نحو مشروع وطني ديمقراطي (1-2)
د. عبدالله جمع ادريس
مقدمة:
هذه الورقة هي مجموع ورقتين كنت قد نشرت الأولي في العام 2009م تحت عنوان “المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام في إرتريا” وتقدمت بها للسمنار الذي أقامته “اللجنة التحضيرية لملتقى الحوار الوطني الإرتري” في نفس العام. والثانية ورقة تقدمت بها الي سمنار ومؤتمر تنظيم “الوحدة الإرترية للتغيير الديمقراطي” المنعقد في الفترة من1-10 فبراير 2015م. وقد جمعت الورقتين بتصرفٍ – في هذه الورقة الفكرية التي أردت لها أن تكون ذات طابع عملي ينحو تجاه ايجاد مشروعٍ سياسيٌ – اجتماعي – ثقافي , وقد أضفت لأفكار الورقتين بعض من الأفكار الجديدة حتي يخرج الطرح في الشكل الحالي الذى أرجو أن ينال قدراً من النقاش حتى نصل سوياً الي مشروع وطني ديمقراطي. وكنت طرحت الفكرة على عدد من الأصدقاء ونظرت في ردودهم وتعليقاتهم والتي سأتخذها إحدى أدوات المراجعة إلى جانب الردود من القراء التي أرجو أن تأني في إطار الموضوع لإثرائه. وقد وردت صيغة الجمع في طرح الأفكار دلالة على أن الفكرة عامة ولا تخص الكاتب من حيث عموم المعنى اللفظي.
فلسفة المشروع:
إعادة بناء الأمة الإرترية على أسس الحرية والعدل والتسامح والسلام والعيش المشترك القائم علي الاحترام المتبادل وحرية المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وعلي مفهوم الديمقراطية. ويمكن تحقيق كل ذلك من خلال الحوار الوطني الذي يصب في معين الوحدة الوطنية والشراكة بين جميع مكونات الأمة الإرترية- السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية والثقافية والجغرافية.
ويتأتى ذلك باعتماد التخطيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي السليم لإقامة نظام سياسي معافى يهدف بالأساس الى تحقيق السلم الاجتماعي والرخاء الاقتصادي المبنى على الاستقرار السياسي.
اولاً: الحرية:
هي الركن الأول الذى تشاد عليه الدولة الإرترية المرجو منها اسعاد مواطنيها وحفظ كرامتهم ، وهى حقٌ أصيلٌ للإنسان- أى انسان بغض النظر عن جنسه وجنسيته وعرقه ودينه وثقافته وموقفه السياسي. والحرية قيمة انسانية لا مساومة فيها ولا تقبل الانتقاص منها إلا بإجراء قضائي وفق أحكام القانون.
ودون حصرٍ فالحرية تتضمن معاني حرية الحياة وحرية التعبير و حرية التنظيم والتجمع والمشاركة السياسية. وهى من الحقوق الأساسية التي يجب ان تُضمّن في وتُضمن بقوة الدستور. ويجب ألا تنتزع باي سلطة حتى السلطة القضائية ما لم تتجاوز بنود الدستور والنص القانوني الصريح وما لم تمس حريات الآخرين وحقوقهم بسوء. كما تتضمن معانى حرية العقيدة والتعبّد ، وهى حرية فردية بالأساس وينبني عليها الحق الجماعي لأى مجموعة دينية.
ثانيا العدل:
أ\ العدل كقيمة:
انّ العدل يجب ان يسود المجتمع الإرترى كقيمة انسانية رفيعة تتمسك بها الأجيال المتعاقبة من خلال التربية الوطنية الحقة ، والارشاد الديني السليم ، والتنشئة السياسية المعافاة من الأحقاد و المبرأة من المظالم ، والقيم المتوارثة عبر الاسرة والمدعمة من المدرسة ومن النادي الاجتماعي والرياضي والمصقولة بالاحتكاك في الحياة العامة وفى أماكن العمل وفى الجامعات والمعاهد والأحزاب السياسية والنقابات المهنية والجمعيات العمالية والمنظمات الأهلية.
