ارتريا : عقد ونيف من الاستقلال المغشوش
تداخل الحرب والعنف فى دولة العبودية المعممة
بقلم / محمد محمود حامد
المانيا
أحتفلت ارتريا فى الرابعة والعشرين من مايو المنصرم ، بمرور عقد ونيف على اعلان استقلالها من الاحتلال الاثيوبي ، الذى دام أكثر من أربعين عاما استغرق فترة نضالية مماثلة من النضال السلمي والمسلح ، فى ظل بيئة دولية معادية لحق الآرترين فى تقرير مصيرهم ، مما حرم قضيتهم من أي دعم أو سند دولى ، ولم يتوقف الأمر عند الحرمان من السند أو الدعم ، بل أن بعض القوي الدولية وخاصة الولايات المتحدة الامريكية ، واسرائيل ، ولاحقا الاتحاد السوفيتي السابق ، قد ساهما مساهمة مباشرة فى الصراع ضد الشعب الارتري ، بتدريب عدوه ، وتسليحه ، وتزويده بالمعلومات الأمنية والمساعدات الآقتصادية .
فى ظل هذا التوطؤ الدولى المعلن ضد الحق الارتري ، أو فى أحسن الاحوال الاتفاق على تجاهل هذا الحق ، لم يكن أمام الآرترين مجالا سوى الاعتماد على أنفسهم ، وعلى دعم محدود ومتقطع قدمته لهم الدول العربية ، وخاصة سوريا ، والعراق ، ومنظمة التحرير الفلسطينة الذى منع رئيسها الشهيد عرفات من المرور بالاجواء الارترية بعد الاستقلال كمكافأة له على هذا الدعم .
ونتيجة للبيئة الدولية المعادية لحق الارتريين ، وامكانياتهم الذاتية المحدوده ، وتكالب الاعداء ضدهم ، والشروخ فى الوحدة الوطنية الارترية ، كان نضال الارترين نضالا قاسيا ، مرير ، مكلفا ، أبتلع حياة أجيال عديدة من الارترين فى جبهات القتال ، وفى سجون الاحتلال ، وفى المجازر التى نفذها الاحتلال ضد المدنيين الارتريين ، فأجبرهم الى اللجؤ خارج بلدهم ، فتلقفتهم فى مناطق اللجؤ ، الامرض ، والاوبئة ، والمجاعات ، ودمر روحهم الحنين الى وطن غادروه ولايعرفون متى يعودون اليه ؟
وطن تردد حكايات اللاجئين فى الليالي الباردة أنه ليس وطن ككل الاوطان ، بل وطن خالى من الشرور ، والشر الوحيد فيه هو الاحتلال ، وبزواله سوف تتخلص الحياة الارترية من جروحها ، وتعود الى صورتها الاولى التى تكررها حكايات اللاجئين ، دون أن يؤكدها التاريخ .
بعد نضال طويل وصعب جاء الاستقلال ، الذي نسجت حوله حكايات وحكايات ، وأوهام وامال بلاحدود ، لا ليؤكدها ، بل لينفي جميع حكايتنا وأحلامنا عنه حتى فى أبسط صورها . وليؤكد لنا أن زمن الاحتلال كان بالفعل زمن للشر ، لكنه شر بثقوب ، مكنتنا من التمرد عليه ، ومقاومته والانتصار عليه ، ، فجاء الاستقلال وأبقي على الشر ، وأغلق نوافذ التمرد عليه ، وجعله طليقا ، ومعمما ، فصادر ارادتنا ، وقدرتنا ، على التمرد والاحتجاج ، وبذلك تحول ( الاستقلال ) الى قوة رسوبية تجر الارتريين الى ماوراء أزمنتهم المغبرة ، وفرض عليهم زمن مفتوح على الموت ، أساسه قيم العنف والحرب ، والاقصاء ، تتربع فى قمته نخبة مكشوفة العورات ، تنقصها فضيلة التوادع ، تصدم بالمشكلات ولاتراها ، تفتقد القدرة على الحركة والنشاط اذا لم تستنشق دماء من تحكمهم ، بارعة فى خلق التمايز المنتج للصراعات فى داخل مجتمعها فتفككه دون القدرة على جمعه ، ينحصر انجازاتها فى تحويل البلاد الى مكب للنفايات السياسية ، وخلق دولة مجردة من قيمتها الحقوقية والاخلاقية ، تتخذ من الحرب ضد شعبنا وجيرانها كمهنة دائمة لها ، حروبها تفتقد لآ ي معنى وطنى ، لانها ليست حروبا دفاعية فرضتها مقتضيات الدفاع عن السيادة والاستقلال الوطنى ، بل هى استمرار فى تطبيق أيديولوجية العنف المطلق التى هى الايديولوجيه شبه الرسمية للحزب الحاكم منذ تأسيسه ، والذى خرج الى الوجود من الرأس الدموي لمؤسسة ، الحاكم الحالي لارتريا . والذي كان يؤمن منذ بداية حياته السياسية ايماننا مطلقا، بعدم جدوى الحوار ، والحلول الوسطية ، فى أي خصومة سياسية . والعنف كان وسيلته المفضلة ومازال للتعامل مع أي خصومة سياسية . لانه يرئ في العنف اختصار للزمن ، ووسيلة مضمونة للانتصار على الخصوم ، ثم أنه لايؤمن بالاساس يوجود خصومة سياسية ، وكل خصم سياسي فى وجهة نظره هو عدو ، والسلوك الاعدل مع العدو هو ابادته ، فجعل من جميع خصومه أما أمواتا تحتويهم قبور مجهولة المعالم ، أو اسكانهم فى أقبية يتمنون ساكنيها فى كل لحظة من حياتهم الانتقال الى القبور ولو كانت مجهولة المعالم .
