف بحقوق القوميات، والظلم الواقع عليها، ولذلك أيضًا لم يعد يجد مكانًا له بيننا ذلك التعريف الرديء الذي يصف تنظيماتها بـ “تنظيمات ما دون الوطنية” . وحقيقة أخرى لا تقل أهمية، كان واضحًا أن المؤتمرين قد اقتنعوا بها وهي أن النظام لا يمثل إلا نفسه، فهو مثله مثل كل الأنظمة الديكتاتورية يحاول من أن يجعل من مكون بعينه قاعدته الاجتماعية التي يستند عليها في حكمه، ويوهم منتسبيه بأنه الحريص على مصالحهم وأن زواله سيكون وبالاً عليهم ! ولكنه لا يتردد بالبطش بمن لا يخضع منهم لإرادته الكاملة. إن هذا الأسلوب الذي يعتمد على القاعدة الاستعمارية للحكم “فرق تسد” لم يعد ينطلي إلا على القلة القليلة من النفعيين المرتبطين بالنظام. أما الغالبية فقد أدركت الحقيقة تمامًا وتنشد الخلاص أينما كان موقعها.
أعتقد بأن الأيام المجيدة التي عشناها خلال انعقاد الملتقى، قد أزالت الكثير من الشكوك التي كانت تحوم حول الآخر الشريك في الوطن، أيًّا كان هذا الآخر! ومع ذلك فلا يزال انعدام الثقة بين مكونات هذا الوطن هو الداء الأكبر الذي تعاني منه وبأن ذلك لن يزول إلا بمعرفة الآخر معرفة حقيقية: ثقافته، طموحاته، آماله، معاناته، شكاواه…. إلخ. وتقع المسؤولية الكبرى، من وجهة نظري، على المثقفين لتعريف مكونات هذا الوطن بعضها ببعض، بنشر الدراسات حول مجتمعاتنا المختلفة. وليست مسؤولية التنظيمات السياسية بأقل. وعلى أصحاب الأقلام ولا سيما في مواقع الانترنيت أن يكونوا أكثر موضوعية في كتاباتهم وأن يبتعدوا عن التعميم الذي يخل بالحقيقة، والتصنيف المجاني لمكونات الوطن وكلها تصب في مصلحة من لا يريد الخير لهذا البلد. وليعلموا أن هناك من يتصيد أخطاءهم لصب الزيت في النار. كما تقع مسؤولية كبيرة على أصحاب المواقع الإلكترونية الإرترية المعارضة الذين عليهم أن يحكموا ضمائرهم ويُحجموا عن نشر المقالات التي تسيء للآخر الشريك في الوطن وتعود بالتالي بالضرر على الوحدة الوطنية. ويا حبذا لو اتفقوا فيما بينهم ووضعوا ميثاق شرف يتقيدون به جميعًا.
تواجه المفوضية المنوط بها الإعداد للمؤتمر الوطني الجامع الذي تقرر عقده خلال عام، تحديًا كبيرًا، إذ كان الملتقى مقدمة لانعقاد المؤتمر الوطني الجامع والذي سينبثق منه مجلسًا وطنيا. وبذلك يحل التحالف الديمقراطي نفسه وتؤول للمجلس وما تنبثق من قيادة تنفيذية لتقود النضال من أجل التغيير الديمقراطي وإقامة نظام ديمقراطي محل النظام الشمولي القائم. ولهذا فإن المهمة كبيرة ولا بد أن تعمل المفوضية منذ اللحظة الأولى حتى تكون بمستوى المسؤولية التاريخية التي تتحملها. وكلنا ثقة بأن أعضاءها على مستوى المسؤولية ولا سيما وأن رئيسها إمهـا دومينيكو قد لدينا انطباعًا إيجابيا خلال جولاته كنائب لرئيس اللجنة التحضيرية للملتقى وكذلك تعميماته ورسائله الإلكترونية المتواصلة.
وأخيرًا لا أستطيع أن أنهي هذا المقال دون أن أبدي أسفي على ما حدث للبيان الختامي للملتقى من اختلاف في بعض فقراته بين النسختين العربية والتقرينية، بدءًا من العنوان. بجانب الاختلافات الأخرى التي تحدثت عنها مواقع الانترنيت. لقد كنت عضوًا في لجنة الصياغة وحضرت إعداد النسخة العربية غير أني لم أطلع على البيان باللغة التقرينية، وذلك لأن اللجنة التحضيرية – سامحها الله – أعطتنا معلومات مغلوطة عن السفر وتذاكر السفر التي سينتهي مفعولها إن لم نسافر في الحال، فحزمت أمتعتي على عجل مع كثيرين غيري واستقليت الطائرة قبل حضور جلسة الملتقى الأخيرة التي أقر فيها البيان، بالطبع مع إضافات وملاحظات أعضاء الملتقى. ولكن هذا لا يؤثر في شيء ولا ينقص حقيقة أن المؤتمر كان علامة فارقة في نضالنا من أجل الديمقراطية والعدالة والمساواة.
وإلى المؤتمر الوطني الجامع !
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9140
أحدث النعليقات