رحيق المنابر الظلم خراب ودمار
الحمد لله قاسم الجبارين ومهلك الظالمين ومذل المتكبرين ، ونصلى ونسلم على من بعثه هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا ،حيث أقام الله به العدل والقسطاس وأزال به الجور والظلم والبهتان . أما بعد :
الظلم هو وضع الشيئ في غير موضعه كما قال ابو الطيب المتنبئ :
وضع الندا في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى.
فمنْ خلقَهُ اللهُ فعبدَ غيره ، ومن رزقه اللهُ فشكرَ غيره فقد وضع الأمر في غير موضعه الذي يجب أن يضعه فيه ، كما قال لقمان لإبنه : (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) وقال الله للذين أطاعوا الشيطان (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا )
وحتى من وضع الكلام في غير موضعه فهو ظالم (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).
من كمال عدله تحريم الظلم على نفسه :
قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا …. ) فقبل أن يحرمه علينا نزه الله منه نفسه سبحانه وتعالى فقال: (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) فلا يليق بربنا جلَ وعلا أن يظلم ، وهو كذلك لا يرضى أن يَظْلُمَ عبيدَه بعضهم بعضا ، ولهذا أنزل سبحانه وتعالى الكتاب والميزان ، وبعث الرسل لتطبيق العدل بين الناس ، ولمحاربة الظلم بين العباد ، فقد قاموا بما أمرهم ربهم خير قيام ، وواجهوا في سبيل ذلك كل أنواع الأذى والإضطهاد .
ثورة الإسلام على الظلم والظالمين :
عندما بعث الله نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – كانت البشرية املاك في يد السادة والملوك والقواد الأقوياء ، وقدجعلوهم سخرة واستخفوا بهم وأهانوهم ، وقد كان لرجال الدين نصيب من هذا الظلم المركب كما قال ربنا سبحانه وتعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ولما سمع عدي بن حاتم هذه الآية فهم أن المقصود بها العبادة الصورية من ركوع وسجود ، فاعترض بأنهم لا يعطونهم هذا الحق ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام علَمَهُ: بأن المقصود هي إعطائهم حق التشريع والتقنين والحكم والسيادة ، ومن شرَع وحكم فتحتَ سلطانِه يتحقق العدل ، أو يسود الظلم.
ولو سلطنا الضوء على بعض من كانت تثقلهم المظالم ، فقد نجد على راس هؤلاء الضعفاء ، والأقليات ، والمراة ، والطفل ، والمُسِن وغيرها من شرائح المجتمع ، ويكفينا أن نستعرض بعض مظالم المرأة قبل الإسلام ( كنموذج ) لأنها كانت ضربة كل ضارب ، ومتنفس كل ساخط ، وصفحة كل ناعق ، وحسرة كل زمان ،ومنبع جميع الأحزان ، فقد ظلمت ظلما كبيرا ، وهضمت هضما عظيما ، فقد قالوا عنها : شجرة مسمومة ، ورجس من عمل الشيطان ،ومن قال: بأنها ليس لها أي خير ،وجعل جزاءها أن يصب عليها الزيت الحار ، وأن تسحب بالخيول ، وجُعِل لبعضهم الحق بأن يدفن زوجته حية ،واذا مات ورثها أهله مع بقية المتاع ، وقالوا: هي لعنة وسبب الغواية ،وعقد لها البعض منهم مؤتمرا فبحثوا فيه (هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان؟ ! وهل لها روح أم ليست لها روح؟ وإذا كانت لها روح فهل هي روح حيوانية أم روح إنسانية؟ وإذا كانت روحاً إنسانية فهل هي على مستوى روح الرجل أم أدنى منها؟ وأخيراً” قرروا أنَّها إنسان ، ولكنها خلقت لخدمة الرجل فحسب) .
في هذا الواقع المؤلم جاء الإسلام رسالة لتحرير البشرية من نفسها لنفسها ، ولبسط الأمن والطمأنينة فيما بينها ، وان يسود فيها منهاج الله الذي كله عدل ومصلحة وراحة وارتقاء وسمو ونور وضياء .
فلو تسربنا قليلا في داخل المنهاج الرباني الذي يمثله كتاب الله تعالى ، ووقفنا هنيهة مع تطبيق العدل في مدرسة رسول الله فسنجد الإسلام هو العدل ذاته ، سواء كان حَملتُه من اهل العدل أم من أهل الجور .
جاء الإسلام فرفع قدرها وأكرمها ولم يساوها بالرجل بل جعلها من المشمولة بقوله تعالى: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فقد تكون مساوية أو أقل أو أكرم من الرجل وذلك على قدر سموها وتخلقها بأخلاق الإسلام ، وتحررها من لوثات الجاهلية ، وخرافات العقول الملوثة ، ويكفي أن نتأمل هذه الآيات القرآنية : ( وَلِلنِّسَــاءِ نَصِيــبٌ مِمَّا اكْتَسَبْــنَ ) (هن َ لباس لكم وَأَنْتُـــمْ لِبَــاسٌ لَهُــنّ ) ، (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرًا} ،( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْـــرُوف)
وفي السنة النبوية سواء كانت عملية او قوليه او تقريرية ستجد منهجا فريدا ليس له مثيل في مناهج أهل الدنيا ، يقول صلى الله عليه وسلم: ( استوصوا بالنساء خيرا ) ويقول : ( إنما النساء شقائق الرجال ) وغيرها من الأحاديث النبوية المباركة .