ب\ العدل السياسي والحقوقي:
من خلال فصل السلطات الأربع ( التنفيذية والتشريعية والقضائية وسلطة التعبير ) ، ومن خلال التوزيع العادل للسلطة بين المجتمعات المحلية وتمكين الاقاليم من الحكم الذاتي الموسع وعبر تطبيق الفدرالية الاقليمية دون تسلط من المركز ووفق التعايش التوافقي بين مكونات الأمة الإرترية ، ومن خلال تدعيم سيادة القانون والتأكيد على حرية ونزاهة القضاء ، وعبر ارساء مبدأ الشفافية وتشجيع الصحافة الحرة لتلعب دورها في تسليط الضوء على المكتسبات والمنجزات الوطنية ورفع الوعى وتكريس الثقافة الديمقراطية من ناحية ، وفي كشف الفساد والمفسدين واظهار العيوب بالنقد البناء من ناحية أخرى.
ج\ العدالة الاجتماعية والاقتصادية:
من خلال توزيع الثروة العادل ، وتوزيع الموارد والوظائف على كافة القطاعات الاجتماعية ، ومن خلال التنمية الاجتماعية والاقتصادية المتوازنة والمستدامة ، مع اعطاء أوّلية وتمييز إيجابي للمجتمعات الأكثر فقراً ورفع التهميش عنها ، ومن خلال التخطيط الاقتصادي العلمي السليم وايجاد فرص للعمل واقامة مجتمعاتٍ عمرانيةٍ جديدةٍ قريبةٍ من المناطق التي يؤمّل ان تقام عليها مشروعاتٍ زراعيةٍ وصناعيةٍ ، وعبر تأهيل الطرق البرية وخطوط السكك الحديدية ، وتطوير الموانئ ، وتحسين الخدمات الضرورية مثل المياه النظيفة والكهرباء والتعليم و الصحة.
ثالثا التسامح والسلام:
والتسامح هو قبول الآخر الثقافي والرأي المخالف ، وتحمل التناقض في المصالح في اطار اجتماعي متعدد ، تحكمه قيم وأعراف وقوانين يتواضع عليها أفراد المجتمع ، وتتطور بتطور احتياجات المجتمع. وكلمة الآخر هنا تعني الكيان الآخر المختلف ثقافياً وحضارياً ودينياً واثنياً وجغرافياً وسياسياً وكياناً فردياً ، الموجود في نطاق الفعل والتفاعل النظري والعملي للذات الفردية أو الجمعية للجماعات أو المجتمعات. وقيمة التسامح لا تتبدى الا تبعاً لإرساء قيمة العدل والقبول بمقتضياتها ونتائجها. حيث يفقد التسامح معناه اذا لم يقترن برد الحقوق الي أهلها ، مع وجود الحرص من جميع الأطراف المتفاعلة – ومن بينها مكونات المجتمع وقواه الفاعلة ، علي المحافظة علي حقوق الآخرين من الانتهاك.
والتسامح مقرون بالسلام لأنّه أحد نتائجه ومقتضياته. والسلام ينشر معاني التسامح والاخاء والمحبة والتضامن والبعد عن المشاحنات والعنف ناهيك عن النزعات العنصرية وصور الارهاب المقيتة.
رابعاً المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعيش المشترك:
لا تكتمل صورة الحياة الديمقراطية الى بوجود المشاركة السياسية والعيش المشترك. فما لم يمكّن للناس- كل الناس- فرصاً للمشاركة في العملية السياسية والنشاط الاجتماعي والتنافس التجاري ، ومن خلق فرصٍ متساوية في الخدمات والتشغيل والتعليم والاسكان والاستشفاء, ما يعطيهم الأمل في الغد ، فلا يمكن الحديث عن ديمقراطية.
خامساً الديمقراطية:
وهى وسيلة للحكم والتعايش وقيمة انسانية نبيلة تقترن بكل القيم سابقة الذكر. فما لم يتسامح الناس فيما بينهم ويتشاركوا الحياة وفق الاحترام المتبادل بما يشيع الحرية والعدل ، تتحول الديمقراطية الى شعار زائف ومقدمة للحرب.
