هكذا عشت الربيع العربي
16 ديسمبر 2014
فأين كُنْتُ في بداية ما يعرف بالربيع العربي؟
شاءت الأقدار أن تربطني علاقة وطيدة بدول الربيع. لي أصدقاء كثر من تونس. ويقال إنني مصري الهوى. وليبيا عاش فيها نفر من أهلي في طرابلس وسبها وبنغازي. ومن سورية درّسني من أقدّر وأحترم. واليمن فيها جزء من ذاكرتي ومني.
أحرق البو عزيزي نفسه، شرارة سرت كالنار في الهشيم العربي، لم يكن الأمر ملفتا لأول وهلة، ولا أذكر أين كنت وماذا كنت أفعل. لكن لحظة أخرى جعلتني متيقنا أن بن علي انتهى.
كنت جالسا في مطعم مع صديق، وتردنا الأنباء تباعا عبر الموبايل. كانت لحظة فارقة بالنسبة لي، تلك التي وصل فيها متظاهرون إلى وزارة الداخلية التونسية وهتفوا ضد بن علي: ديغاج..ديغاج..ارحل..ارحل.
كنت أعرف حينها عن تونس ما يجعلني أصل إلى تلك القناعة. التقيت في مشواري التلفزيوني بعدد من المعارضين التونسيين، وكان أول تصوير خارجي لي في ندوة في مدرسة الدراسات الشرقية والآسيوية في جامعة لندن (SOAS)، وكان الرئيس التونسي الحالي منصف المرزوقي من المشاركين، وكانت أول مرة ألتقي الشيخ راشد الغنوشي، ولاحقا التقيت رئيس الوزراء الراحل محمد المزالي، وعميد المحامين المرشح لرئاسة الوزراء بعد الثورة شوقي الطبيب، والتجمعي برهان بسيس، والحقوقية المعروفة سهام بن سدرين وعمر صحابو وتوفيق بن بريك وغيرهم.
في ذلك الوقت كنت أعمل في قناة “المستقلة” لصاحبها محمد الهاشمي الحامدي الذي حلّ رابعا في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
أجزم أن أحدا من هؤلاء لم يتوقع ما حدث في تونس. كانت المعارضة هشة. كان بن علي بحكمه البوليسي ممسكا بزمام الحكم. ولم تكن هناك بوادر على تخلي القوى الكبرى عنه. وكانت علاقته متينة بالحليف الغربي الأهم لتونس في الإليزيه.
بن علي كان شرسا جداً مع معارضيه وكنت أعي ذلك تماماً. في اللحظة التي وصل فيها التونسيون إلى وزارة الداخلية، رمز السطوة الأمنية لبن علي، وتجرّأوا عليه بهتاف ديغاج. أدركت أن الأمر انتهى. ولم يمر وقت طويل قبل أن نسمع عن طائرته التي طفقت تبحث عن مكان تهبط فيه. بن علي هرب.
عادت إلى أذهان الجميع أبيات أبو القاسم الشابي الخالدة: إذا الشعب يوما أراد الحياة. فلابد أن يستجيب القدر. التونسيون، أو التوانسة كما يقولون بلهجتهم المحلية، هرموا من أجل هذه اللحظة التاريخية.
بالقرب، قرر فتية مصريون أن يخرجوا للتظاهر في ٢٥ يناير يطالبون بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. جاءت الدعوة للتظاهر في صفحة على “فيسبوك”، لم يأخذ أحد الأمر بجدية. في وقت سابق عندما سأل صحافيٌّ جمال مبارك عن نشطاء “فيسبوك”، قال رده المتهكم الشهير “رد انت يا حسين”، حسين نفسه انضم لثوار يناير في ميدان التحرير، وذهب جيمي إلى سجن طرة، حتى الآن على الأقل.
كنت في اجتماع تحرير يومي وليس لدواع استثنائية. قال أحدهم إن المشاركين في مظاهرات يناير حسب فيسبوك وصلوا إلى عشرات الآلاف. لم يأخذ أحد الأمر بجدية ولم يتوقع أحد ما حدث لاحقا.
حدثت الأمور بسرعة كبيرة. قالها المصريون لمبارك بكل الطرق. وبملء فيهم “ارحل يعني امشي. انت ما بتفهمشي”، حاول مبارك البقاء، قال إنه لم يكن ينتوي، وبكى كثير من المصريين حين سمعوا خطابه العاطفي “ولدت هنا وسأموت هنا”، نسوا أو تناسوا ما فعله مبارك بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
ثم كانت موقعة الجمل، يا إلهي. تسمّر الكل على شاشات التلفزيون في دهشة غير مسبوقة. هاجم بلطجيةٌ المتظاهرين بالأسلحة البيضاء من على ظهور الجِمال. من الذي فكر في هذه الفكرة الجاهلية؟ وهل هو من القاهرة أم من يثرب؟ كان منظرا لا يصدق.
يردد أصدقائي المصريون دائماً بيت أبي الطيب المتنبي في هجائه لحاكم مصر كافور الإخشيدي (رغم السياق المختلف)، “وكم ذا بمصر من المضحكات. لكنه ضحكٌ كالبُكا”.
في تلك الفترة كانت التغطية متشابهة كثيرا بين “الجزيرة” و”الجزيرة مباشر”. لم تكن هناك بعد قناة اسمها “الجزيرة مباشر مصر”. علمنا أن الثوار كانوا يتابعون شاشتي الجزيرة في ميدان التحرير. في وقت ما، كنت على الهواء في تغطية مستمرة لعشر ساعات متصلة، لم يتخللها إلا فواصل بسيطة بسبب نداء الطبيعة.
