ارتريا والسودان : تحالف نظامين أم تعايش شعبين ؟؟
1-3 الحلقة الأولى : تاريخ ما أهمله التاريخ — عمر جابر عمر
مدخل التاريخ البشرى بصفة عامة وتاريخ منطقة القرن الأفريقى على وجه الخصوص تشكل بسبب هجرات بشرية متتالية من منطقة الى أخرى نتيجة تعرضها لكوارث طبيعية ( زلازل – براكين – فيضانات – مجاعة وجفاف وأوبئة – الخ –) أو بسبب عوامل بشرية ( حروب – غزو – صراع على السلطة أو الثروة —). سنتحدث هنا عن الهجرات من والى غرب أرتريا وشرق السودان فقط وليس بقية أنحاء ارتريأ.
الهجرة الأولى : من حوض النيل ( السودان الحالى) كانت منذ آلاف السنين – الكوناما والنارا
استقرت تلك المجموعات فى منطقة القاش— سيتيت. وهى قبائل نيلية قليلة الأختلاط والتفاعل مع محيطها خاصة الكوناما.
الهجرة الثانية : كانت من الجزيرة العربية بعد انهيار سد مأرب وهى قبائل عربية ( القسم القحطانى –البلو)
والقسم العدنانى ( هوازن القيسية) – وهى أول قبائل أدخلت اللغة العربية الى أفريقيا. ثم تلتها هجرات أخرى من حضرموت – وظهرت لغات ( التقرايت – البنى عامر ) و (البداويت – حدارب). استقرت تلك المجموعات فى بركا والقاش وأقامت ممالك لها منذ عام 280 ميلادية حتى جاء غزو الفونج ( السلطنة الزرقاء) عام 1580 ونصبوا ملكا هو ( عامر بن على بن أبو القاسم شاع الدين الجعلى) وأعطوه لقب
( دقلل) وتواصلت السلسلة حتى وصلت الى العشرين. ترك ذلك الغزو أثارا اجتماعية وثقافية ودينية
فى المنطقة وحدث تزاوج وتمازج وتفاعل وتناسل.
الهجرة الثالثة : دخلت جيوش الدولة المهدية الى ارتريا ووصلت حتى كرن ولكن القوات الأيطالية دحرتها وأرجعتها الى حدود كسلا. آثار تلك الحملة أيضا ظلت مشهودة فى من هرب أو تخلف عن العودة واستقر فى ارتريا. تبعت ذلك هجرات صغيرة من ارتريا الى شرق السودان ( طوكر – عقيق – نقفة —) وانقسمت بعض القبائل ما بين الأدارة الأيطالية فى ارتريا والأدارة البريطانية فى السودان.
بعد الحرب العا لمية الثانية وهزيمة ايطاليا – دخلت الجيوش البريطانية الى ارتريا ومن ضمنها الجنود السودانيون والأداريون والمعلمون …. ذلك كان له تأثيره الأجتماعى والثقافى والأقتصادى. وبسبب تردى الأوضاع الأقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية هاجرت مجموعات كبيرة من الأرتريين الى السودان اما للعمل أو لدراسة الدين. جزء من هؤلاء واصل الى مصر وجزء عاد الى ارتريا بعد أن استقر اقتصاديا ولكن الجزء الأكبر بقى فى السودان وتمازج وتزاوج وأصبحوا سودانيين.
الهجرة الرابعة: بدأت عام 1967 ( لجوء) وتواصلت الى شرق السودان حتى بلغ الرقم فى مرحلة ما نصف مليون لاجىء. استقر معظم هؤلاء وحصلوا على الجنسية السودانية وأصبحوا جزءا من النسيج الأجتماعى والثقافى السودانى وهاجر منهم من هاجر الى الخارج وما تزال البقية فى معسكرات اللاجئين
( مائة ألف ). كل ذلك الحراك صاحبه تفاعل وتواصل ثقافى وفنى بين الشعبين – فرق فنية ارترية كانت تأتى الى شرق السودان وفنانون سودانيون يذهبون الى ارتريا طوال أيام السنة – فنان الحقيبة الشهير
( محمد أحمد سرور) عاش أيامه الأخيرة فى ارتريا ومات ودفن فى أسمرا. اذاعة ( أم درمان ) كانت الجسر الفضائى للتواصل والواحة الثقافية والفنية للأرتريين. لا بد أن نذكر شاعر القطرين وأبن الشعبين الشاعر الخالد ( محمد عثمان كجراى) كرمز ونتاج لذلك التواصل والتفاعل الثقافى. أكثر من ذلك فى مرحلة تقرير المصير أرسلت الرابطة الأسلامية الأرترية وفدا الى السودان للتشاور مع قيادات العمل الوطنى السودانية والأستئناس بآرائها حول مستقبل أرتريا. وبالفعل التقى الوفد مع السيدين
( على الميرغنى ) و ( عبد الرحمن المهدى ) ونصح الرجلان الوفد بالتمسك بالأستقلال .