سادساً الوحدة الوطنية:
الوحدة الوطنية والهوية الإرترية والممارسة السياسية:
إنّ الحفاظ علي الوحدة الوطنية ينبع من ايماننا بهويتنا الجمعية كإرتريين ، وتترسخ من خلال عدالة اجتماعية تنصف الفقير والمعوز ، وتوفر الاحتياجات الأساسية من طعام وكساء ومسكن ودواء ، وتشيع التعليم للجميع وتتيح العمل للقادرين عليه ، وتجعل معيار الكفاءة وليس المحاباة والولاء هو الفيصل في التنافس علي تلك الخدمات والحقوق المشاعة، مع تمييز ايجابي للمناطق المهمشة اجتماعيا واقتصاديا لتلحق بركب التطور الوطني. كما أنّ التطور السياسي في مستقبل إرتريا الحرة يجب أن يعتمد علي تكوين الأحزاب السياسية القائمة علي الفكر السياسي الحر والتفكير الاجتماعي الانمائي ، حتي ولو استنبطت تلك الأحزاب فكرها السياسي من معين المرجعيات الاجتماعية والجهوية والدينية التي يمكن أن تكون عناصر إثراء لواقعنا بدلاً من أن تنقلب الي كوارث اجتماعية تنتج الارهاب والحروب الأهلية.
إنَ الوحدة الوطنية كانت الشغل الشاغل للجيل الأول من طليعة التحرير الوطني. فنشأت جمعية حب الوطن فالرابطة الاسلامية والكتلة الاستقلالية ، ثم حركة تحرير ارتريا وتلتها الثورة الإرترية المسلحة بقيادة جبهة التحرير الإرترية ، وتوالت النضالات الوطنية انتهاءً بتحرير التراب الإرتري من الاستعمار الأجنبي علي يد الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا. وفي كل تلك المراحل اعتمدت القيادة الوطنية في انتصارها في معركتها علي الوحدة الوطنية والإرادة الوطنية للاستقلال والحرية ورفض الظلم والقهر وفداء الوطن بالروح والذود عنه بكل غالٍ ونفيس. فقد تمكّن العمل الوطني الثوري من خلق هوية وطنية مشتركة ما كانت لتوجد لولا الفعل الثوري. ولقد دفع الآباء العظماء أرواحهم فداءً لقضية استقلال إرتريا ووحدة شعبها. فنحن أمة خلقت من رحم المعاناة وصقلت بنار الثورة وذاقت آلام الحرب والاستعمار والديكتاتورية الحمقاء ، وهي تهفو اليوم لتراضٍ وطنيٍ يعيد إليها الحرية والاستقرار والأمن والسلام.
كما أنّ هذه الأمة تمتلك إرثاً تاريخياً اكتسبته من خلال مسيرة تاريخية بدأت مع بدايات بحث مستقبل الوطن الإرتري في فترة تقرير المصير. فتلك المرحلة هي بحق التي أوجدت الكيان الإرتري الحالي بتشكيل خطوط وتعاريج الهوية والمصالح الاجتماعية. ثم جاءت مرحلة الثورة وأوقدت النار تحت تلك العجينة الاجتماعية فصنعت منها هياكل سياسية واجتماعية صلبة جسدت الرموز الدينية والعرقية والجهوية والثقافية لمجتمع لا يزال في طور التشكل ولا يكاد يفارق الا بقليل من الجدة الطور التليد الوارد في عنوان كتاب الحاكم البريطاني لإرتريا “تريفاسكيس”:(إرتريا مستعمرة في مرحلة انتقال 1941-1952). فرغم كل التجارب التي مرت بها الأمة الإرترية لا تزال تعاني من أسئلة حيرى تؤرق مسارات الهوية والوحدة الوطنية وتهدد التعايش الاجتماعي والبناء المجتمعي. وقد أضر الحكم المستبد للزمرة الحاكمة ــ والمارقة عن أعراف الشعب الإرتري بكل تلك المسارات وأوردها مظان التهلكة بدلاَ من حملها علي طريق ضمان اللحمة المجتمعية والسلام الاجتماعي. والمراقب للوضع يري قطاعات إرترية واسعة قد ساءها عدم تمثيلها في الدولة الإرترية الحالية بما يؤمن المساواة بين فئات الشعب الإرتري ويقيم الموازين القسط للعدالة والكرامة الانسانية.
