نظرات تحليلية في الواقع الإسلامي الأرتري (الحلقة الثانية)
بقلم: محمد الحسن
الكفاح المسلح:
ظهر الكفاح المسلح بعد سنوات من المقاومة السلمية عبر البرلمان ، والصحافة ، والإحتجاجات ، وخلايا الحركة السرية. وكانت البداية عفوية وبسيطة ، ولكن حادبة ومخلصة. وقد تضافرت فيها جهود السياسيين والطلبة خارج أرتريا ، وجهود المقاتلين في داخل أرتريا. ورغم صعوبة الإتصالات بين الطرفين ، وقلة الإمكانيات ، والخلافات التي بدأت تطل برأسها وتتفاقم فيما بعد في داخل “المجلس الأعلى” و”المناطق الخمسة” ، إلا أن الثورة نجحت في فترة وجيزة أن تقوم بعمليات جريئة هزت أركان المحتل الأثيوبي ، وتقض مضجعه. وكان للمسلمين فيها الدور الطليعي الرائد ، وهذا شيء طبيعي ، فهم الطرف الذي وقع عليه الظلم والإضطهاد.
وللقضاء على الثورة شنت أثيوبيا حملة إرهاب وإبادة –شاركت فيها بشراسة عناصر مسيحية أرترية عرفت بالكماندوس- ، دمرت فيها القرى ، وأحرقت فيها المزارع ، وشردت الآلاف. كل هذا كان يحدث في مناطق المسلمين ، بينما كانت المناطق المسيحية تنعم بالأمن ، والسلام ، والإزدهار. وبينما كان الشباب المسلم يتسكع في معسكرات اللاجئين ، ويعلق على أعواد المشانق ، كان الشباب المسيحي يتعلم ويلتحق بجامعة أديس أبابا –إسياس أفورقي وزملاؤه- والبعض منهم يلتحق بالجامعات الغربية – د. برخت ، د. فطور وغيرهم –. وبينما كانت فرص العمل تسد أمام الشباب المسلم ، فتح باب التوظيف الحكومي والإداري أمام الشباب المسيحي. وكان لهذا الواقع آثاربعيدة أدت إلى توسيع الفجوة العلمية والإدارية بين المسيحيين والمسلمين ، وهو أمر لازلنا نلحظ تبعاته اليوم.
توسعت أطماع هيلى سلاسى ، وبدأ المسيحيون يدركون المخاطر التي تهدد كيانهم التيجريناوي فبدأو بالإلتحاق بالثورة بأعداد قليلة في فترة الستينيات ، ثم بدأو بالإلتحاق بالثورة بأعداد متزايدة في فترة السبعينيات. وكان هذا تطورا تحققت من خلاله الإيجابيات التالية:
1) تحقق إلإجماع الوطني – ولأول مرة في التاريخ الأرتري -على الخيار الإستقلالي ، وعلى مقاومة الإحتلال الأثيوبي.
2) ضرب الإحتلال في مفاصله ، والتغلغل في دوائره ، حيث كان الكثير من المسيحيين الذين التحقوا بالثورة ممن عملوا في مواقع مهمة في داخل النظام الأثيوبي ، وكانوا على دراية أوسع بخفاياه.
3) تطور العمل الميداني والإداري ، حيث كان عدد من هؤلاء المسيحيين على قدر من الكفاءة العلمية والعملية التي لم تكن متوفرة عند المسلمين.
4) مد آفاق الثورة الأرترية إلى العالم الغربي ، و كسب تعاطف المؤسسات الإنسانية واليسارية في العالم الغربي.
لكن إلتحاق المسيحيين بالثورة وبوتيرة متسارعة ، دون وجود هيكلية مستقرة ، ومنهجية إستيعابية واضحة ، ثم تصدرهم السريع عمق الخلافات والصراعات داخل الثورة. والخلافات لم تبدأ معهم فقد كانت موجودة قبلهم ، فالقبليات ، والتكتلات في الداخل والخارج ، والصراعات الشخصية كانت تنخر في داخل جبهة التحرير ، والعالم العربي بدوره كان يصدر خلافاته ؛ ولكن مجيئهم إلى الساحة زاد من رقعة هذه الخلافات والصراعات.
