عمل روائي رائع يؤرخ لمدينة كرن 2/3
بقلم: زين العابدين محمد علي “شوكاي”
وفي الفصل السادس من الرواية في “أرات كيلو” في جامعة أديس أبابا، نتعرف في النقاشات التي كانت تدور بين غوبزيي وبدري كيف أن المسلمين الإثيوبيين، المتهمين بالذلة والمسكنة، هزوا أركان الإمبراطورية الحبشية وكادوا أن يجعلوها في “خبر كان”، عندما وجدوا قيادة حقيقية في الإمام “أحمد غراني” وتعني بالأمحرية أحمد الأعسر، وهو الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي، وهنا يقول بدري الهرري لصديقه غوبزيي الأمحري “ابحثوا في تاريخكم وستجدون أنه الوحيد الذي تصدى للطغيان، إنه الوحيد الذي تحدى ميراث كبرى نجست- عزة الملوك”. كان غوبزيي معجبًا بصديقه بدري الذي لم يتوجه إلى التنظير الفارغ عن الماركسية – اللينينية أو الماوية، بل كان يصر على القول إنه “ليس بروليتاريًّا – ثوريًّا” يناضل من أجل الطبقة العاملة، بل يناضل من أجل أن يمتلك هو وأهله تاريخهم، وأن تطبق العدالة في إثيوبيا. غبر ربي ابن كرن وضاحيتها بسكديرا يراقب النقاشات التي كانت تدور بين بدري وغوبزيي دون أن تغريه بالمشاركة فيها، لأن ما يشغله كان نوعًا آخر من المعاناة التي تشغل كل من بدري أو غوبزيي، كان شعبه يواجه حرب إبادة يومية، وهذا ما كان مصير بلدته بسكديرا، في يوم حزين ودام وهو بعيد عنها.
وفي الفصل السابع يعمِّق كاتبنا فهمه وحبه لمدينته كرن، التي تجمع قبائل وأعراق، والتي تعتبر الحد الفاصل بين ثقافة الهضبة المسيحية– الحبشية من جهة، وبين ثقافة المنخفضات العربية – الإسلامية في الجهة الأخرى، وكيف أن هذه المدينة التي تحيطها الجبال من كل جوانبها، وكأنها تريد أن تحميها من غوائل الزمن، هي مركز توافق القبائل والأديان، وأن سكانها يعتبرون هذا التسامح والاندماج بين مكونات المدينة ليس من صنعهم، بل من صنع من وضع هذا التنوع وهذا الاختلاف، وبالتالي يأتي القبول بالتنوع في سياق القبول والتسليم بصانع هذا التنوع، وكأنه استجابة لما ورد في القرآن الكريم بأن اختلاف الألوان والألسن آية من آيات الله.
جمال، بطل الرواية الذي هاجر أجداده إلى كرن أيام الحكم الخديوي لإرتريا، استقروا في هذه المدينة الوادعة والجميلة بجبالها الشاهقة، وزاولوا فيها مهنة التجارة التي كانوا يجيدونها أفضل من غيرهم، وفي الحي القريب من مركز المدينة كان رجال الحي يجتمعون في المصلَّى الذي كان يجمعهم بعد يوم عمل مضن لأداء صلاة المغرب فيه، ثم يجلسون في المكان حتى يحل موعد صلاة العشاء حيث تتناوب الأسر في إعداد القهوة و”القُرّاصة” ويذكرون الله، ويتبادلون الأحاديث في شؤون حياتهم اليومية، ثم يتفرقون إلى بيوتهم ليلتقوا صباح اليوم التالي في صلاة الصبح، وهكذا تبدو الحياة روتينية ورتيبة، لكنها توفر قدرًا كبيرًا من الطمأنينة والراحة النفسية التي يفتقدها الناس في هذا الزمان. وفي مثل هذه المجالس كانت تحل الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وخلق آليات للتكافل والتعاضد الاجتماعي بصورته البسيطة.
وفي الفصل الثامن يحكي جمال، بطل الرواية عن جدته التي يناديها أبشاي، وجده الملقب بخليفة، والذي يعرّفه إلى القراء بأنه صانع السروج القديم، والتاجر حاليًّا، كانا عبارة عن ملجأ لجمال يستمد منهما ثقته في الدنيا والحياة، ويتعلم منهما ما لم تكن المدارس العادية توفره في ذلك الزمان. كان الحب المتدفق الذي يحصل عليه من جدته الكريمة، والعطف والحنان الهادئ الذي كان جده يظهره له كلما قدم إليهما، رغم المضايقات التي كان عمر ابن الجيران، يسببها له باتهامه له بأنه يأتي لزيارة جده وجدته في عز الظهيرة ساعة الغداء وكأنه ليس لديه في البيت طعام يأكله، وأنه يأتي في وقت غير مناسب لزيارة الناس، كان جمال يبرر لعمر الذي كان يضايقه بكلماته الجارحة أنه لا يزور أناس غرباء، بل يزور جده وجدته. هنا في هذا البيت تلقى جمال الكثير من التعاليم الدينية والأخلاقية الأساسية في الحوارات التي كانت تجري بينه وبين جدته وجده.