الوحدة الوطنية والتعدد الثقافي والعرقي:
إنّ الحرص علي الوحدة الوطنية لا يمنع من مناقشة المظالم التي وقعت ومراجعة الأسس التي يجب أن نؤسس عليها البناء الحديث للمجتمع الإرتري العصري. ويجب أن يكون ذلك من منطلق المصلحة الإرترية العامة دون تجاوز المصالح الفئوية والثقافية والعرقية والاجتماعية لكل المكونات الإرترية علي قدم المساواة. إنّ المشروع يؤكد علي التعدد العرقي والثقافي والديني لإرتريا ويؤمن بإمكانية تعايش هذا النسيج الاجتماعي ، والذى تعايش من قبل لقرون طويلة. لكننا نعتقد أنه لا يجب أن تكون الانتماءات للأعراق والثقافات والأديان معياراً للحقوق. ويؤمن المشروع بأنّ المواطنة هي المعيار السليم للحقوق والواجبات الوطنية. لكن المشكلة هي أنّه كلما ضاقت السبل بالشعب الإرتري الي الخروج من مآزقه ، لضعف أدوات العمل الوطني الجمعية وتهافت الشعار السياسي ، يلجأ بعض أبنائه كسياسيين وكإرتريين من عامة الناس الي إثارة النزعات الثانوية القائمة علي تكوينات شعبنا الاجتماعية البدائية كالقبيلة والدين والجهوية – وغيرها من المكونات الطبيعية لأي شعب – لكي يقارعوا بها بعضهم بعضاً بدلاً من منازلة عدو الشعب الحقيقي. والعدو الحقيقي في هذه الفترة التاريخية العصيبة هو الديكتاتور الفاشيستي وعصابته النفعية ، حيث يجب تركيز نضالنا لمواجهتهم ورميهم من قوس واحدة.
ثنائية المجتمع الإرترى الثقافية والدينية:
إنّ المجتمع الإرتري ينقسم علي وجه التقريب الي كتلتين رئيسيتين وتوجد بينهما تفاصيل كثيرة تفرق تينك الكتلتين الي مجموعات مصالح متباينة. فالثنائية الثقافية هي الغالبة علي التشكل المجتمعي الإرتري – ثنائية الإسلام والمسيحية ، والعربية والتجرينية. وبعد ذلك يأتي التقسيم التجزيئي لكل طائفة الي طوائف شتي. وتعقّدت المسألة بدخول عوامل- مثل الحرب والهجرة أضافة الي العوامل التاريخية والتأثر بالجوار الجغرافي- علي مسارات العمل الوطني في مرحلتي الثورة والدولة مما أوجد استقطاباً مجتمعياً أعيي كل مداوِ لعوامل التفرقة بين المكونات الإرترية الوطنية. فهناك مسارٌ تاريخيٌ أنتج نوعاً من التقارب الروحي والثقافي لمسيحيي المرتفعات مع إثيوبيا والعالم الغربي المسيحي. وتقارب المسلمون مع السودان والعالمين العربي والاسلامي روحياً وثقافياً كذلك. فالدين والعادات الناشئة عنه والتعليم هي مواعين للارتباط الثقافي. كما أنّ الارتباط الوجداني والروحي بالشبيه الديني من الأشياء الطبيعية. وقد ازدادت تلك الروابط عمقاً مع خيارات الهجرة نتيجة الحرب. فغالبية المسلمين الإرتيريين هاجروا للدول العربية ، وبالمقابل احتكت منذ القدم نسبةٌ مقدرةٌ من المسيحيين الإرتيريين بإثيوبيا وبعضهم استقروا وتعلموا بها واكتسبوا هويتهم من هويتها ، ناهيك عن أنّ أعداداً كبيرةً هاجرت الي الدول الغربية في وقت مبكر. كل ذلك أسهم في تعميق ثنائية الثقافة الإرترية الي ثقافةٍ مسيحيةٍ حبشيةٍ ، وثقافةٍ اسلاميةٍ عربيةٍ ، وبينهما تاهت الهوية الإرترية بدلاّ من أن يصبح ذلك من عوامل الإثراء الثقافي. وقد ازدادت حدة الاستقطاب بعد الصراع المرير داخل الثورة ، خاصة بعد الحرب الاهلية بين “جبهة التحرير” و”الجبهة الشعبية”.
التقسيم القومي في إرتريا علي أساس اللغات المحكية:
رغم أنّ الإرتريين في الغالب الأعم تجمعهم روابط اجتماعية ووشائج عديدة من نوع الأصل العرقي والتزاوج والعيش المشترك ، إلا أنّ هناك من يصرّ علي التقسيم القائم علي اللغات المحلية المحكية ويسمي ذلك تقسيماً قوميا.