والحزب الذى أسسه كترجمة عملية لهذه العقلية الآستئصالية ، قام منذ تأسيسه كبنية تسحتكم العنف فى علاقاته الداخليه وفى علاقته مع الاخر، وجميع أعضائه الذين حاولوا أن يخرجو على هذه البنية أو يعدلوا من حدتها ، على الاقل ، تم تصفيتهم تحت مسميات مختلفة . وتطبيقا لاستحكام العنف فى العلاقات الداخلية ، كان كل عضو فى هذا الحزب يراقب العضو الاخر – والكل يخضع لرقابة الرجل الاول ، ومن يخرج على هذه القاعدة تحصده ألة العنف بلا رحمة .
والاخر فى مفهوم هذا الحزب هم جميع الارترين الذين لايرتبطون معه بصلة مباشرة ، وهم الموضوع المفضل لعنفه ، ففى فترة النضال ضد الاحتلال أخضع المواطنين الذين كانوا يسكنون فى مناطق تواجده الى عنف يومي ، يصادر حياتهم الطبيعية . وكذلك مارس العنف ضد الفصائل الوطنية الاخري التى حاولت أن تري المشكلة الوطنية من زاوية مختلفة ومتعارضة مع رؤية هذا الحزب ، واذا لم يكيفه عنفه الخاص فى تحقيق أهدافه لايتورع من استعارة عنف الاخرين ، كما فعل فى صراعه ضد جبهة التحرير الارترية عندما استعار بعنف أبناء عمومته ، قبل أن يكتشف فى حروبه الاخيرة معهم ، انهم من جنس منحط لا يجوز أن يكون حاكم من صفوفهم .
بعد الاستقلال تعاظمت أيديولوجية العنف ووصلت الى مجدها الطليق ، وكان أول ضحايا لها المسلمون الارتريون ، وقصة المسلمين الارترين مع الحزب الحاكم هى قصة ملتبسة الى حد كبير ، مغطية بكثيرمن الكذب، والتضليل ، والتلفيق ، فهو لم يعدهم منذ تأسيسه ضمن قاعدته البشرية ، بل استخدمهم كمكياج اضافى للتغطية على وجهه الطائفى ، المستتر بشعارات وطنية براقة ، وحادة ، وليظهر أمام الارترين كحزب وطني يضم فى صفوفه جميع الارترين دون تمييز بينهم ، لكن بعد اعلان الاستقلال ، ووصوله الى الحكم ، لم يعد بحاجة الى هذا المكياج لسببين : اولا انه استولى على السلطة فى الدولة المستقلة دون منافس أو شريك له ، وثانيا : أنه كان مضطرا لتطبيق برنامجه الحقيقي غير المعلن ، مما جعل من هذا المكياج معرقلا دون أن يؤدي وظيفته السابقة . وبما أنه لايستطيع ان يتجاهل كم من البشر يشكلون نصف سكان البلاد ، أوجدلهم وظيفة تجنبهم البطالة وتنحدر بهم الى الدرجة الثانية ، فجعلهم أداة للقيام باعمال السخرة والحرب ، مع الحرمان التام من جميع حقوقهم الثقافية والسياسية ، فلا تجد منهم شخص ذي قيمة في مراكز القرار المختلفة ، بل الأمر أسوأ من ذلك ، لا تجد أسم مسلم له قيمة حقيقية حتى في صفحة الرياضة ، والجرائم ، والوفيات ، التي تنشرها الصحيفة الوحيدة في البلاد ، ومن أعترض من المسلمين علي هذه الوضعية وهم كثيرون ، تم تصفيتهم سراً ، أو أرسلوهم إلي معتقلات لا يعرف مكانها إلي الله ، والسلطة ، يتلاشون فيها بصمت .