ماذا يعنى كل ذلك؟ ان التاريخ مشترك ومتشابك الى درجة لا يمكن أن نتحدث عن ( شعبين ) بل عن
( شعب واحد ) قسمته الأطماع الأستعمارية ولكن ربطته وشائج وصلات لا يمكن قطعها أو تجاوزها.
الأخ موجود فى ارتريا وأخوه عبر الحدود فى السودان !
ذلك موروث عام وتلك خصائص سكان غرب ارتريا وما يجمع بينهم وبين شرق السودان.
أنا كأحد أبناء المنطقة يشملنى ذلك التصنيف والتوصيف — ولكن لدى خصوصية أخرى تزيد ارتباطى واتصالى بالسودان: نشأت وكبرت فى قرية على الحدود الأرترية — السودانية – المعلمون فى المدرسة كانوا من السودان – التجار فى السوق كانوا من السودان – الموظفون فى الشركة كانوا من السودان – المناهج الدراسية كانت من ( بخت الرضا ) فى السودان – الأناشيد والأمثلة والمحفوظات — !
أكثر من ذلك الرجل الذى بدأ التبشير الدينى لمحاربة العادات الضارة فى المجتمع كان سودانيا – المهندس
( محمود محمد طه) رئبس الحزب الجمهورى الأسلامى لاحقا والذى أعدمه ( جعفر نميرى) !
ثم عبرت الحدود دون تأشيرة أو جواز سفر وذهبت فى اليوم التالى الى المدرسة فى كسلا للتسجيل.
سألنى الناظر من أين أنا؟ قلت من أرتريا – قال: يا ابنى هذه مدرسة سودانية لا نسجل فيها أجانب ؟!
أول مرة شعرت بأن الأمور قد تغيرت – كان ذلك بعد استقلال السودان. قلت له اننى أريد أن اتعلم –
قال عليك أن تختار احدى القبائل فى الشرق وتسجل باسمها – وقد كان ومن يومها لم يسألنى أحد فى السودان عن جنسيتى ! واصلت دراستى وتكونت لدى علاقات احتفظ بها وأفخر بها حتى اليوم .
ثم كانت تجربة الثورة وبحكم مجال عملى تعرفت وتواصلت مع الصحفيين والكتاب والفنانين والمحامين والمعلمين والسياسيين وكافة قطاعات الشعب السودانى المتعاطفة والمؤيدة للثورة الأرترية.
هل يكفى ذلك لشرح ( أوراق أعتمادى ) كأرترى حريص على العلاقة الأرترية – السودانية؟
هل يكفى هذا لأسكات أصوات المشككين والمتحاملين الذين يسوقون أحاديث يعتقدون بأنها
( اكتشاف خطير)؟ تلك كانت شفاهة – الآن سأكتبها !
لا – هناك المزيد – النسب ! أنا عم لأطفال والدتهم سودانية مائة فى المائة – انهم أبناء أخى – هؤلاء أحبهم وأحرص عليهم وأتواصل معهم.
رغم ذلك كله كان أمامى دائما ( خط أحمر ) لا أتجاوزه – أنا أرترى – ذلك كان تعبيرا عن انتماء وتمسك بهوية – قلتها وأنا فى المدرسة الأبتدائية وأكدتها حين كنت أنقل ( رسائل الذخيرة ) من الخرطوم الى كسلا الى الثوار الأرتريين ومارستها فى جامعة الخرطوم حيث كنت أوزع منشورات جبهة التحرير فى
( الداخلية).