النزعة القومية كانت تاريخياً حافزا للشعوب في سعيها للتحرر من الاستعمار الاجنبي مثل تحرر الشعوب من الاستعمار العثماني أو الروسي أو البريطاني ، وكوّنت تلك الحركات القومية دولاً مستقلة. كما أنّ النزعة القومية كانت وسيلة لتوحيد عديد الشعوب لتكوين دولة واحدة قوية مثل اثيوبيا في نشأتها تاريخياً واستمرارها في الحفاظ علي وحدتها في اطار ما يمكن تسميته النزعة القومية “الحبشية”. وكذلك نجحت التجارب الأوروبية في تكوين دول علي الأساس القومي مثل ألمانيا وايطاليا وبولندا وسلوفاكيا والتشيك وغيرها ، بينما فشلت العديد من القوميات في أفريقيا وآسيا في توحيد شعوبها علي أساس اللغة والثقافة المشتركة ، وذلك لعدم واقعيتها السياسية مثل القومية العربية والكردية ، فإنّ كليهما اعتمدت علي اللغة والثقافة فقط دون النظر الي واقعهما السياسي والاقتصادي. وهذا الأمر ينطبق على الشعور ” السياسى ” لدى بعض المكونات الاجتماعية الإرترية فى امكانية توحدّها مع الشبيه الإثنى أو ” القومى ” عبر الحدود. ومثال ذلك مشروع تغراي- تجرينية الذى نادت به بعض القوى تاريخياً ولايزال يراود حلمه البعض. ويقابله في المنخفضات الحنين التاريخي للشبيه عبر الحدود مع السودان وما المشروع الذي نادى به الشيخ على رادآي في الخمسينيات من القرن العشرين (أى مشروع التقسيم) الا حلقة من ذلك الحنين ، والذي ينزع الى التماهي مع الطرف الآخر من أبناء البجا في السودان وصولاً الى حدود مصر. وقريب من ذلك دعوى وحدة المثلث العفرى وأضلاعه الثلاث فى إرتريا واثيوبيا وجيبوتي المماثلة للحلم الكردي فى القارة الآسيوية.
وأسوا الأمثلة تأتي عندما تفشل الدولة في ادارة التنوع الثقافي والاثني والديني والاجتماعي فتتكوّن نزعات “قومية” تجزيئية تقسّم الدولة الي كيانات شعوبية تعتمد علي التكوين البدائي للمجتمع. وقد رأينا ذلك في جنوب السودان الذي هو الآن في مرحلة انهيار الدولة لولا تدخل المجتمع الدولي نتيجة الصراع القبلي الإقصائي الذي وصل الى حد القتل علي الهوية.
وفي الواقع الإرتري كانت وثيقة “نحنان علامانان” هي أول وثيقة – مكتوبة- نادت بالتقسيم القومي للشعب الإرتري علي أساس اللغة المحكية.
الإرتريون – في الغالب الأعم – يميلون نحو تعريف أنفسهم بقبائلهم ومناطق سكناهم ، ولا يروق لهم تسميتهم بقوميات الا ما يستخدمه البعض في الاطار السياسي التكتيكي. ويوجد بعض الاستثناء في هذه المسألة. فالقوي السياسية والمجتمعية الممثلة لقبائل العفر تجمع علي اعتبار نفسها “قومية” توحدها بالإضافة للغة جوامع الأصل العرقي وعوامل العيش المشترك والاقليم المنفصل نسبياً من الناحية الجغرافية والتاريخية عن بقية الشعب الإرتري.