المسلمون الإريتريون علي الرغم من أنهم ضحوا كثيراً في سبيل استقلال هذه البلاد ، وليس لديهم ما يخجلون منه بهذا الصدد ، وكانوا الضحية الأولى للاحتلال الإثيوبي ، كرر التاريخ نفسه معهم فجعلهم الضحية الأولى لدولة الاستقلال فكان نصيبهم من الاستقلال أشد رذائله فتكاً المتمثلة في أعمال السخرة والحرب ، وعلي الرغم من وضوح هذه الصورة فالبعض يكثر عليهم حتى صفة الضحية الأولى ناهيك عن الضحية الأكثر تضرراً .
لكن يبقى العنف الأكثر سواداً والذي سوف تحمله أجيالا عديدة من الإريتريين كعار ، والذي يشير بوضوح لا لبس فيه إلي الانحطاط الأخلاقي للنظام السياسي الإرتري ، هو عملية القتل العلني التي نفذت ضد جرحى حرب التحرير الإريترية ، فهؤلاء عندما قاموا بمسيرة سلمية للمطالبة ببعض مطالبهم الحياتية ، تصدت لهم قوة من النظام ، وقتلت منهم ما تيسر لها . واعتقد أن هذه سابقة في التاريخ لم يقدم عليها أحد من قبل ، وتستطيع الطغمة الحاكمة في إريتريا ، أن تسجلها بإسمها كأنجاز تاريخي لها فجميع انجازاتها التاريخية كاذبة عدا هذا الانجاز .
مع إزدياد عمر النظام ، أصبح القمع أكثر شمولاً ، وأدخل في دائرته جميع الإريتريين إلي درجة الشمول ، فأصبحت الحياة الإريترية في جميع أركانها تدور في دائرة العنف المغلق الذي أصبح له وجهان وجه داخلي ، وأخر خارجي ، والوجه الداخلي يتلخص في فرض الطابع العسكري في الحياة اليومية ، وجعل العنف مفتاح للحكم ، وفقدان الدولة لحيوتها وطابعها السياسي ، وأغراق من تحكمهمم في بؤس لا مخرج منه ، فتحولت البلاد برمتها إلي مسرح مؤثث باشباح الموت ، والدولة إلي دولة أمنية علي قاعدة العنف المطلق مع الداخل ومع والخارج ، فتداخل القمع الداخلي مع الحروب الخارجية . أما الهدف يبقى في جميع الأحوال هو تحقيق النصر في الداخل ، بمنع التعددية ، والرأي الأخر ، وحكم القانون ، وتصريف القمع ، واشغال الضحية بعدو خارجي مفترض ، والتغطية علي سلسلة من الأزمات الداخلية العميقة كالمجاعة ، والأوبئة ، والأمراض ، وبذلك تداخلت وظيفة القمع الداخلي مع الحروب الخارجية ، ومن المستحيل الفصل بينهما ، وحروب النظام الإريتري بالإضافة إلي وظيفتها الداخلية ، لها وظيفة أخرى فرعية متمثلة في نزعة الطموح اللامحدود المدعوم بالعجرفة السياسية لدي القيادة الإريترية ، ورغبتها العارمة بأن تلعب دوراً أقليمياً في منطقة القرن الأفريقي متناسية بأنها تقود بلداً لا يجد سكانه مياه كافية للشرب اما الحديث عن الطعام هو فهو فضيحة الفضائح . وبالاضافة إلي هذه الرغبة ، لديهم رغبة أخرى متمثلة في تصدير النموذج الإريتري لنظام الحكم ، وهو النموذج الأكثر هبوطاً إلي دول المنطقة فرأس النظام الإريتري يرى في نفسه مهدي منتظر ، أنتظرته شعوب القرن الإفريقي فترة زمية طويلة ، ويرى في القمع الذي يمارسه ضد الإرتريين نوع من النعمة الفريدة يجب تعميمها علي مستوى القرن الإفريقي . ولهذا السبب يرسل الإريتريين من حرب إلي أخرى في الدول المجاورة ، لنشر هذه الرسالة النبيلة ، فأحياناً تخاض الحرب ضد اليمن ، وأحياناً أخرى ضد إثيوبيا ، وبشكل دائم ضد السودان الذي أصبح المركز المفضل لإستيعاب هستيرية افورقي الحربية .
