نظرات تحليلية في الواقع الإسلامي الأرتري (الحلقة الأولى)

بقلم: محمد الحسن

بدايات تكوين الكيان الأرتري:

ظهرت أرتريا إلى الوجود ككيان له حدود سياسية وسلطة مركزية بعد الإحتلال الإيطالي في عام 1890م. وقبل هذا كانت أرتريا كيانا مكونا من مجموعات صغيرة وكبيرة يحكمها شيوخ القبائل ورجال الدين ، مع إرتباط بعض هذه المجموعات بقوى خارجية أقوى منها في الدول المجاورة – السودان وأثيوبيا والجزيرة العربية. وكانت كل مجموعة من هذه المجموعات تعيش في الأغلب في محيطها الخاص ، مع تواصل محدود مع المجموعات الأخرى. وباستثناء مدينة مصوع –أهم وأكبر الحواضرالأرترية- التي كانت تسكنها مجموعات تنتمي إلى قبائل مختلفة ، وجاليات مهاجرة من الخارج ، فإن أغلب المناطق كانت تعيش في محيطها المحدود ، المتسم بقلة التنوع والتعدد العرقي والثقافي. وحتى مصوع  –رغم ماكان فيها من تنوع عرقي – إلا إنها كانت إسلامية خالصة بعيدة عن التأثير المسيحي.

وكان بروز أسمرة كعاصمة للبلاد ، وتوسع العمران فيها ، وهجرة أبناء الريف اليها بغرض العمل ، بداية لإختلاط وتعايش أوسع بين أبناء القبائل المختلفة والمسلمين والمسيحيين ، رغم وجود أحياء خاصة بالمسلمين والمسيحيين في داخل مدينة أسمرة. وعصر الإحتلال الإيطالي رغم مركزيته ، وتسهيله وسائل التواصل العام ، إلا أنه كان عصر كبت سياسي ، منع فيه النقاش والحوار الحر في القضايا الوطنية والمصيرية العامة.

جاء الإحتلال البريطاني ، وكانت أهدافه الإستعمارية تختلف عن أهداف إيطاليا ، ففتح مجال العمل السياسي ، وأبواب التعليم المدني ، والتوظيف الحكومي ، وهنا بدأ ظهور الطبقات المثقفة ، والتلاقح العلني حول القضايا السياسية ، ومن أهمها مصيرأرتريا. تم كل هذا في وقت قصير دون أن تتكون الشخصية الأرترية تكونا كاملا ، ودون إنصهار وتمازج مكوناتها وعناصرها المختلفة في إطار متناغم متكامل. ولذلك كان من الطبيعي أن تظهر إنقسامات حادة بين الأطراف المختلفة ، بعضها يدعوا للإرتباط بأثيوبيا ، والآخر يريد اللحاق بالسودان ، وآخر يتطلع لإقامة دولة تجراي تيجرينية الكبرى إلخ. ومع وجود هذه الهشاشة في تكوين الشخصية الأرترية ، كان من الصعب تحقيق إجماع وطني حول المصير الوطني المشترك ، وجاءت التدخلات الخارجية لتستغل الظرف وتزيد الأمر سوءا.

وكان المسيحيون الناطقون بالتيجرينية أكثر المجموعات تجانسا وتماسكا لغويا ، ومعيشيا ، وأكثرهم إستقرار ومركزية ، حيث كانت لهم سلطات الشماقلى المحلية ، والكنيسة التي كان لها نفوذا قويا وكبيرا. أما المسلمون فرغم وجود الرابط الديني بينهم ، إلا أنهم كانوا أقل تجانسا لغويا ومعيشيا ، وأكثرهم توزعا من الناحية الجغرافية ، وأقلهم مركزية. وحتى المؤسسات الدينية الإسلامية لم تكن بنفس القوة التي كانت عليها الكنيسة ، وكانت متأثرة بالتشرذمات الموجودة في المحيط الإسلامي (صراع المهدية والمرغنية وغيرها). ولاشك أنه كان للطريقة المرغنية نفوذ ديني كبير ، ولكن الطريقة فقدت بريقها وحيويتها حين تولى زمام أمورها أشخاص لم يكونوا على قدر المسؤولية. وعلاقة المسلمين والمسيحيين بصفة عامة كانت تتردد مابين التصادم والتعايش المشوب بحذر.

مرحلة تقرير المصير:

وعلى هذه الخلفية الهشة للتكوين الأرتري بدأت قضية الهوية والمصير الوطني تظهر إلى السطح بقوة ، وتبرز إلى الواجهة توجهات تنظر إلى أرتريا من منظار واقعها ومحيطها المحدود ، لا من منظار واقع أرتريا العام. وكان لهذا الواقع الهش أثره البعيد المدى ، ومن أخطرها تجزأ الأرتريين إلى كتلتين : مسيحية وإسلامية ، وتجزء الكتلة الإسلامية إلى كتل وكيانات.

موقف المسيحين من قضية تقرير المصير كان موقفا يتماشى مع واقعهم الموجود آنذاك. فمن منطلقات دينية ، ولغوية ، وبيئية وجد المسيحيون أنفسهم أقرب إلى أثيوبيا والتيجراي أكثر من شركائهم في الوطن الأرتري. وكانت أثيوبيا بلدا تهيمن عليه الكنيسة ، وللمسيحيين فيها القدح المعلى. ولذلك وقفت الكنيسة الأرترية موقفا قويا مع خيار الإتحاد مع أثيوبيا ، ورأت في ذلك وسيلة لتعزيز مكانتها ، وترسيخ سلطتها.