أما في المرتفعات فهناك خصائص عديدة للشعوب التجرينية تساعد علي وجود النزعة القومية. فالتجرينية شعوب تجمع بينهم اللغة والجغرافيا والي حدّ ما التاريخ المشترك. لكن –علي سبيل المثال- لا يزال الجبرتى يعتقدون – بحق – بأنهم مختلفون عن التجرينية ، في الثقافة والعادات والتقاليد الناشئة عن الدين المختلف. كذلك فإنّ سكان إقليمي أكلي غوزاي وسرايي يحسون بالاختلاف عن حماسين تاريخياً وعرقياً , وربما دينيا. وهذا الشعور يولّد نزعة إقليمية تعد في المقام الأول خصماً من الشعور الوطني العام. وحتي داخل الإقليم الواحد تجد عوامل مثل الدين والقرية والأصل العرقي تعطي إحساساً بالتميز لدي بعض المواطنين. وربما كانت فترة تقرير المصير قد أوجدت عوامل سياسية لتوحيد الكثير من التجرينية “المسيحيين” تحت لواء حزب “إندنت” ، وفيما بعد عمل تنظيم “سلفي ناطسنت” علي ابقاء تلك العوامل لصالح مجموعة أسياس أفورقي ليتمكن من التسلق الانتهازي بشكل شوفيني مقيت علي اكتاف “قومية التجرينية” الي أعلي سلم القيادة “الثورية” في “الجبهة الشعبية” ومن بعدها الي قيادة الدولة. إذن النزعة القومية استخدمت لأغراض سياسية شريرة من قبل أسياس أفورقي وزمرته في إعلان “نحنان علامانان” الذي صاغوه لتعريف أنفسهم “كمسيحيين من أبناء المرتفعات” ، ولتعريف الإرتريين “كقوميات تسع” علي أساس اللغة. وبعد ذلك رأينا كيف قامت تلك المجموعة بالسيطرة الحاقدة علي كل الإرتريين ، وتعمدّت تهميش من أسمتهم القوميات الإرترية وأبعدتهم عن المشاركة السياسية ونهبت ثرواتهم واضطرتهم لترك بلادهم والعيش كلاجئين ، وتبعاً لتلك التجربة تكوّنت في إرتريا نزعة نحو اقصاء الآخر الديني و”القومي” والإقليمي ، وسادت الشوفينية المقيتة في إرتريا التي أعطت للديكتاتور أفورقي مطلق الحرية لترتيب أوضاع البلاد دون رقابة تشريعية أو مراجعة محاسبية. وبذا انتهت إرتريا الي دولة يتحكم بها رجل واحد بمساعدة عصابة من النفعيين تقتل وتخطف وتعذب وتنهب خيرات البلد. وهذا الوضع ما كان له أن يكون لولا الاستقطاب الديني والخداع السياسي الذي قام به أسياس أفورقي لطائفته و”قومية” التجرينية وكل الإرتريين بأنه يعمل لصالحهم وقد صدّقه بعض الإرتريين. عليه يجب علينا كإرتريين أن نستفيد من الدرس التاريخي وألا نكرر تلك التجارب المريرة في مقبل العمل الوطني.
وبنفس القدر فإنّ النزعة الإقليمية والجهوية تؤدي الي نتائج تضر بالمصلحة الوطنية المشتركة علي المديين القريب والبعيد. فعلي المدي القريب فإنّ تلك النزعة تهدي للديكتاتور قبلة الحياة بعد أن بدأ كثير من مناصريه الانفضاض عنه , ووفرت له تأكيداً لادعائه أنه يحافظ علي الوحدة الوطنية ضد المعارضة- التي بزعمه – تهدد تلك الوحدة. فالديكتاتور يتقوى بتناقضاتنا ويستفيد من التعصب الديني والقومي والجهوي ليبقي أطول فترة ممكنة في سدة الحكم. وعلي المدي البعيد فإنها تشكل انحرافا عن مسار وطني مشترك قد تأسس في رحم الثورة وهو خصمٌ من مكتسباتنا النضالية الوطنية.
وفصل الخطاب في هذا الأمر أنّه يصعب علينا توصيف الشعب الإرتري بمصطلح “القوميات” ولا بمصطلحات جهوية كالتقسيم الي “منخفضات ومرتفعات” نتيجة للتداخل في الانتماء العرقي والثقافي والجغرافي ووسائل العيش والعمل. كما أنّ الوحدة الوطنية تهددها عوامل التقسيم الجزافي الي طوائف دينية أو قبلية وعشائرية.
إضافة الي ذلك فإنّ النزعة القومية والنزعة الإقليمية يشتم منهما رائحة العنصرية وروح العصبية الشعوبية والتعصب للتكوين المجتمعي البدائي الذى تجاوزه الشعب الإرتري في تطوره الاجتماعي في فترة الثورة من خلال التضحيات الوطنية المشتركة. ونحن نعذو ذلك الي الفشل السياسي الفادح الذي حدث في مرحلة الدولة. حيث فشل النظام الحالي من خلال سياساته في ادارة التنوع الاجتماعي والديني والثقافي للشعب الإرتري. ونتيجة هذا الفشل حدث التراجع المريع في الشعور الوطني الجمعي وانكفاء بعض المكونات الوطنية علي نفسها ودعوة بعض الجماعات الي الانتصار لقبائلها وطوائفها بدعوي شعوبية إقليمية وجهوية وقبلية ونزعة قومية.
