بركنتيا إحتفائية المكان

كتبه/محمد حسان

وإن بدت رواية (بركنتيا) ، للأديب والروائي الارتري أبوبكر حامد كهال تقليدية الطابع تنطلق من افتراض الحقيقة المطلقة  وتندرج تحت قائمة الأدب المعادل للحياة ، المنطلق من مضاهاة الواقع ، التماهي معه والذوب فيه إلا أننا يمكن أن نعزو ذالك إلي طبيعة العلاقة بين الروائي والواقع الأرتري في مرحلة الاستعمار، حيث يبدو من خطاب الرواية  ، توجهها ، ودعوتها إلي الوحدة والتماسك وسيطرة الأيدلوجيا عليها ، يبدو أنها كتبت في مرحلة متقدمة علي تاريخ نشرها (2008) ، ربما بأكثر من ثلاثة عقود ، حيث جرت مياه كثيرة تحت الجسور بل وفاضت فوقفها لم يكن ليتسنى للكاتب تجاوزها اعتباطا خلال تدخلاته القصدية في سياق السرد  .

للمكان كموجه سردي وعامل مؤكد للهوية له حضوره لإغوائي الطاغي في( بركنتيا) ترسمه الذات الكاتبة من خلال تشكيل صوري يحرك الحواس ويمكِّن المتلقي من خلق قصته الخاصة من وحي وطبيعة المكان  بتحريكه لتلك البقع المنسية من ذاكراتنا .

يقول الراوي:( وأكثر ماكان يأسرني ، هي تلك الإطلالة من فوق أعلي نقطة عند (بيت قوع)، ومشاهدة المنحدرات التي تهبط بحدة صوب وادٍ عميق، وقد تداخلت فيها أشجار  (القرط ) و(الحرنكع)الشاهق ، ثم الإطلالة من هناك شرقا نحو سهل (قذقذا) ، والاستحمام علي شلالات (طنعابت ) ومشاكسة القرود العائدة إلي كهوفها الصخرية) ص5.

لم يخلو النص من سمة شعرية، وتمثل عالم الثمل( الديوسيني)(1) فالحمار ( ريفاي يتخيّر بفطنته زاوية الدخول) ص7، (طيور الهدهد تحتفي بالعائدين) ، صـ25 ، (الثعابين تصحو منزعجة عند طلوع الشمس) صـ25 ،(قرود تقضي الليل بطوله في التحديق نحو نجوم السماء مخافة أن تسقط عليها) صـ7 .

وإذا علمنا أن الكتابة تأسيس لحضارة فردية في (البداية ) ثم جماعية في ( النهاية)،فإن هذا العلم يقودنا إلي تأكيد سطوة الكاتب علي قارئيه كسيطرة المشعوذ علي تابعيه، له (الكاتب) أتباع كثر حول العالم يذكرهم بخصوصياتهم الشعبية المغلقة ( إن هذه التلة  المستطيلة  ، ذات الصخور المائية ، تخفي في باطنها أسرة من ذهب ، بقوائم من ياقوت ، وعوارض من لؤلؤ ، ستنفلق يوما لتنبثق  منها تلك الأسرة عندما يبلغ عدد المواليد اللذين  يرون النور فوق تراب بركنتيا عدد تلك الأسرة بالتمام والكمال .) صـ27.

يعلق الراوي علي الأسطورة قائلاً:(رغم اللذين رؤا النور هنا  يعدون بالآلاف إلا أن التلة لم تظهر عليها علامات انفلاق ، وحني الفقهاء والسحرة لم يجازفوا بأحكامهم نفيا ً أو تأكيدا لما تقوله الأسطورة، وكانوا مثل غيرهم ينتظرون أن تضع التلة مولودها العظيم ) صـ27.

يوظف المؤلف الأسطورة لدعم حلمه في الحرية ، فالتلة المستطيلة  هي أرتريا بشكلها المستطيل المرموز لها مجازا بـ (بركنتيا) والمواليد اللذين رؤا النور هم أبنائها المتعلمون ، ومولودها العظيم هو الإستقلال الذي جاء (يجرجر ذناذنن ) بقضبانها الفولاذ بدلاَ عن أسرة الذهب بقوائمها الياقوت .!!!

