وقفـة مع الـذات
على هامش احتفالات شعبنا بالذكرى الرابعة عشر للتحرير
” الجـزء الثـاني “
بقلم / نجاش عثمان
كنا توقفنا في الجزء الأول من هذا المقال عند الحديث عن انفراد النظام الإرتري بصياغة الدستور الإرتري وإخفاق المعارضة الإرترية في التصدي له وكشف توجهاته أمام الرأي العام الإرتري والدولي. وفي الجز الثاني سأتناول التطورات التي شهدتها المعارضة الإرترية منذ ذلك التاريخ.
بعد أن اتضح جليا أن قيادة الجبهة الشعبية أدارت ظهرها لتطلعات الشعب الإرتري وقواه السياسية، وبدأت تسرع الخطى باتجاه ترسيخ دعائم نظامها الديكتاتوري، أصبح الأمر ملحاً أن تقوم المعارضة الإرترية بدراسة موضوعية لطبيعة النظام وتوجهاته، بعيداً عن ردود الأفعال، لتصل إلى تعريف محدد لملامح النظام يساعدها في تحديد أشكال مواجهته.
لاشك أن الوضع لم يكن ممهداً كما ينبغي ، ولا الأرض كانت مفروشة بالورود، لأن قطاعاً كبيراً لا يستهان به من الجماهير الإرترية كان يعيش لحظات النشوة بالانتصار ولم يكن قد استفاق بعد ليعرف طبيعة النظام، وكذلك فإن عدداً من قيادات وكوادر أساسية في الثورة، وخاصة من أبناء تجربة جبهة التحرير الإرترية، كانوا قد عادوا إلى الوطن على أمل أن يساهموا في عملية إعادة البناء والتعمير ووضع اللبنات الأولى لنظام ديمقراطي، إلا أن النظام، انطلاقاً من عقليته الاقصائية أوصد الباب أمام هؤلاء الوطنيين، مما دفع الكثيرين منهم إلى العودة من حيث أتوا وانضم بعضهم إلى معسكر المعارضة وبدأ يؤدي دوره الوطني. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن المعارضة الإرترية كانت تعاني أيضاً حصاراً إقليميا ودولياًّ أعاق إلى حد كبير تحركها السياسي. وعلى الرغم من أن الظروف الموضوعية كانت كما ذكرت، إلا أن تجربة النضال الإرتري توضح لنا أن الإرتريين بفضل صمودهم ونضالهم الدؤوب استطاعوا أن يتغلبوا على الظروف الموضوعية التي كانت غالباً ضد تطلعاتهم. وعليه فالسؤال الذي يفرض نفسه علينا هو هل القوى السياسية المعارضة وقفت على هذه الأوضاع وقيمتها، لتتمكن من ابتداع أنجع السبل النضالية ضد الديكتاتورية في إرتريا.
لا أعتقد أن الكثيرين يختلفون معي في القول إن خصائص الوضع الإرتري بعد التحرير اختلفت جذرياًّ عن الوضع قبله، حيث كان العدو حينها واضحاً ووسائل مواجهته أيضاً كانت واضحة ومحددة. أما بعد التحرير واستلام قوة إرترية مقاليد السلطة في البلاد، وإخضاعها لجزء كبير من شعبنا- طوعاً أو قسراً – تحت إدارتها، قد جعلت المهمة صعبة. ولا يمكن أن نغفل ونحن بصدد الحديث عن النضال ضد النظام القائم، أن شعباً اكتوى طويلاً بنار الحرب الأهلية واستنفدت طاقاته في الصراعات الداخلية، ليس من السهل عليه القبول بالانضمام إلى الحركات المعارضة، بل قد تنطلي على جزء منه دعايات النظام وسياساته التضليلية بتصوير كل معارضيه بأنهم ليسو سوى حفنة من المتعطشين للسلطة أو المرتبطين بجهات خارجية. إذاً، ومادام الأمر كذلك، ألم يكن من الأجدر بالمعارضة أن تجدد خطابها السياسي وتطرح برامج توائم الواقع الجديد، وتبني آليات عمل ناجعة لتنطلق من ثم إلى العمل المكثف لتوعية الجماهير وتعبئتها.
