وثيقة عملية موسى
بقلم: روماى خليفة
لم يكن بالإمكان أن تتم عملية تهريب جماعي لبضعة آلاف من الفلاشا عبر الأراضي السودانية دون علم حكومتها ، ومن ثم بدأ البحث عن الوسائل التي تمكن الإسرائيليين من الاتصال بالرئيس السوداني ( جعفر النميري ) الذي لم يكن في البداية على استعداد لمثل هذه المخاطرة ، حتى استطاعت الأوساط الأمريكية – الإسرائيلية أن تجد الوسيط المناسب ألا وهو رجل الأعمال الثري ( عدنان خاشقجي ) الذي لم يتردد في أداء ما طلب منه شرط أن تتم الترتيبات بدقة بالغة لعدم إحراج النميري ، وأن يتم الاتفاق على نصيب المشاركين وطريقة الدفع ، وتمّ الاتفاق بالفعل ، وكان نصيب الرئيس النميري ( 56 مليون $ ) تمّ إيداعها في حساب سري باسمه في فرع لبنك أوروبي في روما ، كما كان لمساعدي النميري نصيب في تلك الصفقة وعلى رأسهم اللواء ( عمر الطيب ) نائب رئيس الجمهورية ، والدكتور( بهاء الدين إدريس ) مساعد رئيس الجمهورية لشؤون القصر ، وغيرهما ...
استطاع ( خاشقجي ) أن يرتب لقاء بين ( النميري ) و( آرييل شارون ) في قصر له في نيروبي ، حيث تمّ الاتفاق النهائي فاشترط النميري مشاركة المخابرات المركزية الأمريكية في العملية لسهولة تحرك عملائها في السودان ، وألا تتجه الطائرات التي ستقل الفلاشا إلى إسرائيل مباشرة ، وإنما تقلع من الخرطوم إلى أي بلد أوروبي وأن لا تظهر إسرائيل في العملية تماماً .
أقيمت المعسكرات في منطقة ( القضارف ) و ( تبواوا ) ، وهما من المناطق النائية على الحدود بين السودان وأثيوبيا ، وتمّ اختيار بعض السائقين لنقل الفلاشا بالسيارات حتى مطار الخرطوم على أن يكون دخولهم للمطار ليلاً ومن بوابات الحجاج حيث يتم نقلهم إلى بعض مخازن البضائع تحت حراسة مشددة أشرف عليها عقيد سوداني اشتهر فيما بعد بالعقيد الفلاشي وهو الفاتح ( محمد أحمد .
ولضمان نجاح العملية تمّ الاتفاق مع رجل أعمال يهودي بلجيكي يدعى ( جولتمان) يمتلك العديد من الطائرات للقيام بأداء هذه المهمة القومية الخطيرة ، ووضع على هذه الطائرات اسم شركة ( ترانس يوربيان ايرلاينز) – Trans European Airlines ، وكانت هذه الشركة تعمل على نقل مواد الإغاثة إلى السودان
فبعد أن تفرغ الطائرات حمولتها في الليل يتم شحن الفلاشا من مخازن البضائع وبمنتهى السرية ، وبعد أن تمّ إعداد جوازات سفر لهم تحمل تأشيرات دخول لبعض الدول الأوروبية خشية اكتشاف أمرهم وليسهل تبرير وجودهم على هذه الطائرات ، تتجه الطائرات من الخرطوم إلى بروكسل حيث تتزود بالوقود على أنها ترانزيت ، وتقلع مباشرة إلى تل أبيب بل وتمّ الاتفاق من باب الاحتياط مع وزير العدل البلجيكي وهو يهودي للتدخل إذا دعت الحاجة . وقد أشرفت قوات الأمن التابعة للرئاسة السودانية على إتمام وحراسة المنطقة ضماناً للسريّة .
وتمّ تحديد موعد الرحلة الأولى يوم 20/11/1984 ، وجرت الأمور حسبما تمّ الاتفاق تماماً وبدقة ، وتوجّه السفير الأمريكي إلى مطار الخرطوم ومعه ( هيري ديفر ) مسؤول الأمن بالسفارة حيث استقبلهم في المطار العقيد ( هاشم أبو رنات ) من ضباط مباحث أمن الدولة السوداني ومدير مكتب اللواء عمر الطيب ، والعقيد الفاتح محمد أحمد ، وقد جاء السفير للاطمئنان على سير العملية ولبعث الطمأنينة إلى قلب الرئيس النميري فأمريكا حامية للعملية بأسرها .