وفي الفصل التاسع من الرواية نتعرف على بتول، زوجة خال جمال الجميلة التي كانت نهايتها تراجيدية، بعد أن أحبها جمال وتعلق بها، وكان يتابع حملها بأول طفل لها الذي مات في بطنها قبل أن تلده، وأودى بحياتها، بنفس الطريقة التي كانت تموت بها الكثير من النساء والأطفال في ذلك الزمان في إرتريا، مع أن مسألة إنقاذ تلك الأنفس من الموت لم يكن يتطلب إلاّ القليل من الإجراءات والتدابير الاحتياطية. وفي هذا الفصل من الرواية نتعرف على عادات الزواج التي بدأت تسود في ستينيات القرن الماضي، وصراع القديم التقليدي مع الجديد الوافد في ذلك الزمان، كما نتعرف على رقصات الزار في حفل الزفاف والذي تحاول الكثير من النسوة أن يحصلن من خلاله على رغباتهن المكبوتة، وغيرها من تفاصيل الحياة في ذلك العهد الذي ولّى من غير رجعة.
وفي الفصل العاشر يصور لنا كاتب الرواية بعيون بطلها جمال أجواء الإرهاب الذي كانت تفرضه القوات الإثيوبية تعاضدها قوات الكوماندوس التي كانت تتكون من الإرتريين الموالين لإثيوبيا، وكيف أن بكري والد جمال واجه أمام أطفاله وزوجته صنوف الإهانة والتهديد الذي مارسه ضده تسفاي الإرتري الذي كان يقود حملة التفتيش ضد منازل المتهمين بالتعاطي مع الحركة الوطنية الإرترية. ينهال تسفاي ضربًا على والد جمال أمام زوجته وأطفاله، ثم يتبعه الجنود الآخرون في شكل مسرحية عبثية أبطالها جبناء لا يتحلون بأي صفات نبيلة وقيم إنسانية عالية تجعل منهم أبطالاً حقيقيين.
أجواء الرعب التي عاشتها أسرة جمال، بطل الرواية، وتعرض والد جمال بكري للتعذيب النفسي والجسدي في عقر داره وأمام ناظري زوجته وأبنائه، كان جزءًا من حياة الكثير من الأسر الإرترية التي كان معيلوها يمتلكون الشجاعة الكافية لإظهار تأييدهم أو دعمهم للثورة. وتأديب هؤلاء من خلال توجيه الإساءة إليهم أمام زوجاتهم وأطفالهم وسجنهم دون وجه حق ودون أية محاكمة لعدة أشهر، كان من الممارسات اليومية العادية هدفها زرع ثقافة الخوف والرعب في المجتمع بأسره. ولكن وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال لم تكن تلك الممارسات تردع الناس من تأييد الثورة ومناصرتها ودعمها، بل كانت الثورة تقوى كل يوم ويشتد عودها ويزداد عدد الملتحقين بها. وهنا فشلت سياسة الإرهاب والتخويف التي ظل هبتوم الإرتري يمارسها بكل صنوف التعذيب والملاحقات لصالح حكومة الإمبراطور حتى يترقى في السلم الوظيفي ويثبت ولاءه لحكومته حتى بعد مقتل سيده وولي نعمته تدلا عقبيت. أما بكري الذي كانت تربيته السياسية على يد الزعيم الوطني الكبير إبراهيم سلطان، وتحت رايات شباب الرابطة الإسلامية، قد تحدى جلاديه بصبر وجلد، وتحمل كل أنواع الإهانة حتى الاعتداء الجسدي في أكثر مناطق الجسم حساسية وإيلامًا. هنا يصور جمال بطل الرواية كيف أن والده لم يكن يستطيع المشي بشكل عادي نتيجة الآلام التي كان يحس بها في المناطق الحساسة من جسمه التي تعرضت للتعذيب لقهره وإذلاله، وكيف أنه عندما كان زواره في البيت لحظة خروجه من السجن يعانقونه، فكانوا يسببون له الآلام دون أن يدروا في عناقهم وضمهم لذلك الجسد المنهك الذي تعرض للتعذيب.
