نكأة الجرح ياعادل
عبد الرحيم الشاعر
لا يمر يوم من غير ان تطالعنا في المواقع الشبكية أخبار فظائع وجرائم ترتكبها الزمرة الحاكمة، فهل فعلنا شيئا أو انفعلنا؟ هل ذرفنا دمعا أو تشنجنا وغضبنا؟ نعم ربما حدث، ولكن في غالب الأحيان نشيح وجوهنا الى الناحية الأخرى، ونحاول تكوين مناعة ضد الألم والحزن حتى نوهم أنفسنا بالحياة الرغدة أو شبه الآمنة في منافينا هذه أو تلك، ولكن هنالك دائما الجريمة الصاعقة التي تغض مضاجع بياتك الشتوي الأختياري، خاصة اذا كان هنالك في مكان ما من ذاكرتك ركن لوجوه ضحايا هذه الجرائم. هذا بالضبط ما حدث لي .. صور وأصوات تجزء وحشرجات أرواح تساقطت كحبات رمل وحصى على أهداب ذاكرتي والمخيلة في مخاضها تتأوه من شدة وجع ما قرأت. نعم قراءتي لموضوع الأخ: عادل علي، المنشور في “فرجت” بمناسبة يوم الشهيد صعق الحواس مني وأفقدني التوازن. الصور والأصوات وأنا أتخيل المشهد وأضع نفسي مكانه خاصة ان معظم الذين تعرفت عليهم حين عودتي الى الوطن في عام 1995م اما استشهدوا في الحرب الأخيرة أو وهم يخضون حرب المعارضة السودانية خاصة الدفعتين الرابعة والخامسة، وهم الذين ظنوا ان هذا المشروع الاستعباطي المسمى بالخدمة الوطنية..مشروع خلق جيل من القتلة والقتلى.. سيجعلهم يكبرون سريعا ويصبحو اسودا مثل أبائهم والكاكي الأخضر الذي كان يزدهم زهوا وفخارا وهم يجلسون في زوايا حاراتهم الفقيرة أصبح اليوم ملطخا بدمائهم وهم… بعد لم يتجاوزو طفولتهم الشقية.
أطفالا تطالعك وجوههم من على الشاحنات وهم في طريقهم الى مصير غير معلوم..أطفالا تطالعك وجوههم من على جانبي أى طريق وأنت في طريقك من مدينة الى أخرى.. فهم في عيلا برعد أو حملمالو أو منصورة أو صنعفى ، والشمس المحرقة طلت وجوههم سحنة غير سحنتها والأرض تنفض غبارها على اجسادهم النحيلة، والعرق المتصبب يتوقف عند حدود الاذن ومنابت شعر لحية تنبئ بمقدم رجولة مبكرة وطفولة فرت لتحل محلها الكوابيس والأحلام المزعجة. اسماءهم مجرد ” ودي كرن” ، ” ودي اسمرا ” ، ” ود باطع “، ” ودي ساحل” ، ” ودي بركه”. أحلامهم مؤجلة الى حين انتهاء قضية الحدود.. كما هو مؤجل الدستور والبرلمان.. ولظرف قضية الحدود البالغ الحساسية مؤجل الخريف والزراعة والحصاد والتناسل، وربما الفرمان القادم من ديوان السلطان سيكون ممنوع التنفس حتى انتهاء قضية الحدود ، ومن تنفس منكم سيدفع الى بيت مال السلطان من 10 ألف الى 50 ألفا.
نعم كان طفلا أجبر على حمل السلاح..هو كان أحوج الى حضن أمه وكسرتها، كان أحوج أن يلعب ” السلباتي” ,الشكروك” و كرة الشراب مع أقرانه في الطرقات المتربة. قيل نام في الاستطلاع..كيف لا ينام؟ الاطفال ينامون مبكرا قبل مقدم العفاريت. قيل أضاء البطارية في الظلام..نعم الاطفال دائما يخافون من الظلام…” رأيته ينهار على الأرض ” ..تهاوى الجسد النحيل على الأرض وتهاوت معه ألف ألف أمنية وألف ألف أغنية. فار الدم من جبينه الغالي ليخترق الخرقة البالية التي غطو بها عينيه لتتكشف له عورتهم ووجوههم القبيحة تراءو له ضفادعا خضراء سامة وهم يسرقون آخر ريق للحياة في حلقومه..تراءى له قبح الواقع الذي نعيش قبحنا نحن الصامتون خلف الحدود، مدمني الفضائيات والبيبسي كولا ، قبح الزمن الذي نعيب والعيب لم يتجاوز دواخلنا. أين ذهب كبريائنا ذلك الكبرياء الذي سد السبل أمام غزاة الأرض… ذلك الكبرياء الذي أودى بهيلا سلاسى ومنجستو الى مزبلة التأريخ، كيف استكان ذلك الكبرياء وأحنى قامته في دواخلنا بخيانة ورضى بسقط المتاع. الصغار يدفعون ضريبتنا بينما الكبار يتمترسون خلف منابر الكلام والجعجعة التي لا تنتج طحينا.
ماذا كانت أمنيته الألف بين لحظة انفجار الدم وتهاوي الجسد؟ أى الصور ترددت في ذاكرته قبيل أغتيالها وقبيل ملامسة الجسد لتراب الأرض؟ ماذا كان شعور أمه في تلك اللحظة في ذلك اليوم من عام 1999م – وقلب الأم دليل – هل خفق قلبها بشدة؟ هل أصيبت بدوار ..اتكأت على الحائط وهتفت ” آه يا فلذة كبدي”. كيف حالها الآن وحال أخوته الصغار، كيف يكون حالهم هل مازالو يحتفظون بملابسه القديمة..كتبه .. كراساته..دواته ولوحهه، وماذا كان شعورهم وهذه الشرزمة القاتلة هذا البعوض البشري الذي يمتص دماء أطفالنا وشبابنا وبلا خجل يقدمون لهم شهادات وصكوك غفران، هل كانو يبتسمون في دواخلهم وهم يتطلعون الى الوجه الذي أضناه البكاء؟. وهل كتب علينا دائما أن نكون نحن القتلى والضحايا؟ كيف نوقف هذا النزيف؟ كيف رضينا بأمتهان الكرامة وتعفير الجباه في التراب ولم ننتفض؟ تسرق فلذات أكبادنا من بين ظهرانينا ولا ننتفض!
فاذا كان لا بد من أن نكون الموتى والقتلى والشهداء ، والسجناء والمنفيين ، أليس من العار أن نموت ونحن نجلس القرفصاء.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=8008
أحدث النعليقات