وفي أواخر الستينيات تكونت في داخل الجبهة مجموعة مسيحية صغيرة تحمل في نفسها المرارة الشديدة من غلبة الدور الإسلامي في الجبهة ، وتشكوا مما تراه تهميشا وإقصاءا للدور المسيحي. وقد أصدرت هذه المجموعة الوثيقة المعروفة ب”نحن وأهدافنا”. وفي مقدمة هذه الوثيقة تشير هذه المجموعة إلى أنها مجموعة إنفصلت من “القيادة العامة” وأن كل أفرادها مسيحيون. وبدأت هذه المجموعة إستقطاب الأفواج القادمة من الشباب المسيحي ، ونشر بذور المرارة والتوجه الكبساوي فيهم ، حتى أصبحت كيانا منافسا يسعى للإنفراد بالقرار الأرتري ، وتبلور ذلك من خلال بروز تنظيم الجبهة الشعبية. والجبهة الشعبية تنظيم أحادي الوجهة ، كبساوي ، مسيحي حتى النخاع ، ولا يختلف عن سلفه – حزب الأندنت- إلا في تبدل إستراتيجياته وظرفه التاريخي. ولا ينفي هذا وجود بعض المسلمين من أبناء مصوع وحرقيقوا في مراكز قيادية – رمضان محمد نور ، الأمين محمد سعيد وغيرهم- فهم كانوا مجرد صور تعيش على الهامش. أما جبهة التحرير –التي بقيت مركز تكتل المسلمين- فقد كانت وعاءا جمع كل تناقضات المجتمع الأرتري ، دون وجود ضوابط تضمن للكل مكانه ووضعه الطبيعي ، وكانت تعاني من تذبذب في الوجهة الفكرية ، وتصارع قوى داخلية ، ولا يستبعد أنها كانت مخترقة من داخلها من عناصر تسعى لتقويضها. وكانت المحصلة النهائية تشرذم جبهة التحرير ، وانفراد الجبهة الشعبية بالساحة الأرترية ، وإحكام قبضتها على مسار العمل الميداني.
حركة الجهاد:
هزمت جبهة التحرير –وكان هذا متوقعا- وخلت الساحة للجبهة الشعبية ، وهنا ظهرت إلى العلن توجهات مختلفة ، ومنها حركة الجهاد الإسلامي. وظهور الحركة في هذا الظرف لم يكن مستغربا ، لكنه لم يكن متناسقا مع الواقع الأرتري ، وهو أمر غفل عنه مؤسسوا الحركة. وقد كان أسلافهم مؤسسوا حزب الرابطة –رغم توجههم الإسلامي- ، أكثر فهما للواقع الأرتري ، حيث لم يسعوا لإقامة دولة إسلامية في أرتريا ، عالمين أن ذلك مطلب غير واقعي في أرتريا. ولا يعني هذا غياب الفهم الحركي الإسلامي عن الساحة الأرترية آنذاك ، فقد كان للحركة الإسلامية وجود –مباشر أو غير مباشر- ، فقد عاصر بعض علماء أرتريا الأوائل الذين كان لهم دور مهم في الرابطة ، نشؤ الحركة الإسلامية في مصر في الأربعينيات ، وقد زار بعض كبار قيادات الإخوان أرتريا في فترة الخمسينيات وتم الإحتفاء بهم. ظهرت حركة الجهاد والآمال معقودة عليها لتعيد توازن القوى ، وتعيد الإعتبار للطرف الإسلامي ، وقد ساعدت على ظهور الحركة عوامل كثيرة منها:
1) الجهاد الأفغاني وما كان يحققه من إنتصارات في مواجهة الإتحاد السوفيتي ، والمكتسبات السياسية للحركة الإسلامية في السودان والجزائروغيرها ، وبروز التيارات الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي مع تراجع كبير للتوجهات القومية واليسارية. وهذه الإنتصارات والمكتسبات أعطت زخما كبيرا للتوجه الحركي الإسلامي في أرتريا ليظهر للعلن ، ويتحدى الجبهة الشعبية.
2) صعود الجبهة الشعبية وانفرادها بالساحة الأرترية ، وتنامي شعور السخط بين المسلمين ، حيث أصبحوا في العراء ، بعد أن ضحوا وأسسو وبذلوا ، وأصبح المسيحييون الذين وضعوا بالأمس القريب أيديهم في يد هيلى سلاسي ، سادة الموقف ، وصناع القرار في الميدان الأرتري.
3) ظهور حزب العمل الشيوعي السري في داخل الجبهة ، وقيام عناصره المتنفذة باضطهاد أصحاب التوجهات الإسلامية ، ومحاربة الممارسات الدينية ، وتفريغ الجبهة من داخلها.