نماذج من مصائر الظالمين :
مصير الظالمين وخيم سواء كان في الدنيا او في الآخرة .
أولا مصيرهم في الدنيا : الظلم درجات وأنواع ، فقد يظلم الإنسان نفسه ، أو يظلم أهله ، او يظلم عموم الناس ، أو يظلم وطنه ، أو يظلم البهائم ، أو يظلم البيئة ، وقد يكون من يظلمه صديقه ، أو عدوه ، وايا كان فإن الله عز وجل نهى عن الظلم مطلقا ، حتى مع العدوا فقال عزَ وجل (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) فليس السموا بذل العدل لمن تحب ، ولكن السموا والعظمة أن تبذل العدل حتى لمن تبغض وتكره . وقد طلب الله من أصحاب النبي وفيهم الأنصاري الذي غُزيَ من قبل أهل مكة في مدينته ، وفيهم المهاجري الذي جرد من ماله وطرد من وطنه ، وفيهم من قتل أغلبُُ أهله ، مع ذلك يقول الله لهم: (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) فسمت روح أصحاب النبي بأوامر الله وتعليمات وتطبيقات رسول الله فهذا عبد الله بن ابي رواحة يحاول اليهود إرشائه ، فيقول لهم : ” تُطَمِّعونني بالسحت! والله لقد جئتكم من أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض إلي من عِدَّتِكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم على ألا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض“. وقد صدقوا في مقولتهم تلك ، وحمل الصحابة رايات العدل الى ارجاء المعمورة ، فأصاب خيرهم البشر والحجر ، رفعوا سيوفهم فى وجه كل ظالم ، وازالوا من وجه الأرض كل قلاع الجور ونشروا الخير والعدل بين بني البشر .
وقد استهلم الصحابة وقود الصبر من سيرة الأوليين الصابرين ، فعندما اشتكى خباب من جور وظلم اهل مكة ، قال له النبي عليه الصلاة والسلام : (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض ، فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه . ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله ، أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ) رواه البخاري) ، وكان القرآن حبل الصبر، وقلعة الأمان، وقارورة الدواء،وراحة النفس ، وسكينة القلب ، وغذاء الروح ، وخميرة الحماس ، فكان الصحابي يشحذ همته ، ويصبر نفسه بمطالعة مصير الفائزيين والتأمل في أسباب هلاك الظالمين ، جلسات كانت تتلى فيها ، قصة نوح وقومه ، وإبراهيم والنمرود ، وفرعون وموسى ، ويحييى ومن قتله ، وشعيب ومجادليه ، وهود ومن عاداه ، والمسيح ومن حاول قتله ، ورسول الله ومن مكر له وأخرجه وخطط لقتله . وهكذا تغذت نفوس المؤمنين وستظل تتغذى الى يوم الدين من موائد الكتاب والسنة ، وقد كان هذا الغذاء شفاءا للنفوس الشاردة ، وقوة للقلوب الوجلة ، فقد أخرج الإسلام شبابا يعشقون الحرية ، ولا يقبلوا أن يصعد فوق رؤوسهم الا خالقهم ومولاهم. ( اذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لا ئم ) وفعالهم كما قال الشاعر الإسلامي هاشم الرفاعي .
وكنا حين يأخذنا ولي *** بطغيان ندوس له الجبينا
تفيض قلوبنا بالهدي بأسا *** فما نغضي عن الظلم الجفونا
شباب ذللوا سبل المعالي *** وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهدهم فأنبتهم نباتا *** كريما طاب في الدنيا غصونا
هم وردوا الحياض مباركات *** فسالت عندهم ماء معينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة *** يدكون المعاقل والحصونا
شباب لم تحطمه الليالي *** ولم يسلم الى الخصم العرينا
ولم يتبجحوا في كل أمر *** خطير، كي يقال مثقفونا
دعوني من أمان كاذبات *** فلم أجد المنى إلا ظنوناً
وهاتوا لي من الإيمان نورا *** وقووا بين جنبيَّ اليقينا
أمد يدي فأنتزع الرواسي *** وأبني المجد مؤتلقاً مكينا
ثانيا : مصائر الظالمين في الاخرة :
هل يتصور أحد منا حال الأجساد البشرية الطرية وهي تحشر إلى جهنم وقد قيدت بالسلاسل؟ .
* أعد الله لهم مسكنهم هناك : (إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها ) ويستغيثون فيغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه . وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه…)
* فيقول الله لملائكته : (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله، فاهدوهم إلى صراط الجحيم).