يؤسفني أن أقول أن المعارضة الإرترية أخفقت مرة أخرى في التقاط الإشارات التي بدأت تلوح في أفق ساحة العمل السياسي الإرتري، وظلت متشبثة لأبعد الحدود بخطاب ما قبل التحرير، معتقدة أن استعادة ذكريات وتاريخ الصراع بين جبهة التحرير الإرترية والجبهة الشعبية كاف لبث روح الحماسة في نفوس الجماهير، وخاصة جماهير جبهة التحرير الإرترية. علماً أن هذه الجماهير كانت محبطة بسبب عجز فصائل جبهة التحرير من إعادة توحيد نفسها أو على أقل تقدير التنسيق فيما بينها. وحتى أتجنب العمومية في الحديث أود أن أشير إلى أن مهام المرحلة كان يفترض أن تتلخص -حسب رأيي – في التالي :
1-كشف النهج الديكتاتوري للنظام أمام الرأي العام الإرتري والأجنبي.
2- توضيح الفرق للقطاع الذي تم تضليله من الجماهير الإرترية بين مفهومي الدولة والحكومة. فكثير من الإرتريين يعتبرون أن الأمرين سيان. وبسبب هذا الخلط بينهما يرون في معارضة حكومة الجبهة الشعبية بمثابة الوقوف ضد الدولة ( الوطن ).
3- إقناع الجماهير الإرترية أن نظام الحزب الواحد سيلحق ضرراً بإرتريا وشعبها، وقد يعرضها إلى التمزق والانهيار. وكذلك العمل على تحفيز الجماهير للانحياز لخيار المقاومة الهادفة إلى إقامة نظام ديمقراطي بديل.
كما تابعنا جميعاً عجزت فصائل المعارضة الإرترية من التوصل إلى تعريف مشترك لطبيعة النظام ووسائل مواجهته. فبينما كان يرى البعض منها بأن نظام الجبهة الشعبية هو نظام طائفي يمثل فئة من الإرتريين ويمارس تمييزاً منهجياًّ ضد فئة أخرى ( دينية كانت أم إقليمية)، كان البعض الآخر يكتفي بتصنيفه بأنه نظام ديكتاتوري يمارس، مثله مثل غيره من الأنظمة الديكتاتورية، سياسة “فرق تسد”، قد تتبدل وفقاً لتبدل الظروف ومعطيات الواقع وتوازن القوى داخل النظام نفسه. وفي حين تبنى بعضها العنف وسيلة لمواجهة النظام رأى البعض الآخر منها العمل من خلال الوسائل السلمية والعمل الجماهيري.
لم يكن هذا الاختلاف، في اعتقادي، عائقاً يحول دون تكتل المعارضة على أساس برنامج الحد الأدنى، كما حدث مؤخراً. ويذكرنا، نحن الإرتريين، هذا، بالجدل العقيم في مرحلة النضال المسلح، عندما كانت التنظيمات تشغل نفسها بتحديد طبيعة نظام الدرق، حيث كان البعض منها ينعته بالفاشية، والبعض الآخر بنظام ذي طبيعة فاشية باعتبار أن كلمة الفاشية – حسب فهم المتبنين لهذه الفكرة – مصطلح يطلق على نظام استبدادي في أعلى مرحلة من مراحل النظام الرأسمالي. إن الأمر، في اعتقادي، يتعلق بعقلية الهيمنة وفرض الرأي أكثر منه بصراع حول رؤى فكرية مختلفة. وحتى لو افترضنا،جدلاً، ذلك فالأمر لا يعدو عن كونه ترف فكري لا يتلاءم مع المعاناة التي كان يقاسيها شعبنا من قوات الاحتلال الإثيوبية آنذاك.