بين الفيدرالية الاثنية (القومية) والفيدرالية الاقليمية:
السؤال الأهم هو هل نحن جاهزون لتبعات الخيار السياسي للفيدرالية الاثنية أو “القومية”. فلو صح فينا العزم لتطبيق هذا الخيار في أرض الواقع فيجب أن يسلّم كل إقليم لقومية ما وأن يُخلي ممن سواهم ، ويتم إعادة “المستوطنين” أو سيئي الحظ ممن وجدوا أنفسهم في منطقة نفوذ غيرهم من القوميات الأخرى لأقاليمهم. وأن تعطي القوميات وفقاً لذلك الحق المطلق في استخدام مواردها الطبيعية والاقتصادية مثل الموانئ والبحار والأنهر والأراضي الزراعية والمعادن وغيرها من الموارد. وأن تدار كل تلك الأقاليم وفق قوانينها العرفية وأن تستخدم لغاتها في دواوين العمل والمحاكم وغيرها من المعاملات اليومية. وعلي هذا الأساس نقيم فيدرالية أو كونفدرالية إثنية أو قومية. هذا أحد الخيارات المطروحة للحوار الوطني بهذا المعني. وربما يتوصل الإرتريون لهذا الحل السياسي إن كان هناك توافق مجتمعي وقدرات بشرية وامكانيات مادية لهذا الخيار. وإن لم يكن الحال كذلك فما معني الدعوة لفيدرالية إثنية أو قومية إلا أن يكون هو التمثيل الفلكلوري في الرقص والغناء والمهرجانات والتعليم بلغة الأم من الحقوق التي يخدع بها النظام الحالي “القوميات” ويحرمها من الحقوق الأساسية للإنسان.
أما مشروعنا فإنّه يدعو الي خيار الفيدرالية الإقليمية الممتدة الي أصغر وحدات الحكم المحلية والقائمة علي التقسيم الإداري القديم لإرتريا المتمثل في تسع أقاليم ويمكن إضافة العاصمة الوطنية “أسمرا” كإقليم عاشر. ثم يتم تقسيم الأقاليم الي مقاطعاتٍ (محافظات) ثم الي محليات (مراكز ريفية وبلديات في المدن) ، مع إعطاء تفضيل نسبي للسكان الأصليين في كل إقليم ومقاطعة ومحلية في تخصيص نسبة تمثيل تفضيلية لهم في الحكم الاقليمي والمحلي ، مع تكوين مجالس ومحاكم عرفية ومؤسسات دينية وتعليمية وثقافية خاصة بهم في الدولة المركزية وفي الاقليم والمحليات تحافظ علي كيانهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. وهذا الخيار يناسب الجميع وتسري فيه معاني الانتماء التاريخي للوطن الإرتري والرابط المجتمعي الذي تكوّن علي مر العصور وكرّ الأيام. فاذا كنا قد فشلنا في الوصول الي مجتمع حديث في حاضرنا فليس أقل من الإعداد له في مستقبل مشترك للأجيال القادمة. وهذا الخيار في نفس الوقت يوفر قدر من العدالة حيث سيوفر النظام الفدرالي حكماً ذاتياً للمجموعات المختلفة في مناطق تواجدها بما يضمن عدم تغوُّل الاَخرين علي مصائرها.
غياب الأهداف الوطنية مهدد للوحدة الوطنية:
في مقالة علي موقعه الالكتروني بعنوان “الكتلة التاريخية … أي معنى؟” ، اقترح المفكر والكاتب المغربي محمد عابد الجابري أن يتم الأخذ بفكرة المفكر الايطالي والمناضل اليساري “غرامشي” عن ” الكتلة التاريخية” وتكييفها لتناسب المجتمع ، وأكد على ضرورة تكوين تحالف وطني عريض تمليه الضرورة قائلاً: “(….) إنّ المهام المطروحة وطنيا (…) لا يمكن، في ظل الوضعية الراهنة التي نعرفها جميعا، لأي فصيل من فصائل القوى الوطنية القيام بها بمفرده، سواء حمل إيديولوجيا سماها يسارا أو نطق باسم الدين أو بأي شيء آخر. (…) أن الحاجة تدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحالف وطني جديد على شكل كتلة تاريخية تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع والتي من مصلحتها التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية ….” انتهى النقل. ، وأوضح معني الفكرة التي يرمي اليها قائلاً: “كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج، …..”. (مجلة المستقبل العربي نوفمبر 1982) انتهي النقل. أنّ الواقع الذي ذكره المفكر الجابري ينطبق الي حدٍ كبير علي حاضر الشعب الإرتري، مما يمكن من الاستفادة من الفكرة.