وفى جامعة الخرطوم اتصل بى بعض الأخوة من شرق السودان – أذكر منهم محمد عثمان كوداى ودكتور
نافع ( لا أقصد دكتور نافع الجعلى ! ) وطلبوا أن انضم اليهم فى حرا ك لأبناء الشرق — شكرتهم على ثقتهم وقلت لهم أننى مسكون بهم آخر – بوطن وشعب تركته ورائى – وربما نلتقى فى الطريق يوما ما وتمنيت لهم التوفيق. ولكن بالمقابل وبحكم معايشتى وتعايشى مع الشعب السودانى فقد شاركتهم فى السراء والضراء : فى مظاهرات الطلبة ضد استبداد وظلم العسكر – فى مواكب الفرح والأنتصارات ( ثورة أكتوبر ) وفى أوقات الحزن والبكاء اما بسبب قسوة الطبيعة أو ظلم الأنسان لأخيه الأنسان. من كل ذلك نخلص الى أن ما يهمنا هو تعايش الشعبين – كيف ؟ أولا لا بد من التفريق بين الشعب والنظام – أنا أحب وطنى ( ارتريا ) ولكننى أكره النظام الدكتاتورى – أحب الشعب السودانى ولكننى اختلف مع النظام السودانى بسبب تحالفه مع النظام الدكتاتورى فى ارتريا.
الشعب الأرترى لا ينسى من وقف معه فى فترة الكفاح المسلح وسانده وأيده ولو كان بكلمة حق – الشعب السودانى قاسمنا لقمة العيش وأعطانا المأوى والحماية ووجدنا فيه وطنا ثانيا. لا ننسى الأقلام الشريفة من الصحفيين والكتاب الذين دافعوا عن القضية الأرترية والفنانين الذين تغنوا بالثورة — لا ننسى المعلمين والطلبة – المحامين والكسبة – الفلاحين والتجار – النساء والشباب — والجنود – رجال الدين والسياسة
بالمقابل فان الأرتريين يذكرون بمرارة وألم الطعنات التى وجهت اليهم من الظهر — ولأنها كانت من
( ذوى القربى ) فانها كانت أشد مضاضة – انها نماذج لمواقف الدولة ضد ارادة الشعوب وصورة لتحالف الأنظمة ضد تعايش الشعوب.
1- الطعنة الأولى كانت من نظام عبود الذى سلم المناضلين الأرتريين الى أثيوبيا.
2-ثم كانت الثانية من رئيس الوزراء ( الصادق المهدى ) عام 1965 حين قام بمصادرة أسلحة الثورة فى ضاحية ( برى ).
3-الثالثة كانت على يد نظام نميرى ومستشاره عمر محمد الطيب حيث قام بتجريد جيش التحرير الأرترى من أسلحته عام 1981 ( أكثر من خمسة عشر ألف مقاتل ) عندما وصلوا الى الحدود السودانية اثر أزمة داخلية فى التنظيم .
4- أما الرابعة كانت بعد التحرير –1991 كانت الفكرة فكرة الدكتور الترابى وكان القرار قراره بل وحتى التنفيذ أشرف عليه بنفسه ! أقفل مكاتب المعارضة الأرترية – صادر ممتلكاتها وأوقف نشاطاتها ووضعها أمام خيارين: اما الدخول الى ارتريا أو الذهاب الى معسكرات اللاجئين.!
قبل الدخول فى تفاصيل تلك العلاقة لا بد من التأكيد على الحقائق والثوابت التالية:
@ ان الأرتريين الذين هاجروا الى السودان واكتسبوا الجنسية السودانية مواطنون بكامل الحقوق والواجبات مثلهم فى ذلك مثل بقية أبناء السودان. ذلك حقهم الطبيعى وليس منة من أحد – مثل بقية الأرتريين فى العالم الذين اكتسبوا جنسيات أوربية وأمريكية وأسترالية. من أراد أن يجعل من السودان
“وطنا” بديلا له فذلك حقه وهو ملزم بكل ما سيترتب على ذلك الأختيار من حقوق وواجبات.
@ أن اكتساب الجنسية السودانية لا يسقط حق المواطن لممارسة نشاط يتعلق بحقوق مواطنين يرتبطون معه بالجذور أو حتى من منظور أنسانى وقيم العدالة والحرية . الجنود الأرتريون الذين التحقوا بالقائد حامد عواتى بعد الثورة كانوا فى الجيش السودانى وكانوا يحملون الجنسية السودانية – ذلك اختيار موقف من حق أى أنسان وانحياز للجذور والهوية. وباعتبارهم جزءا من الأقليم الشرقى والحراك الجماهيرى للنسيج الأجتماعى والثقافى لأبناء المنطقة فاننا نؤيد مطالبهم فى أن يتملكوا مقدرات اقليمهم الأقتصادية وأن تكون لهم الأولوية فى السلطة السياسية المحلية فى الأقليم بالأضافة الى تنمية الأقليم تنمية مستد امة حتى يلحق بقية أجزاء السودان.