* ثم تجمع لهم مظالمهم ويقال لهم : ( وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون)
* ولما يقفوا أمام النار يجثوا على الركب ويبكوا ويتذللوا (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مردّ من سبيل)
* لكن رب العزة يقول : (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين)
ثم انكال وجحيم وطعام ذا غصة وعذاب اليم ، صراخ ، الم ، حسرة ، ندم ، حزن ، بكاء ، جزع ، تقرح ، تهتك ، تمزق ، سلخ الجلود ، صهر البطون ، مقامع من حديد ، وماء من حميم ، وطعام من زقوم ، سرابيل من قطران، وهكذا تجتمع عليهم كل الحسرات ، والهموم، والغموم ، وتحيط بهم نار جهنم ، فلا مناص ولا محيص ولا مخرج ، ولا واسطة ، ولا صديق ولا حميم ، ولا رشوة ، ولا قرابة ، ولا شفاعة .
ألم في سويداء القلب :
كم يؤلمني أن اسمع وارى من ينتسب الى هذا الدين العظيم وهو يظلم ، ويغش ، ويكذب ، ويراوغ ، وينافق ، ويتلون ، ويرتكب كل القبائح ، وينغمس في كل الرذائل ، ويعلوا فوق كل الجيف ، ويلحس كل العفن ، ويغرق في بحر كل فتنة ، ويرفع راية كل غدر !!!!!! .
للأسف تتسع راية المظالم وتتمدد وتنتشر في بلادنا الإسلامية إنتشار النار في الهشيم ، يتنسمها الناس ويستنشقونها مع الهواء العليل ، فكل من خطا خطوة ، وارتفع درجة ، وعلا منزلة نظر الى من هو دونه ، فأمتطى ظهره كالدابة ونهب ماله ، وجرح كرامته ، واشعل عليه نار الظلم ، وكواه بقسوة الكلمات ، وربما علاه بحذائه ، وقيده بحباله ، وجلد ظهره بسوطه .
في كل شبر للعذاب مناظر *** يندى لها – والله – كل جبين
فترى العساكر والكلاب معدة *** للنهش طوع القائد المفتون
هذي تعض بنابها وزميلها *** يعدوا عليك بسوطها المسنون
بالرجل بالكرباج باليد بالعصا *** وبكل اسلوب خسيس دونِ
أرأيت بالإنسان يُنفخ بطنه *** حتى يُرى في هيئة البالون ؟
أسمعت بالإنسان يُضغط رأسُه *** بالطوق حتى ينتهي لجنون ؟
أسمعت بالإنسان يُشعل جسمُه *** ناراً وقد صبغوه بالفزلين ؟
حفظ الله شيخنا القرضاوي الذي نظم الأبيات في داخل المعتقلات فهاهو اليوم يسمع ويرى من يصبغ نفسه بالفزلين ،ويشعل النار على جسمه ، للتخلص من الحياة ، التى صارت أحر من لهب النار ، بفعل الظالمين والمجرمين ، الذين استعبدوا الإنسان وسلبوه ارادته ، وغدوا له جحيما لا ينتهي ، وعذابا لا يفارق ، ومرضا لايشفى ، وشوكا لا ينتقش ، فأصبحت عندهم النار الحقيقية اهون من نار الظلم والظالمين .
الست ترى الشباب الأرتري الذي رفع روحه في أكفه وخاض معامع الحروب ، وسخِر بالموت ، وتحدى كتائب الطغيان ، وعشق النزال ، ولون تراب الأرض بالدم القاني ، وافنى كل شبابه بين قعقعة المدافع وصليل السيوف ، ألست تراه اليوم تحول الى شباب قانع ، هزيل ، مستضعف ، ولى دبره للحاكم الظالم ، وبدء يهرول الى المنافي هروبا من تكاليف الحرية ، ودفع ثمن الكرامة . ولكنه للأسف يدفع نفس الثمن اما بأن تمسك به عصابات النظام الجائر ، او يرمى في سجون السودان ، أو قبل ذلك يخطف من عصابات الرشايدة ، او يهلك في صحراء ليبيا ، او يغرق في ماء المحيطات ، او يجن في شوارع اروبا ، من الذى نزع روح المقاومة من هذا الشباب ؟ ومن الذي قتل روح الكفاح في نفوسهم؟ وبغَض اليهم وطنهم؟ من الذي جعل تلك الأرواح تذبل ؟ والسواعد تفتر ؟ والهمم تضعف ؟ انه الظلم دمار وخراب وهلاك ، إذا ساد الظلم في بلد حلقه كما يحلق الشعر ، وعراه كما يعرى الجسد ، وذبحه كما تذبح الشاة . وما قصة (بن على) الهارب بعصية عن الإعتبار وبعيدة عن الأفهام .
فمن اراد الحياة فاليقاوم الظلم مهما كان دينه أو جنسه أو لونه أو طعمه او ريحه (الظلم قاذورات ) والعدل روح وريحان ( الظلم جحيم ) والعدل ظل ظليل .
محمد جمعة ابو الرشيد
Mja741@hotmail.com
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=10410
أحدث النعليقات