وبالعودة إلى موضوع اختلاف التنظيمات المعارضة في تحديد طبيعة نظام الجبهة الشعبية، أود أن أؤكد بأن معظم القيادات الإرترية كانت بعيدة عن الواقعية والتعبير عن نبض الجماهير الإرترية التي كانت تطالب بإلحاح شديد بضرورة توحيد طاقات فصائل المعارضة لمواجهة صلف وتسلط قيادة الجبهة الشعبية وصولاً إلى إسقاطها وبناء نظام تتمتع في ظله بالديمقراطية والعدالة والمساواة.
وفي هذا السياق أود أن أشير إلى المناقشات التي كانت تدور في معظم اجتماعات التنظيم الذي انتمي له، وخاصة أثناء اللقاءات مع العناصر القيادية. في هذه الاجتماعات كانت الغالبية العظمى من القواعد تلح على ضرورة قيام تحالف بين فصائل المعارضة لإسقاط النظام، بل إنني أتذكر جيداًّ عندما كان البعض من الأعضاء يطالب بالتحالف حتى ” مع الشيطان ” لمواجهة إسياس وزمرته وتحقيق المصالح الوطنية العليا. في حين أن بعضا من القيادات في تنظيمنا كانت تحاول أن تبث الخوف في نفوسنا من خلال الزعم بأن أي تحالف مع بعض القوى، وخاصة مع الحركات الإسلامية، سيلحق ضرراً بالغا بإرتريا وشعبها، أكثر بكثير مما يسببه استمرار نظام الشعبية من أضرار. فضلا عن ذلك كان يدعي هؤلاء أن جماهير التنظيم ستنفض عنه في حالة مغامرة التنظيم وإقدامه على التحالف مع هذه القوى. كما كان هناك بعض القيادات والكوادر يرون بأن العمل مع اتجاهات تحمل برامج دينية قد يؤدي إلى إحداث شرخ في جدار الوحدة الوطنية. وأود التأكيد في هذا المقام أن تنظيمنا لا يتحمل وحده نتيجة فشل قوى المعارضة في تحقيق الاتفاق فيما بينها. بل أن الحركة الإسلامية نفسها كانت لما تزل تتعامل مع الواقع السياسي بطرح يفتقر إلى الواقعية.
وبسبب التسويف وصياغة مبررات واهية لقيادات المعارضة، أضعنا، للأسف الشديد، فرصاً تاريخية نادرة لجمع شمل المعارضة وتصعيد النضال ضد النظام الديكتاتوري.
وبعد إلحاح شديد من الأعضاء أصدرت قيادة تنظيمنا مشروعا يتضمن أربع نقاط تدعو فيه إلى إقامة جبهة وطنية عريضة على أساسها. وقد جرت حينها حوارات بين مختلف القوى السياسية الإرترية، إلا أن العقبة المتمثلة في التعامل مع الحركة الإسلامية ظلت قائمة، وأدت إلى تعثر التوصل إلى الاتفاق. وفي تلك الأثناء توصلت ثلاثة تنظيمات هي : جبهة التحرير الإرترية، وجبهة التحرير الإرترية – المجلس الوطني، وحركة الجهاد الإسلامي الإرتري إلى اتفاق أقامت بموجبه “التحالف الوطني الإرتري”. واعتبرت شخصياًّ هذا الأمر خطوة متقدمة باتجاه لملمة كافة قوى المعارضة، وكتبت حينها مقالاً نشر في مجلة ” إرتريا الديمقراطية ” لسان حال تنظيمنا جبهة التحرير الإرترية – المجلس الثوري، تحت عنوان (( خطوة متقدمة .. ولكن ))، أشيد فيها بما تحقق بين التنظيمات الثلاثة، متوجهاً بالدعوة إلى تنظيمي ليكون جزءاً من ذلك التحالف الثلاثي باعتبار أن ميثاق التحالف يتفق إلى حدٍّ كبير مع مشروع الوحدة المطروح من قبله. كما أثيرت حينها مناقشات مكثفة حول هذا الموضوع، كان أبرزها ما جرى في مهرجان إرتريا في كاسل، حيث تابع الجميع تباين الرؤى بين البعض من قيادتنا والدكتور تسفاظيون مدهني استمرت تداعياته إلى فترة قريبة. واستمر الجدال حاميا داخل التنظيم نفسه بين غالبية الأعضاء، إن كانت في القيادة أو القاعدة، التي كانت ترى أهمية وضرورة أن يصبح التنظيم جزءاً من التحالف الثلاثي، وبين فئة موجودة في النسق الأعلى من القيادة وقفت حجر عثرة أمام تحقيق مطالب الأغلبية في التنظيم. إلا أن ما كان يميز التنظيم، عن بقية القوى والمجموعات السياسية الإرتري،في رأيي، هو إتاحته الفرصة واسعة أمام مختلف الآراء لتعبر عن نفسها بأشكال مختلفة.