ونجحت بالفعل العملية الأولى التي استغرقت 12 ساعة منذ الإقلاع من الخرطوم إلى بروكسل للتزود بالوقود ثم تل أبيب . وبالرغم من السرية التي أحاطت بعملية موسى فقد استطاع أحد عملاء وكالة المخابرات المركزية العاملين في الخرطوم ويدعى ( ديدي كرنكولاتو ) عن طريق أحد عملائه العاملين في مطار الخرطوم أن يصور هذه العملية بكاميرا كانت واستطاع تهريبها من المطار رغم القبض عليه ، مما اضطر سلطات المطار إلى إطلاق سراحه خاصة وأنه يتمتع بحصانة ديبلوماسية كأحد العاملين بالسفارة الأمريكية في الخرطوم .
وقد بعث العميل الأمريكي الذي لم يكن على علم بالعملية بالفيلم إلى رئاسته وتمّ حفظه كدليل مادي وحيد على عملية موسى ، كما يتم إبعاد العميل ذاته عن السودان بعد أن كسر حاجز السرية دون تكليف له من قبل قيادته
وأثناء القيام برحلة تهريب أخرى في 21 / 12 / 1984 ، استطاع ( صلاح عمار ) أحد المفتشين بمطار الخرطوم أن يستمع عبر جهاز اللاسلكي الخاص به نداءات اشتبه فيها ، وأدرك مصدرها ، فأرسل أحد رجاله لاستطلاع الأمر إلا أن حراس الطائرة منعوه من الدخول بل وضربوه . ثم عاد إلى رئيسه الذي اتصل بكبير المفتشين ويدعى ( صلاح مهنا ) وأخبره بالحادث حيث صدرت الأوامر بعدم السماح للطائرة بالإقلاع بل وطلبوا تفتيش الطائرة للتأكد . وأخبر قائد الطائرة العقيد الفاتح بالأمر فطمأنه ، ثم توجّه إلى مكتب كبير مفتشي المطار حيث هددهم وتوعدهم وأمرهم بالاتصال ببرج المراقبة فوراً والسماح للطائرة بالإقلاع وكتمان السر تماماً ، وبالفعل أقلعت الطائرة .
وشاءت الأقدار أن يطلع آخرون على أسرار عملية تهريب الفلاشا عبر الخرطوم ، إذ بينما كان يقوم أحد الخفراء بدوريته الروتينية للتأكد من سلامة المخازن وإغلاقها سمع أصواتاً آدمية تنبعث من أحدها ، فاعتقد أن هناك لصوصاً بالمخزن وهرول مسرعاً إلى ضابط الأمن بالمطار الذي أمر قواته بمحاصرة المخزن وفتحه والقبض على اللصوص . وكانت المفاجأة أن يندفع من المخزن أناس في حالة إعياء تام ، فقام المسؤول بنقلهم إلى مراكز الإسعاف حيث تسرّب الغاز من أحد الأنابيب الموجودة بالمخزن وأدّى إلى إصابة البعض .
وحضر العقيد الفاتح ليفاجأ بما حدث وجمع· كل من حضر الواقعة ووجه إليهم إنذاراً بتوقيع أشد العقوبات عليهم ، ولكن ما كان بالإمكان تكميم أفواه العشرات ممن اطلعوا على الأمر سواء في المطار أو في مراكز الإسعاف من الأطباء والعاملين ، وسقط حاجز السرّية ، والفضل للقضاء والقدر .
وبدأت بعض الأنباء تتسرب إلى وكالات الأنباء وإلى الصحف العالمية ، واعترف متحدث رسمي في مؤتمر صحفي يوم 6 / 1 / 1985 ، بأن إسرائيل قد نقلت بالفعل الآلاف من الفلاشا إلى إسرائيل إلى أنه لم يكشف عن تفاصيل العملية ومن شارك فيها .
ولم يكن أمام الرئيس ” النميري ” إلا أن يأمر بوقف العملية طالباً من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية الامتناع عن كشف دوره في تهريب الفلاشا ، كما سارع ( منجستو ) رئيس الحبشة إلى إدانة العملية التي تمّت دون علمه ، مما يعد اعتداءاً على سيادة الدولة ، وقدّم احتجاجاً إلى الحكومة السودانية لمشاركتها في العملية ، ولم تمض سنوات قليلة حنى أعاد ( منجستو ) علاقاته بإسرائيل بعد انقطاع دام 12 سنة . كما بدأت أثيوبيا تسعى لعقد صفقة مع إسرائيل تسمح فيها بتهجير الفلاشا مقابل السلاح والمستشارين العسكريين والزراعيين ، بل لقد سمحت أثيوبيا لإسرائيل بإقامة قاعدة تنصت في إحدى الجزر الأثيوبية في البحر ، ظاهرها خدمة أثيوبيا ضد حركات التحرر في إريتريا ، وباطنها التجسس الإلكتروني على السعودية واليمن ، وبالفعل بدأت عمليات التهجير فور وصول أول شحنة من الأسلحة الإسرائيلية إلى أثيوبيا.
هذه الوثيقة نقلها لكم / روماي خليفة
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=69
أحدث النعليقات