نظرات تحليلية في الواقع الإسلامي الأرتري (الحلقة الثالثة والأخيرة)
الكاتب : محمد الحسن
خطوات نحو الحل:
إن حل مأساة أرتريا ، وخاصة المسلمين ، يحتاج إلى عقول كبيرة ، ونفوس متجردة ؛ ويحتاج إلى تضافر الجهود وتكاملها. والتمهيد النظري ، والحوار ، والشحن الجماهيري خطوة ضرورية ومهمة أساسية. وهذه نقطة مهمة أشار إليها المفكر المودودي حيث ذكر أن الثورات الإجتماعية تسبق بالتنظير الفكري لها ، وضرب لذلك مثلا بالثورة الفرنسية التي مهد لها المفكرون أمثال فولتير وروسو وغيرهم. وفي هذه العجالة إشارت لبعض الخطوات المهمة على طريق الحل.
خطوات نظرية:
1- دراسة الماضي دراسة موضوعية وهادفة:
إن تاريخنا تاريخ ملئ بالإنجازات والإخفاقات ، والبطولات والحماقات ، وفرص أحسن إستغلالها وفرص أسئ إستغلاها. وتاريخنا فيه جوانب مشرقه وجوانب قاتمة ، وشخصيات فذة ورائدة ، وشخصيات هزيلة ومائعة. وواقعنا اليوم هو إمتداد لهذا الماضي بكل ماكان فيه من خير وشر. ولذلك فإن فهم هذا التاريخ على وجهه الصحيح خطوة أساسية لابد منها. والخطورة تكمن في عقلية التمجيد ، والبحث عن البطولات ، التي تبالغ في تصوير الإنجازات ، وتهون من الإخفاقات وتمر عليه مرورا عابرا ، وتنتفض غضبا إن أشير إليها. وكثير مما يكتب عن تاريخنا يغلب عليه الجانب العاطفي ، الذي يبالغ في تمجيد الأسلاف ، ويجعلهم فوق مستوى النقد والتمحيص العلمي. وتتدخل القبليات لتزيد الأمر سوءا فتمجد وتبالغ من شأن من ينتمي إليها ، وتقلل من شأن من لا ينتمي إليها. وقديما قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساويا
2- البحث عن مكمن الداء في الداخل أولا:
يقول الله سبحانه وتعالى: “أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذ؟ قل هو من عند أنفسكم“. إن النظرة الفاحصة لما آلت إليه أمور المسلمين اليوم في أرتريا تبين أنها نتاج فرص ضيعت ، وإمكانات أهدرت ، وصراعات داخلية إشتعلت ، وقبليات تجذرت ، وقرارات قاصرة نفذت. كثيرا ما نشكوا من تآمر الآخرين علينا ، وما فعلوه بنا. لا شك أن هذا حدث ، ولكن حدث لخلل فينا ؛ فما طمع فينا طامع ، ولا تآمر علينا متآمر إلا لخلل كان فينا ، ولضعف داخلي تأصل فينا. ونحن في عالم لا يرحم فيه الضعيف ، ولا يؤبه فيه لغافل. وقديما قال الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
إن عقلية الضحية تصيب المجتمعات في مقتلها ، حيث تنزع منها دافع المبادرة ، وتجعلها رهينة بحسن نوايا الأخرين. إن إسياس حتما سيذهب ، وسيأتي غيره من أمثاله من أبالسة الإنس ؛ فالحل بأيدينا لا بأيدي غيرنا ، فعلينا أن ننظر إلى عيوبنا بشجاعة وصدق ، ونقوم بإصلاحها ، ونقوم بترتيب بيتنا وأولياتنا ترتيبا صحيحا ، ونحصن مواقعنا داخليا ، ونمتلك أسباب القوة ؛ ويومها سيكون لنا إعتبار أمام الأخرين ، وستتحطم مؤامراتهم ، ويخنس أبالستهم.
