وداعا لمعلم الأجيال الأستاذ عبدالله كرار إلى مثواه الأخير
بقلم د- إدريس جميل
أنتقل إلى جوار ربه المربي الفاضل معلم الأجيال الأستاذ عبدالله كرار محمد هداد ركا وافته المنية يوم الأثنين الماضي في لندن ووري بالأمس إلى مثواه الأخير ، اللهم أغفر له وأرحمه ، وعافه وأعف عنه ، وأكرم نزله ووسع مدخله ، وأبدله دارا خيرا من داره ، واشمله بعفوك وأدخله فسيح جناتك ، وأرفع مقامه في العليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا . إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شئ عنده بأجل مسمى ، رحم الله الأستاذ عبدالله رحمة واسعة . ويعطي أهله الصبر والسلوان ، تعازينا لأسرته الصغيرة ولإخوانه وأخواته ولجميع آل محمد هداد ركا .
الأستاذ عبدالله هو سليل أسرة جاه وعلم ومن جيل رواد التعليم في إرتريا ، درس المراحل الثلاثة الإبتدائي والمتوسط والثانوي في إرتريا والجامعة في إثيوبيا . وعمل في السلك التعليمي لعشرات السنين تنقل للتدريس إلى مختلف المناطق الإرترية من أغردات في بركة إلى عدة مناطق في المرتفعات ، و في أديس أبابا وفي جنوب إثيوبيا ، وبعدها عاد إلى مصوع ثم أسمرا وفي غالب هذه المدراس كان يشغل منصب المدير فيها . وفي نصف الأخير من السبعينيات القرن الماضي و عندما أصبح الأمر في إرتريا لا يطاق بسبب التغول الإثيوبي ، غادر الأستاذ عبدالله إرتريا إلى السودان ثم إلى السعودية وعمل في السعودية لسنوات . ومرة أخرى غادر السعودية متوجها إلى المملكة المتحدة واستقر به المقام في لندن . و في المملكة المتحدة عمل في مجال الترجمة في قسم الهجرة وشؤن اللاجئين لسنوات طويلة حتى وافته المنية رحمه الله رحمة واسعة .
أنني لم أقابل الأستاذ عبدالله في إرتريا لصغري سنى عندما كان هو هناك لكن سمعت عنه كثيرا من طلابه وحسبما أذكر ذكر لي أحد الأخوة إن أستاذ عبدالله كرار هو الذي رشحه للذهاب إلى مدرسة ونجد ( winged ) عندما كان الأستاذ مدير مدرسة أغردات.
على العموم قابلت الأستاذ عبدالله لأوّل مرة في لندن قبل خمسة عشرة عاما بعد وصول إليها بأسبوعين . و كان قد حددت لي مقابلة في مكتب الهجرة للنظر في طلبي اللجوء في المملكة المتحدة . وقد حضرت في الموعد المحدد جلست قليلا في الاستقبال وبعدها طلب منى للدخول في أحد المكاتب ووجدت فى داخل المكتب شخصين إحدهما كان شاب إنجليزيا من ذوي البشرة البيضاء وهو كان المسؤل عن ملفي في قسم الهجرة ، أمّا الثاني فكان رجل كبير أسمر ذات شخصية مهابة أنيق الملبس . عندما جلست في الكرس نظر إليّ وابتسم ، و قلت في نفسي ملاح هذا الشخص غير غريبة عني . وتحدث إليّ الشاب الإنجليزي فقال لي هل تتحدث الإنجليزية ؟ فقلت له نعم ، فقال حسنا إذا تريد أي مساعدة في الترجمة فمعنا أحد أفضل المترجمين في المكتب وهو السيد عبدالله كرار وحينها تفرست في وجهه وملامحه وتؤكدت أنّه من أسرة العم كرار محمد هداد . وأثناء المقابلة لم ينطق الأستاذ عبدالله بكلمة لأنني لم احتاج للترجمة ولكن كان يراقب الحديث بيني وبين المسؤل و من خلال الأسئلة هو أيضا عرف من أنا ومن أين وتفاصيل أخرى كثيرة عن حياتي . ومن تقاطع وجهه كان يبدوا مرتاحا من أجوبتي وأنا أيضا تفائلت به بسبب الإيجابية التي لاحظتها في وجهه .
وبعد ساعتين تقريبا انتهت المقابلة وغادرت المكتب . وبعدها بأيام قليلة قابلته في مناسبة أحد الأخوة وسلمنا للبعض . فاعتقد يومها لم أتعرف عليه ، فباذرني بتعريف بنفسه فابتسمت فقلت له أستاذ عبدالله الاسم والأسرة معروف لديّ . فرمى إليّ بعض الكلمات المزاحية بأسلوبه اللطيف فضحكنا . وبعدها سألني عن أحوالي وما أنوي فعله . وأنا بدوري أستفسرت منه بعض الأمور بحكم أنني كنت جديد في البلد فأرشدني في بعضها ونصحني في الأخرى . ومن بعدها كنا نتقابل بين فترة وأخرى . إلى أن سكنت في المنطقة التي كان يسكن فيها وتوطدت علاقتنا ,وأصبحنا نتقابل على الأقل مرة في الشهر وغالبا يكون يوم الأحد ، نشرب معا قهوتنا المفضلة في قهوة معروفة في شارع هلوي رود (Holloway Road ( ونتجاذب أطراف الحديث في مختلف الأمور وكان الأستاذ عبدالله واسع الإطلاع و يتميز بوضوح الرؤية ، عميق في تفكيره ونقاشه ، صادق لا يجامل أحد فيما يعتقده الصواب ، ومن صفاته الترفع عن سفاسف الأمور لكن في نفس الوقت لا يقبل الضيم . صاحبة شخصية قوية مهابة يخاف منه الناس حتى يقترب منه لكن عندما تقترب منه نجده سهلا متواضعا كريما بشوش الوجه . يجمع بين الجدية والفكاهة الهادفة . وكانت له القدرة في تحليل سلوك الشخصية الإرترية و تفسيره الظواهر الاجتماعية أخرى في إرتريا ربما كان ذلك عائد إلى مهنته التربوية وتخصصه لكن في نفس الوقت كان قارئ جيد خارج تخصصه أيضا ، وذات مرة في أثناء التقاش ذكرت له بحكم التخصص أمهات الكتب في الفكر السياسي ، و إذا به قرأ الكثير منها و بدأ يناقشني في مضمونها لاحظت من خلال النقاش يملك لها قراءات ثاقبة وكان ذلك مفاجئة لي لأنني لم أقابل أحد غير متخصص في الفكر السياسي قرأ هذه الكتب . وعندما قرأ أحد كتبي أيضا قدّم لي قراءة نقدية كم استفذ من استدراكاته القيمة من تصحيح المعلومات وإرشادي في مواطن الخطأ والنقصان في الكتاب .
الأ رحم الله الأستاذ عبدالله رحمة واسعة وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره تقول لك يا معلم الأجيال وداعا إلى جنات الخلد بإذن الله ” الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ”
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=44393
أحدث النعليقات