ورغم الحماس الذي ظهر في مبدأ الأمر ، بل والثقة الزائدة التي كانت تظهر على ألسنة البعض من أبناء حركة الجهاد بأن الحركة إستطاعت أن توحد التيارت الإسلامية الأرترية وتحقق ما عجزت عنه الحركات الأخرى في العالم الإسلامي ، فإن الإنقسام كان لامفر من حدوثه. فالحركة بجانب ماكانت تحمله من تناقضات المجتمع الأرتري المسلم ، فإنها فكريا كانت تمثل توجه حركة إلإخوان والسلفيون. وقد أثبتت تجارب العالم الإسلامي الحركية أن هذان التوجهان بينهما إرث من الصراع والخصومة ، مايجعل إتحادهما تحت مظلة واحدة ضرب من المحال. وقد تشرذمت حركة الجهاد إلى عدة مجموعات ، حاملة معها كل أمراض الحركات الإسلامية ، والقبليات الأرترية ، ومخيبة أمال من عولوا عليها . ورغم عدم واقعية طرح حركة الجهاد ، فإن ظهور الحركة للعلن كانت له أثار مهمة ، من أهمها: التحاور والتلاقح العلني بين حملة التوجه الإسلامي ومخالفيهم ، وجلوسهم على طاولة واحدة ، وهذا أدى إلى تطور الطرح الفكري ، ونضج الفهم ، وعمق الوعي لدى كل الأطراف –إسلامية كانت أم علمانية-.
إفرزات مابعد مرحلة التحرير:
نجحت الثورة الأرترية في تحقيق النصر الكاسح بجهود أبناءها ، وبتغير المناخ السياسي العالمي ؛ ورغم الفرحة التي عمت الكثيرين ، فإن من كانوا يعرفون تكوين الجبهة الشعبية ودور إسياس فيها لم يغب عن بالهم المخاطر التي كانت تنتظر أرتريا. بدأ إسياس بعد التحرير يظهر بمظهر من يسعى لتحقيق قيم العدالة والديمقراطية ، وكان يقول أعطونا بعض الوقت حتى نتجاوز مخلفات الحرب ، وتستقر مؤسساتنا ثم نشرع في إرساء الديمقراطية ومؤسساتها. وفي لقاء جماهيري في واشنطن قال بالحرف : الحكم لابد أن يكون فيه شفافية ، وأنا لا أريد الحكم إن لم يكن فيه شفافية! وفور دخوله أسمرة حضر حفل المولد النبوي –وهي ربما أول وأخر مناسبة إسلامية يشارك فيها- وألقى فيها كلمة باللغة العربية. ولكن الأيام بدأت تكشف أقنعة أسياس –التي عرفها المخضرمون في الثورة الأرترية- وتظهر للعيان ، ويكتشف البسطاء الكارثة والطامة التي حلت بأرتريا. وقد جاءت وثيقة العهد الأرتري لتعري وجه هذا النظام ، وتبين بوضوح أنه في جوهره طائفي لا يختلف عن سلفه حزب الأندنت. وقد جمع هذا النظام مفاسد كل من سبقه: طائفية تزكم الأنوف ، إستبداد يخنق الأنفاس ، جوع وفقر يهد كيان الناس ، سجون سرية تدوس كرامة الإنسان ، تعذيب وحشي تصرخ من هوله الجدران ، وفوق كل هذا دبلوماسية فاشلة ، ومغامرات طائشة ، وعجرفة جعلت من أرتريا مسخرة المجتمع الدولي.
أما المسلمون فقد رجعوا بعد كفاح التحرير المرير الذي بذلوا فيه الغالي والرخيص ، بخفي حنين ؛ مدينتهم التاريخية –مصوع- دمرت ، وشرد أهلها ، وأصبحت مدينة مسيحية ، اللاجئون بقوا في أماكنهم وزاد عليهم آخرون ، واللغة العربية التي نافحوا من أجلها أصبحت مهمشة ، والمساواة التي سعوا إليها ضرب بها عرض الحائط ، وقيم الحشمة التي يعتزون بها مرغت في الأوحال. واليوم فإن الشعور بالغبن ، والمرارة ، والغضب المكتوم هو الذي يسود الوسط المسلم في الداخل والخارج ، وأرتريا اليوم –بالنسبة لعامة المسلمين- هي كابوس مظلم كئيب ، وحالهم كحال الأيتام في مأدبة اللئام. والمعارضة التي عولوا عليها – إسلامية كانت أو علمانية – فقد زادت من خيبة أملهم ، حيث أصبحت تتشرذم كل مرة ، وتعيش مشغولة بصراعاتها الحزبية ، ساعية لجر الحماهير إلى هذه الصراعات الجانبية.
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والأخيرة مع خطوات نحو الحل
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=10025
أحدث النعليقات