للبني الرمزية والخيالية التي تتشكل كأساطير  ومعتقدات وخرافات وحكايات شعبية وتنبثق كمصوغات معرفية دينية إعتقادية تؤسس لعقل الجمعي ثم تتحول عبر التكريس إلي شعائر أيديولوجية دينية تتوغل في أعماق النفس البشرية  حضرت هنا لتندس بين الخطاب واللغة (2).(أمنا الأرض ترفض استقباله) صـ41 ،(لم أحس أنه سيبرأ، لم أحس أنه سيفارقني ، وانه لا ينفك يذكرني بتلك الصبية التي لفظت أنفاسها تحت قدمي) ص165 ،(ونقل عن امرأة قالت أنها كانت حاضرة ، أنها رأت عظام الجثة تسحب إلي عمق غابة مجاورة وهناك في العمق تماماً شاهدت ألسنة نارٍ لاهبة بدايتها علي الأرض ونهايتها في السماء) ص42.

تقدم الرواية المرأة كبطلة وفاعلة وهذه سيما أود لفت نظر الأرتريين المشتغلين بالبحث إليها ن، ذالك أن المرأة الأرترية مميزة من جهة مشاركتها الرجل في كل تفاصيل الحياة علي عكس ثقافة العالم أجمع فهن عند الأمام ابن حزم أداة للنكاح (متفرغات البال من كل شيء إلا من الجماع ودواعيه)(3) ، وكن في القانون التشريعي الفرنسي دون مرتبة المواطنة (الأولاد والمجانين والقصّر والنساء ليسوا مواطنين ) (4) الثقافة العالمية تحصر المرأة في دائرة الجسد ن وتحولها إلي مادة بصرية ومجال لسياحة العيون ، هذا الشاعر عمر أبو ريشة يطلب من حبيبته أن تتحجر حني يذبل جمالها فتموت رؤاه:

أخشي تموت رؤاي إن تتغيري …… فتحجري .

هذا لا ينفي أن أدبنا المعاصر متأثراَ بغيره يميل إلي أن يجعل منها  (نؤَّم الضحى ) (كُماكَمَتْ دييبْ مِكَْبُو لَعَرْقَيْ)* كسولة ،عاطلة عن العمل (إيي كَلْكَت وإيي  تَكِييت)* .

وبما أن الشيء بالشيء يذكر فإنه كان قد وصلني (هدية) كتاب قيّم ، من صديق عزيز عنوانه ( جذور الصراع حول لغات التعليم في  أرتريا ـ دراسة تحليلية من إعداد الأستاذ أبوبكر الجيلاني الذي أتحفنا بكتابه الآخر(حوار المفردات_ اللغات السامية في أرتريا)(5)  مشكوراً علي جهده  المبذول يقول انه عثر علي 700 قصيده من شعر التجري (6)  ، جمعها المستشرقون في مطلع القرن العشرين وهو أمر يسيل له لعاب الباحثين ، ذالك أننا نراهن علي الفكر والثقافة والفن لهزيمة الخطاب السياسي/السلطوي/ الرغائبي/ الشبقي/ السلفي الأبله الذي أثبت دونيته وشرعنته للإحتكار والهيمنة وتأليه الأفراد .

بالعودة الي موضوعنا ، يحدثنا الراوي عن (الجدَّّة) رامية السهام ، (مريم ) راعية الأغنام ، ( حليمة ) الممرضة والمقاتلة ، (وشنكحايت بنت علي ماشيلاي) المقاتلة ، (قنت) راعية كل من في قصر (بياسا أدري) بما فيهم الإمبراطور نفسه و(ذودي)الإمبراطورة المسيطرة .

في المقال القادم نغوص في أعماق رواية (بركنتيا ) لنسبر غورها ذالك أنها تؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخنا .

إسنادات :

1 ـالتجربة الخلاقة ـ س .م بورا  ترجمة سلافه حجاوي

2 ـ إنثروبيا السلطة ـ أبدية اللغةـ د. محمود محمد المشاي

3ـ طوق الحمامة ـ الإمام ابن حزم

  4ـ روجيه جارودي في سبيل ارتقاء المرأة

** ـ من أغنيات المطرب إبراهيم قورت

5 ـ موقع النهضة الأرتري ومواقع أخري

6 ـ جذور الصراع حول لغات التعليم في أرتريا ـ أبوبكر الجيلاني

 

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=10406

نشرت بواسطة في يناير 22 2011 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010