3- فهم الواقع المحيط فهما دقيقا:
فهم الواقع كما هو دون زيادة ولا نقصان ، ولا تهويل ولا تهوين خطوة مهمة نحو العلاج. والواقع لابد أن ينظر إليه كما هو ، لا كما نريده أو يحلو لنا. والواقع يشمل مناحي كثيرة ، ومن أهمها ناحية أساسية تتعلق بشركائنا في الوطن ، المسيحيون. إن فهم مكونات المجتمع المسيحي فهما دقيقا مهم للتعايش المتكافئ معهم. فالمسيحيون ليسوا كتلة واحدة ؛ ففيهم الوطني المخلص ، وفيهم الكبساوي المتعصب ، وفيهم الجاهل المتوجس ، وفيهم النخبة التي تتلون مع كل لون ، وفيهم الطبقات الكادحة التي لا تجد مايسد رمقها ؛ وفيهم من الإختلافات ، والتناقضات ، والتكتلات ، والصراعات ما يوجد عند كثير من المجموعات. هذا الفهم مهم حتى نعرف كيف نتعامل ، ومع من نتعامل ، وبمن نثق ، وبمن لا نثق ؛ وكيف نميز بين الكبساوي المتعصب ، والمسيحي الحادب على مصلحة الوطن. بالإضافة إلى هذا ينبغي أن نفهم بدقة خصوصيات الواقع الأرتري ، فلا نسعى لتكرار النموذج السوداني ، ولا السعودي ، ولا المصري ونحاول إرتداء ثوب أكبر من حجمنا ولا يتوائم مع بيئتنا. علينا أن نتبنى خطا يتوافق مع قيمنا ومبادئ في ضوء معطياتنا وتجاربنا الخاصة.
خطوات عملية:
1- توسيع دائرة الحراك
إن الصراع مع إسياس وزمرته ليس صراعا سياسيا فحسب بل هو صراع حضاري ، ثقاقي ، إجتماعي ، إقتصادي ، ديمغرافي. وصراع من هذا النوع يحتاج إلى تحريك كل القوى الفعالة في المجتمع من كافة جوانبها لتشمل الفن ، والأدب ، والتنظير الفكري ؛ والعمل إلإغاثي ، والإجتماعي ، والحقوقي ، والمدني. وهنا لابد من الإشادة بأغاني حسين محمد علي الرائعة بلغة التيجرى (مي رأيكا؟ تم ؛ مي سمعكا؟ تم) ، ولابد لهذه الأغاني الهادفة أن تدخل كل بيت ، وتنشر في كل موقع ، وياحبذا لو يستمر الفنان حسين محمد علي في إصدار المزيد ، ويحذوا حذوه بقية الفنانين. وكذلك مواقع الأنترنت جزء من هذا الحراك ، ولكن لابد من تطوير أدائها. ومركز سويرا أيضا خطوة رائدة على الصعيد الحقوقي ، وتقاريره السنوية لابد أن تنشر على أوسع نطاق.
2- إعادة ترتيب العمل الحزبي :
العمل السياسي جزء مهم من الحراك العام. وهذا الجزء يحتاج إلى إعادة ترتيب أساليب عمله السياسي والحزبي ، وصياغته صياغة جديدة في هياكله ، ولوائحه الداخلية ، وأهدافه واستراتيجياته. أن أحزاب اليوم الأرترية لاتزال تحمل إرث الماضي ، تتحالف اليوم وتتصارع غدا ، تلتئم حينا وتتشرذم حينا ، وتتناطح على توافه الأمور، وتبحث عن إنتصارات وهمية سريعة ؛ والبعض منها قد أصبح رهينة للسودان تارة ، ولأثيوبيا تارة. لابد لهذه الأحزاب من قيم تنظم علاقاتها ، ومبادئ توجه التنافس الحضاري والمؤطر بينها. وإذا استمرت هذه الأحزاب على نفس النهج دون تغيير فستكون عقبة في طريق الإصلاح ، وشرخا في جدار المقاومة. ولقد زاد الأمر سوءا بظهور الأحزاب القبلية ، التي هي إفراز غير طبيعي للواقع المهترئ في أرتريا -وهو أمر سيكون لنا فيه حديث لاحق إنشاء الله.