لاحقا، كنت حريصا على زيارة مصر وخاصة ميدان التحرير. كان الناس في المقاهي ينتقدون المجلس العسكري والإخوان المسلمين واليساريين والسلفيين وأي أحد من دون خوف.
جلست في مقهى مع ناشطين نتحدث عن مصر والثورة والمستقبل. كانا صديقين يحلمان بمستقبل أفضل لبلدهما الذي يتحدثان عنه بحب خاص مثل معظم المصريين، لم يخطر ببالي قط أن الصدفة المحضة سوف تجعلني أدير حوارا، هما الضيفان فيه، وهما على طرفي نقيض بعد انقلاب الثالث من يوليو.
بعد مفيش ظلم تاني ومفيش خوف تاني. أصبحت مصر اليوم توصف بجمهورية الخوف.
لم تكن ليبيا بعيدة. قال ظرفاء إن بن علي بعد ثلاثين عاما قال للتونسيين “فهمتكم”. بينما قال القذافي لليبيين بعد أربعين عاما “من أنتم؟”، فقالوا له “جايينك. جايينك في عقر دارك”، جاؤوه بالفعل وانتهت حياته نهاية مأساوية لم يرضها حتى بعض ألد أعدائه. لكنه ذهب إلى حيث لا تستطيع إعادته الثورة المضادة.
لكن رجال القذافي قرروا الظهور من جديد. قال الناطق السابق باسمه موسى إبراهيم إن جنوده يقاتلون الآن في ليبيا. وأكد أحد أبرز رجال القذافي، أحمد قذاف الدم الذي يعيش في مصر أن عائلة معمر القذافي تفكر الآن في العودة إلى ليبيا.
تخلص الليبيون من القذافي لكنهم لم يتخلصوا من تركته وما عاثه بينهم، ويبدو أن الطريق ما زال طويلا.
ورث بشار الأسد حكم سورية عن أبيه بعد تفصيل الدستور على مقاسه من مجلس شعب ديكوري. أكثر ما يجيد هو التصفيق الحاد للزعيم الملهم. بعد ذلك فقط بدأ جمال مبارك وسيف الإسلام القذافي وأحمد علي عبد الله صالح مساعي وراثة آبائهم في أنظمة غير وراثية، ويقال إن سعيد بو تفليقة يسعى إلى وراثة أخيه في الجزائر. بل إن ليلى كانت تسعى لوراثة زوجها بن علي بعد استشراء نفوذ الطرابلسية (عائلة ليلى بن علي) في تونس.
رغم كل ذلك استقبل معظم السوريين طبيب العيون الشاب بمودة وانتظروا منه خيرا. مثلما كان الحال مع مشروع سيف الإسلام القذافي، لكن هؤلاء أثبتوا أنهم نسخة من آبائهم.
كتب صبية صغار على جدران درعا. الشعب يريد إسقاط النظام. ففعل بهم النظام الأفاعيل. عذّبهم وخلع أظفارهم. وكان بالإمكان احتواء الأمر باعتذار لعوائلهم وعشائرهم. لكن بشار طغى وتجبر وأحرق الحرث والنسل. ثم ظهر ما يعرف بتنظيم داعش. وما أدراك ما داعش.
كان علي عبد الله صالح يعلم أن اليمنيين سوف يثورون عليه. حاول أن يتدارك الأمر فلم يستطع. فاته القطار. وهو الذي قال لليمنيين: “فاتكم القطار”، ارتكب من المجازر ما يندى له الجبين للحفاظ على كرسيه الذي ظل عليه أكثر من ثلاثين عاما.
عشت جزءا من طفولتي في صنعاء قبل الانتقال إلى لندن. ثلاثة من أبشع المجازر التي ارتكبها علي عبد الله صالح كانت في أحياء سكنتها. مجزرة جمعة الكرامة في الدائري. وأخرى قرب مدرسة الشهيد العلفي حيث كنت أدرس. والثالثة غير بعيد فيما يعرف بجولة كنتاكي.
ذهبت إلى صنعاء لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاما بعد إزاحة علي عبد الله صالح عن سدة الرئاسة، عندما عدت لصنعاء خصصت وسما للكتابة “#في_صنعاء_بعد_عشرين_عاما” عن مشاهداتي، ولاقى متابعة فاجأتني في وسائل الإعلام اليمنية، التقيت بأصدقاء الطفولة، إلا واحدا. قيل لي إنه أصبح من أكبر من يسميهم اليمنيون بـ”البلاطجة”. كان بلطجيا صغيرا في طفولته. لكنه كان ينتهي إذا قال له أحدهم عيب أو حرام. يبدو أنه تعلم ما ينسى به العيب والحرام.
أصدقاء الطفولة الآخرين كان منهم من يؤيد الإخوان المسلمين ومنهم من يؤيد صالح ومنهم ضابط في الجيش، ومن جمعني بهم كان الناطق باسم جماعة أنصار الله الحوثي. لم ألحظ في طفولتي في صنعاء فرقا بين سنة وشيعة. كان الجميع يصلون في المساجد ذاتها وما زالوا. شيء ما تغير. كثير منه دخيل من خارج اليمن. لكنني ما زلت أؤمن أن الحكمة يمانية. لو كان كل ما في اليمن من سلاح في بلد آخر لكانت النتيجة مختلفة تماماً.
على كل.. ما زلت أؤمن أن في الربيع أمل.
نقلاً عن العربى الجديد
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=32292
أحدث النعليقات