في الفصل الحادي عشر، في ظل غياب بطل الرواية جمال عن مدينته كرن في عطلة الصيف، تصرفت الحكومة أو البلدية بمنح شوارع المدينة أسماء جديدة لا تمت إلى ثقافة وبيئة المدينة بصلة، وهذا أغضب الصبي جمال، وكان يرى فيه اعتداءً على أهل المدينة وتاريخهم بإعطاء الشوارع أسماء الملوك الأحباش، وأمرائهم، وإقطاعييهم، وكان نصيب الشارع الذي يقيم فيه جمال “هيلي ماريام مامّو”، وهو اسم لم يسمع به جمال ولا أهل مدينته، ولا تربطهم به أية صلة، لذا ماتت هذه الأسماء مع من جاؤوا بها، ولم يبق في ذاكرة الكرنيين شيء منها. وفي هذا الفصل من الرواية يتحدث الكاتب عن حياة المجون التي كان يعيشها الإثيوبيين في الحوانيت والخمارات وغيرها التي غيرت من ملامح تلك المدينة الإسلامية التي أصبحت ملامحها بوجود هذا العدد الكبير من الجنود الإثيوبيين أشبه بمدينة مخصصة للخمارات والبارات على شكل ما يشاهده الإنسان الآن في الأفلام الأمريكية التي تصور حياة الجنود الأمريكيين في فيتنام الستينيات والسبعينيات، وهي نفس الفترة التي كان يعيث فيها الجنود الإثيوبيون فسادًا في إرتريا.
وفي الفصول التالية من الرواية، وهي من الفصل الثاني عشر وحتى الخامس عشر، وهي الفصول التي يختم فيها الكاتب القسم الأول من الرواية نجد الكثير من تفاصيل الحياة اليومية لأهل المدينة من خلال عيون جمال بطل الرواية، وهي تفاصيل هامة لجعل العمل الروائي عملاً حقيقيًّا وواقعيًّا فيه تصوير لواقع البلد والشعب، بدءًا من الحياة الأسرية، والعلاقة بين الأجيال المتمثلة في علاقة جمال بجدته وجده وزوجة خاله بتول، التي تنتهي حكايتها ويتوارى جمالها بخطف الموت لها في ريعان شبابها، عند ولادة أول طفل لها، وعن الحركة السياسية الإرترية، والاعتقالات التعسفية التي كانت تحكم العلاقة بين السلطات الإثيوبية وشعب مدينة كرن، وعن أساليب النضال الصعبة والخطيرة التي كان ينتهجها الإرتريون في تلك الفترة للتخلص من مستعمرهم، وعن أشكال التعذيب والإهانة التي كانوا يتعرضون لها من قبل الإثيوبيين وأعوانهم من الإرتريين أمثال هبتوم، وتسفاي، ودجيات، وعن حركة تحرير إرتريا التي كانت تعرف حينها بـاسم “محبر شوعتي” في أغلب المدن الإرترية. هذه التفاصيل الغنية والهامة تجعل من هذا العمل الأدبي الهام معلمًا بارزًا في تاريخ الأدب الإرتري لعدة أجيال قادمة.
وفي القسم الثاني من الرواية الذي يبدأ بالفصل السادس عشر وعنوانه “من الغسق وحتى السحر”، نجد ذلك الحوار الشيق والهام بين جمال وعمه أمان الذي قلنا سابقًا أنه كان أحد أهم مصادر جمال في المعلومات التي لم يكن يحصل عليها حتى من والده الذي كانت العلاقة معه علاقة صداقة وديمقراطية، لكنها لم تكن تتميز بذلك الانفتاح واليسر والسهولة التي كانت بها علاقة جمال بعمه، رغم أن العلاقة بينه وبين عمه لم تكن ديمقراطية، بل تعكس العادات، والتقاليد، والعلاقات الهرمية السائدة. وفي الفصلين اللذين يليان هذا الفصل، وهما الفصل السابع عشر والفصل الثامن عشر نتابع فيهما نمط التفكير الذي كان سائدًا في تلك الحقبة متمثلاً في النقاشات التي تدور بين شخصيات الرواية المتكررة “سرنجي” و”عندوم” و “شاتابهاوس” و “أزماتش” و”حمدي”، هذه الشخصيات التي تضفي على الرواية طابعًا ساخرًا وفي الوقت ذاته جديًّا، عندما تتناقش هذه المجموعة في أحوال الدنيا بمنظور “كرني” خاص، فالحديث عن “جانهوي” الملك الإثيوبي هيلي سلاي، والرئيس جون كينيدي، والرئيس جمال عبد الناصر، يتم في أجواء خاصة، و”بمفاهيم كرنية”، والتنافس في قلوب الكرنيين بين كندي وعبد الناصر كان واضحًا، رغم أن الكفة في جانب المسلمين كانت بالتأكيد لصالح عبد الناصر. كان سرنجي الوحيد الذي يدين الأمريكيين ويصفهم بـ”العملاق المصاب بالعمى (التراخوما)”، بينما يصف عندوم أمريكا بأنها أم العالم التي تغذيه، ولولاها لمات العالم جوعًا. والنقاش عن الاستعمار الإيطالي الذي هزمه الإنجليز في إرتريا، وعن إسرائيل، ومصر وقناة السويس وغيرها، كانت مواضيع تثار في أحاديثهم، ولا تخلو في عمومها من التبسيط، لكنها تنم عن وعي ومتابعة بالوسائل التي كانت متاحة لهؤلاء الناس. وتستمر الرواية في الفصلين الثامن عشر والتاسع عشر على نفس المنوال الذي يتعمق في تفاصيل الثقافة السياسية التي كانت تسود تلك المرحلة.