إنّ العمل السياسي الإرتري ظل يراوح مكانه من حيث الطرح والممارسة خلال العقدين الأخيرين. فرغم ما طرأ عليه من بعض التطور في توسيع مواعين الحشد الجماهيري ظلّ يعتمد التنافس الذي يفتقر الى منهج الإدراك التنظيمي القاصد وفهم طبيعة المرحلة ومقتضياتها. ولا تكمن المشكلة في الخيارات المطروحة للمسألة السياسية العامة – بالرغم من أنها معضلة كبيرة في حد ذاتها – بقدر ضعف أدوات الممارسة السياسية في كلا معسكري السلطة الحاكمة والمعارضة السياسية. وضعف أدوات الممارسة ناتج عن ضعف التعاطي مع النقد الفكري للواقع واتخاذ التوجهات المرحلية (التكتيكية) وسيلة للكسب السريع القائم على الوعي الزائف وعقلية الرغائب للقيادات السياسية وكوادرها العاملة. إنّ غياب النقد الفكري الحقيقي (غير الشعار الزائف لبعض المنظمات القائل بالنقد والنقد الذاتي) – أنتج حالة من غياب الأهداف الوطنية المشتركة ومن بينها ضرورة العمل لبناء منظومة عمل للتغيير الديمقراطي بمعيار صحيح تصدقه الممارسة السياسية على أرض الواقع. وقد أوجد هذا الخلل قدراً من عدم الثقة في مجمل العمل السياسي الإرتري وصدود الجماهير عن التفاعل مع ما تطرحه القوى السياسية.
إنّ المشروع يؤمن بأن المثقف (النخبة الوطنية) هو واسطة العقد في المجتمع , حيث يمثّل العقل المفكر لحراك المجتمع. كما أنّ له دوراً في جسر المسافة بين المواطن العادي والقوي السياسية التي تدعو لبرامج سياسية واجتماعية واقتصادية تستدعي نقداً متبصراً بالواقع وملماً بثقافةٍ فكريةٍ قادرةٍ علي تفكيك تلك البرامج وقراءتها بشكلٍ مناسب.
الحوار الوطني للوصول الي الوحدة الوطنية:
نعني به الحوار الوطني العقلاني والايجابي والهادف للوصول الي الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي المتمثل في تطبيق الشراكة الوطنية في الحكم المدعومة بإحداث نهضة اجتماعية علمية تستصحب الموروث الوطني والاخلاقي ، مع ضمان التوزيع العادل لموارد الدولة والتنمية المتوازنة والمستدامة. والحوار الوطني من المفترض في المقام الأول أن يكون حوار مجتمعي. غير أنّ الواقع السياسي والاجتماعي المفكك بصورته الراهنة لا تساعد علي استصحاب كل قوي المجتمع. لذا نري أن تكون البداية حوار نخبوي يتضمن المثقف العضوي المرتبط بقضايا وطنه الي جانب القوي السياسية. وهو حوار “المجتمع المدني” المتمثل في قوي المجتمع المهمومة بالإصلاح والتغيير.
وتأتي ضرورة الحوار بين قوي المجتمع المدني لغياب الحوار بين السلطة السياسية المتحكمة جبراً بالسلطة في البلاد والقوي السياسية المعارضة لها ، مما يوجد استقطاباً وصراعاً سياسياً واجتماعياً والذي يولّد بدوره حالةً من الانفصام المجتمعي والسياسي. وهذا الوضع يجب معالجته من خلال الحوار بين القوي التي تقبل الحوار بينها وسيلةً لحل المشاكل القائمة حتي لا تنتقل تلك المشاكل الي مرحلة الحرب الأهلية في حال سقوط النظام وحدوث فراغ سياسي وأمني ، ولضمان التغيير السياسي التوافقي.
لمراسلة الكاتب : aidris70@hotmail.com
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=33455
لا يوجد شيء جديد في هذا المقال الطويل كل هذه الأفكار موجودة في برنامج التنظيمات السياسية وبشكل تفصيلي وممل .. المطلوب الان يا دكتور فعل .. ونريد ورقة توضح أسباب الفشل و كيفية الدخول الي ميدان الفعل