وبالمقابل أظهرت الحركة الإسلامية الإرترية أيضاً بعض التقدم في طرحها، بعد أن عايشت صراعاً واضحاً بين تيارتها المختلفة، إلى أن تمكنت تيارات الاعتدال والوسطية داخلها من دفع الحركتين الإسلاميتين باتجاه تبني خيارات تصالحية مع القوى السياسية الإرترية الأخرى. وتابعنا جميعاً الخطوات الجيدة التي اتخذتها في هذا الصدد وإحداثها تغييرات ذات مدلول كبير في برامجها وهياكلها و تسميتها. ويرجع سبب هذه التحول، حسب رأيي ، إلى تغير الوضع الدولي والإقليمي من ناحية، ومن ناحية أخرى الدور الإيجابي الذي لعبته قواعد الحركة التي بدأت تكسر الحواجز وتنفتح على قواعد التنظيمات الإرترية الأخرى، فضلا ً عن كوادرها وقياداتها المعتدلين.
وبالعودة إلى النظام الإرتري، فقد أمعن في قمعه لشعبنا وتمادى في سياساته الرعناء، داخلياًّ وخارجياًّ، إلى أن انفجرت بينه وبين حليفه السابق النظام الإثيوبي حرب ضروس، وضعت إرتريا والمنطقة عموماً أمام مهب الريح. فكان لا بد لهذا الزلزال أن يفرض على قوى المعارضة قاطبة وضعاً جديداً لتتداعى وتجلس معاً لتبحث عن الوسائل الكفيلة لمواجهة الأوضاع الجديدة. وبعد حوارات طويلة ومضنية تم التوصل في مارس 1998 إلى اتفاق تم بموجبه ميلاد ” تجمع القوى الوطنية الإرترية” الذي ضم في صفوفه كافة القوى السياسية المعارضة آنذاك. وأخيراً اعتقدنا جميعاً بأن حلم الجماهير قد تحقق بقيام هذا التجمع، وكان التأييد الجماهيري الكبير الذي حظيه التجمع خير دليل على أن الإرتريين تواقون دائماً للوحدة، ويرنون إلى رؤية ساعة الخلاص من النظام الديكتاتوري الجاثم على صدورهم. ورأينا جميعاً تصاعد وتيرة العمل الجماهيري المعارض تجسدت في الندوات السياسية المكثفة والمظاهرات السلمية التي انتظمت عواصم كثيرة من العالم. وكان التوقعات على نطاق واسع أن قيادات المعارضة قد دخلت مرحلة جديدة في العمل وتجاوزت فيها الصراعات التنظيمية الضيقة التي طبعت العمل السياسي الإرتري لعقود، وسوف تستغل هذا الدعم الجماهيري الكبير في إحداث التغيير الوطني المنشود. فهل كانت قيادة التحالف بمستوى تطلعات الجماهير وتحديات المرحلة. هذا ما سأحاول أن أجيب عليه في الجزء الثالث من هذا المقال.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6449
أحدث النعليقات