أما موقف المسلمين من الإتحاد مع أثيوبيا فكان موقفا يتماشى أيضا مع الواقع المناسب لهم في ذلك الظرف ، فالخشية من أن يكونوا أقلية مضطهدة تحت حاكم معروف بطائفيته كان إعتبارا له مكان الصدارة عندهم ، وكان واقع مسلمي أكسوم وغيرهم ماثلا أمام أعينهم.

خاض المسلمون صراع تقريرالمصير على أصعدة غير متكافئة. المسيحيون كانوا أكثر تماسكا وتجانسا ، وكانوا مدعومين بقوة من قبل أثيوبيا ، وقوى عالمية كبرى. أما المسلمون فرغم أنهم نجحوا في عقد مؤتمرهم الأول في كرن ، إلا أنهم كانوا يفتقدون سلطة تكافئ سلطة الكنيسة ؛ فدار الإفتاء كانت هيئة حديثة العهد ، والطريقة المرغنية كانت قد فقدت حيويتها. ولذلك فإنه بعد مؤتمر كرن بوقت وجيز بدأت التصدعات تظهر ، فصدر قرار بفصل السيد جعفر –الزعيم الروحي لحزب الرابطة الإسلامية- ، وظهرت أحزاب أخرى خرجت من رحم حزب الرابطة. بالإضافة إلى هذا كان المسلمون يعتمدون على إمكانياتهم المحدودة ، ولم تكن ورائهم جهات ولا هيئات خارجية تدعمهم. والعالم العربي والإسلامي الذي كان المسلمون يتطلعون إليه ، كان يعيش حالة من التخلف والضعف التي إنعكست على المسلمين في أرتريا ، عكس المسيحيين الذين كانوا يتطلعون إلى العالم الغربي الذي كان يمتلك زمام القوة والمصير العالمي.

ورغم كل هذه المعوقات نجحت الرابطة في أن تكون أكبر وعاء إسلامي وطني ، وتتصدى بجدارة للتحديات المصيرية ، وتتغلب على قضية التعدد اللغوي بين المسلمين بالخروج بإجماع تام على إعتماد اللغة العربية ، وسد فجوة من أهم فجوات الكيان المسلم الأرتري.

وواضح من تكوين قيادة الرابطة أن العناصر المثقفة لعبت فيها دورا كبيرا ، وقد امتزج فيها دور المتعلمين تعليما مدنيا ، وتعليما دينيا. فقد كان هناك إبراهيم سلطان ، وكبيرى ، وياسين باطوق وهم يمثلون الطبقة المثقفة ثقافة مدنية ، وطبقة العلماء المتمثلة في القاضي علي عمر والقاضي آدم موسى عمران. هذا بجانب الدور التوجيهي والتوفيقي الذي لعبه بصورة غير مباشرة الدجيات حسن والمفتي الشيخ المختار. وقد خطت الرابطة لنفسها خطا يدل على فهم دقيق للواقع الأرتري. فلم يكن من مطالب الرابطة إقامة دولة إسلامية ، وإنما كان مطلبها مطلبا وطنيا ديمقراطيا ، تحترم فيه التعددية ، وتقرر فيه المساوات بين الجميع. بجانب هذا حرصت الرابطة على التواصل مع القلة المسيحية المعارضة للإتحاد ، وتكوين جبهة وطنية عريضة في مظلة واحدة.

.

الإتحاد الفيدرالي:

ظهرالإتحاد الفيدرالي كحل وسط ، وكان بإمكان أثيوبيا أن تحقق لنفسها ما تصبوا إليه لو حافظت على قرار الأمم المتحدة. وكان من المستبعد أن ينجح إتحادا من هذا النوع بين دولة إقطاعية ودولة متقدمة نسبيا. إلا أن ملك أثيوبيا  –رغم حنكته السياسية- كان قصير النظر، وكان من صالحه الحفاظ على القرار الفيدرالي ، وأن يفعل مع أرتريا مافعلته الصين مع هونكونغ. ولكن هيلى سلاسى إستهان بقوة إرادة العنصر المسلم في أرتريا ، فبدأ يدوس بأقدامه كل المقررات الفيدرالية ، ويكشف عن وجهه القبيح ونواياه الدفينة. ولعل الذي شجع هيلى سلاسى على هذا وقوف الكنيسة الأرترية في صفه ، والمجتمع المسيحي الأرتري بأغلبيته. وهنا لابد من الإشارة  إلى أن وقوف المسيحيين مع الخيار الإتحادي ربما كان له مبرراته على ضوء المعطيات التي  كانت موجودة على الساحة آنذاك ، لكن الذي لايمكن أن يبرر هو تصدر بعض القيادات المسيحية الأرترية عمليات الإضطهاد الإجرامية التي مورست ضد الوطنيين الأحرار. وكان البعض من هؤلاء أشد كلبا على إخوانهم الأرتريين أكثر من الأثيوبيين. ولولا هؤلاء لما حققت أثيوبيا الكثير من أهدافها.

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة وفيها نبدأ بتناول فترة الكفاح المسلح ومابعدها.


روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9996

نشرت بواسطة في ديسمبر 15 2010 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010