واختيار السودان كموضوع دائم لحروب افورقي ، ليس أختياراً مجانياً بل لأن السودان يعيق أكثر من غيره من دول الجوار وظيفة القمع الذي يمارسه النظام ضد الشعب الإريتري ، فالسودان يشكل حتى الأن ملجأ أمناً للأريتريين جميعاً ومنفذا للخروج من البلاد ، ومركزا للاتصال بالعالم الخارجي لكن الأكثر خطورة من ذلك في وجهة نظر الطغمة الحاكمة في إريتريا ، بأن السودان يشكل مركزاً للتعليم ، وموقعاً للعمل ، والاقامة ، للآرترين الذين حرموا من هذه الحقوق فى بلادهم بقوانين مرئية أو مستترة ، وبذلك يعيق ( السودان ) امكانية الانحدار بهم الى بشر من الدرجة الثانية ، وفقا لخطط الطغمة الحاكمه فى ارتريا ، فالمعركة مع السودان أكثر من غيرها من معارك النظام ، هى من أجل الدخل الارتري . لذلك سوف تستمر مادام نظام أفورقى مستمرا فى الحكم . والامر ليس كما يروج له متعلقا بمعاداة نظام البشير ، ومساعدة السودانيين فى العودة الى النظام الديمقراطي ، فالنظام الارتري ، هو أكثر أنظمة القرن الآفريقي احتقار للديمقراطية كألية للحكم ، ومطالبه من السودانيين تنحصر بالمساهمة فى أذلال الارتريين وهذا يناقض بشكل كلي الثقافة العامة للسودانية وثقافتهم السياسية بشكل خاص ويشمل هذا التقييم أوثق حلفاء أفورقي من السودانيين .
بأختصار : أن حروب اسياس أفورقي الداخلية منها والخارجية لها وظيفة واحدة بقاءه على رأس السلطة ، والتغطية على جميع جرائمه ، ومنع أي اعتراض أو الخروج على نظامه ، للمطالبة بدولة القانون القائمة على التعدد السياسي والثقافي ، والحياة المدنية . وعلى الرغم من وضوح هذه الصورة المميزة لحروب اسياس أفورقي متعددة المواقع ، ومحددة الهدف ، نجد أطراف فى المعارضة الارترية ، تدعوننا سواء كان ذلك علنا ، أو بشكل مستتر ، وخجول ، بالوقف مع النظام فى حروبه لاسباب وطنية ودعوات الوقوف مع النظام فى محصلتها دعوات غير بريئة ، تستهدف تسطيح الوعي الجمعي الارتري ، واظهار النظام بوجه وطنى لم يتمتع به يوما . ثم كيف تريدنا هذه الآطراف أن نقاتل تحت قيادة لانحمل لها سوى شعورا عميقا من الاحتقار ، ونعترض على مجمل سياستها الداخلية منها ، والخارجية ؟ وهى بدورها تعد كل ارتري يعترض على سياستها ، أيا كان حجم اعتراضه ، خارجا عن الوطنية الارترية ومن تنتزع منه صفه أنه مواطن ليس مجبرا بالدفاع عن الوطن الارتري ، ونقترح على الذين يطالبوننا بالاصطفاف من وراء النظام الارتري لاسباب وطنية ، ليرجعوا الينا صفة اننا مواطنيين وهذا لن يتم الا بأقتلاع النظام الارتري من جذوره .
على العموم يفترض على المعارضة الارترية أو أطرافها الآكثر وطنية وفقا اللغة المستعارة من اسياس أفورقى ، أن تتجنب حالة التهييج الغوغائي الذي يمارسه النظام ضد عدو خارجي ليس له وجود ، والعدو الوحيد لهذه البلاد هم حكامها، الذين يرتفع لديهم منصوب الخوف من شعبهم باستمرار ، فيقودونه من حرب الى اخرى .
خاتمة القول : بعد مرور عقد ونيف من استقلال بلادنا خفضت قيمتنا الانسانية ، وضاقت مساحة العيش الانساني فى بلادنا ، فأصبحنا نبحث عن منافذ للخروج منها ، فيموت بعضنا فى الصحاري ، والبعض الاخر فى البحار ، ومن يحالفه الحظ يصل الى مدن الشمال الباردة ، فيقضي بقية حياته فى أرصفتها . وأقصى ما تستطيع أن تمنحنا أياه بلادنا فى وضعا الحالى هو الاستقبال البارد لجثثنا القادمة من جبهات القتال أو أقبية الموت أواستقبال جثثنا القادمة من المنافى كمحاولة أخيرة للتمسك بهذه البلاد . بعبارة أوضح لقد عجز الاستقلال أن يكون خاتمة سعيد لآلامنا المزمنة .
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6227
أحدث النعليقات