3- عدم مغادرة البلاد:
يغادر الشباب البلاد بأعداد متزايدة نتيجة لسؤ الأوضاع في الداخل. وبعض الأطراف تهلل لهذا وتشجعه ، وتستعمله كدعاية ضد النظام. لكننا ينبغي أن نعرف أن كل شاب مسلم يخرج من أرتريا هو مكسب ديمغرافي يحقق لإسياس وزمرته ما يسعون إليه من “تجرنة وكبسنة” أرتريا. علينا أن نشجع الشباب بالبقاء في أرتريا مهما كانت الظروف –إلا أن تكون حياتهم في خطر- ، وحثهم على الجد في الدراسة والإلتحاق بمعسكرات التدريب ، إن كان لا بد منها ؛ والعمل في مؤسسات الدولة والإنخراط فيها. فالخارج من وطنه يفقد أرضيته ، وأثره يكون محدودا. وليبقى أصحاب المواقع السياسية في داخل النظام في مواقعهم وليؤدوا أعمالهم ، وليسددوا وليقاربوا ، فبقاؤهم هناك خير من التسكع في مقاهي لندن والخرطوم. وبقدر الإمكان أيضا تشجيع الناس على العودة إلى الوطن –كل حسب ظروفه وأوضاعه- ولابد من التذكير المستمر بأن كل مسلم يغادر أرتريا فهو مكسب ديمغرافي لمشروع إسياس الطائفي.
4- التوثيق والتدوين المستمر:
التوثيق المستمر لكل المغتصبات والإنتهاكات من قبل النظام أمر أساسي ، فالنظام يسعى لفرض واقع معين يريده ، ومحو الذاكرة الأرترية ، وإخراج جيل مدجن منفصل عن ماضيه. وهذه الوثائق لن تذهب سدى ، ستظل تكشف الخبايا ، وتدوي في الأفاق ؛ ولابد للتاريخ أن يدور دورته ، وتعود العجلة إلى موضعها ، وتظهر الحقائق. أسماء المعتقلين ، والمغيبين ، ومن تم إغتيالهم ، وعمليات إغتصاب الأرض ، والسطو على الآثار، وتزوير التاريخ كل هذا ينبغي أن يوثق ويدون تدوينا كاملا. وهنا لابد من الإشادة بمركز سويرا الذي يقوم بتوثيق مهم لانتهاكات حقوق الإنسان في أرتريا ، ويقدم تقارير سنوية مهمة. وكذلك وثيقة المختار التي قدمت توثيقا كاملا بالأسماء والأرقام ؛ وهذه خطوات مضيئة في هذا الصدد. إننا بحاجة إلى المزيد من أمثال هذه المراكز البحثية ، والتوثيقية.
5- تنقية الصف من طلاب الزعامة:
طلاب الزعامة والصدارة ، هم الداء العضال ، والمصيبة الطامة – وما أكثرهم داخل الصف المسلم- ، وياليت هم طلاب زعامة مع كفاءة وإقتدار ، فإسياس مثلهم طالب زعامة لكنهم إشتركوا معه في حب الزعامة وفشلوا في تحقيق ماحققه هو لطائفته. الحذر من هؤلاء ، وقطع الطريق عليهم بتقوية الهيكل الداخلي ، وتوعية الجماهير ، خطوة لا مفر منها. فقد عانينا من أمثال هؤلاء بما فاض به الكيل. وعلينا كذلك الحذر ممن إنتهى دورهم التاريخي ، ويريدون أن يوقفوا عجلة التاريخ من المضي قدما ، ويقفوا حجر عثرة أمام الوجوه الشابة والمبدعة.
وبعد :
فإن أرتريا لن تستقر مادام فيها طرف مغبون ، ومالم يعش فيها المسلم والمسيحي في دولة تتكافأ فيها الفرص ، وتضمن الحقوق فيها للجميع. والخطر على أرتريا يأتي من “كبساوي” لايرى في أرتريا غير ثقافة الكبسا ، ودعي للإسلامية لا يفرق بين واقع سعودي واوقع أرتري ، وطالب سلطة لا يعرف فن السياسة ولا فن الأخذ والعطاء.
لقد إنتهى الأمل في صلاح إسياس، فقد سقط في هاوية لارجعة فيها ، وذهابه شرط لإصلاح البيت الأرتري. إن الصورة اليوم كالحة ، ولكن لاننسى أن الأمور كانت كذلك أيام هيلي ، وأنصاره ما كانو يتصورون أن مجموعة صغيرة ستقلب الموازين عليهم. ستعود الأمور إلى نصابها في أرتريا ، ولن تضيع جهود شعبنا الأبي هدرا ؛ والنصر قادم بإذن الله تعالى.
وأبو القاسم الشابي يقول:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=10110
أحدث النعليقات