@ اللاجئون الأرتريون قضية مختلفة – لهم حقوق قانونية وأنسانية ودولية – من حقهم الحصول على كل الخدمات والتسهيلات التى تقرها الشرائع الدولية والأنسانية. انهم أمانة فى عنق النظام السودانى – والى حين انتهاء مأساتهم فان الخيارات أمامهم هى اما العودة الطوعية أو المبرمجة أو التوطين المحلى بأشراف الأمم المتحدة . أما الأرتريون العابرون أو المقيمون بصفة مؤقتة والناشطون فى صفوف المعارضة الأرترية – هؤلاء المطلوب حمايتهم من مطاردات وهجمات عصابات الشعبية داخل الأراضى السودانية.
تبقى بعد ذلك العلاقة بين الشعبين الأرترى والسودانى – من يحددها ويشكلها ويرسمها؟ نظام غير شرعى اغتصب السلطة عنوة بغير وجه حق فى ارتريا؟ أم نظام فى الخرطوم تحكمه وتحاصره أزمات اقليمية ودولية يحاول أن يهرب منها بتحالفات فوقية وغير مبدأية مع نظام أسمرا؟ هل سألتم أبناء الشرق عن موقفهم مما يجرى فى جوارهم ؟ هل أتيحت لهم الفرصة للتعبير عن مشاعرهم تجاه أخوتهم وأبناء جلدتهم؟
أم أن ذلك من صلاحية وحقوق المركز والقومية المختارة؟
طوال العهود السياسية فى السودان لم تكن هناك ( استراتيجية ) للتعامل مع الثورة الأرترية. كان التعامل
عابرا— مؤقتا وأمنيا. فى عهد المشير جعفر نميرى جمع أعضاء ادارة الأمن وطلب منهم تقريرا عن الثورة الأرترية – جاء فى التقرير:
التنظيم الفلانى تابع للعراق
التنظيم الفلانى تابع لسوريا
التنظيم الفلانى تابع للسعودية
التنظيم الفلانى تابع لأمريكا
التنظيم الفلانى تابع لروسيا — انتهى التقرير.
التفت نميرى الى مستشاره الأمنى وقال: وحقنا وين ؟ لم تكن هناك سياسة بهذا الأتجاه – كان السودان معبرا لمساعدات ونشاطات وعلاقات الدول الأخرى مع الثورة الأرترية.. بالمقابل فان الثورة الأرترية
( ممثلة فى جبهة التحرير الأرترية ) راعت حقوق الجوار وأحترمت الأمن القومى السودانى وقامت بحراسة الحدود وحمايتها من كل تسلل أو اختراقات دون اتفاق موقع مع الحكومات السودانية المتعاقبة.
وبعد دخول جبهة التحرير الى السودان – حدث فراغ كبير شعر معه السودانيون بالدور الذى كانت تقوم به جبهة التحرير فى حماية الجبهة الشرقية. وقد تأكد ذلك الدور بعد قيام الدولة الأرترية والهجوم الذى قامت به قوات الجبهة الشعبية بالتعاون مع المعارضة السودانية على مدينة كسلا – وكان المناضلون من المعارضة الأرترية فى الصفوف الأمامية لخط الدفاع عن المدينة. ذلك كان وما يزال حال وموقف كل الأرتريين المقيمين فى شرق السودان – الدفاع عن السودان اذا تعرض لأى هجوم غادر.
أول تنظيم وضع استراتيجية للتعامل مع الثورة الأرترية كانت الجبهة القومية الأسلامية السودانية
( الترابى ) وهى فى المعارضة. وتطورت تلك العلاقة حتى تم التوقيع على وثيقة تفاهم مع الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا قبل التحرير —؟! ذلك ما جعل صديق الثورة الأرترية الراحل ( سيد أحمد خليفة) يكتب ويسأل : هل أسلم أسياس أم كفر الترابى ؟ ومن يومها بدأ التحالف.
لماذا وكيف؟ ذلك ما سنتناوله فى الحلقة الثانية.
شعبين الأرترى والسودانى.
كان الله فى عون ال
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=10186
أحدث النعليقات