استوقفني الفصل العشرين من الرواية لتصويره حدثًا هامًّا في تاريخنا الوطني وفي تاريخ مدينة كرن، لما كان لهذا الحدث من تأثير قوي، ظل الناس يتذكرونه لمدة طويلة، وتصوير الرواية لهذا الحدث الواقعي بلغة وأسلوب أدبي رفيع للغاية، والذي يصور استبسال أبطال جبهة التحرير الإرترية بقيادة البطل إزاز في معركة حلحل، في تقديري يعد هذا الفصل إحدى القمم في رواية الكاتب البارع صالح جوهر. ففي الفصل العشرين من الرواية أبدع الكاتب في وصف استبسال أبطال حلحل بعد أن تعرضوا لخديعة ماكرة من قوات الكوماندوس لقائد المعركة البطل إزاز، كما جاء في الرواية. تصف الرواية أجواء مدينة كرن التي كان سكانها يتناقلون الأخبار عن حصار الثوار للبلدة، ثم تنقلك الرواية مباشرة إلى احتفال الجيش الإثيوبي وقوات الكوماندوس، ومجونهم، ورقصهم في حوانيت المدينة، وتفاخرهم أمام المواطنين بأنهم قضوا على المتمردين في حلحل، وظهور الجنود في شوارع المدينة وهم سكارى يترنحون في مشهد يدل على محاولة إخفاء قلقهم وخوفهم العميق من النتيجة، بينما سكان المدينة وجبالها الشاهقة التي تحيط بها كان الوجوم والترقب السائد بينهم.
تشير الرواية إلى أن حلحل قد تعرضت لشهور من الحصار، وأن القوات التي كانت تتواجد فيها، والتي كانت غالبيتها من جنود الكوماندوس، كانت معزولة تمامًا عن العالم، ولم تكن المؤونة تأتيهم إلاّ عن طريق الطائرات المروحية “هيليكوبتر”. في هذه الأثناء تأتي رسالة مع أحد مواطني بلدة حلحل إلى القائد إزاز يخبره فيها جنود الكوماندوس الإرتريين أنهم مستعدون للتعاون معه للسيطرة على المعسكر من الداخل. هذه الرسالة أسعدت القائد إزاز كثيرًا ورد عليهم بالإيجاب مؤكدًا على أهمية تعاونهم للسيطرة على المعسكر والاستيلاء عليه. ورغم شكوك القائد إزاز في قوات الكوماندوس إلاّ أنه قرر مهاجمة المعسكر من الخارج ليساعده جنود الكوماندوس من الداخل، ولم تؤثر شكوكه على قراره بالهجوم.
في الصباح الباكر زحف جنود الثورة نحو المعسكر، وأطلق القائد إزاز طلقة الإشارة للثوار تأمرهم ببدء الهجوم، وأطلق الثوار نيرانهم نحو المعسكر وهم ينتظرون أن تتجاوب معهم قوات الكوماندوس من الداخل. ما حدث كان العكس، حيث أمطر جنود الكوماندوس الثوار الذين كانوا على مقربة من المعسكر بوابل من الذخيرة لم يسمح لهم بالتقدم أو التقهقر، سوى أن يبقوا في أماكنهم، وهنا اكتشف القائد إزاز المؤامرة متأخرًا. استمرت المعركة لساعات، ولم يكن أمام الثوار مفرًّا من المواجهة، فالتراجع كان يعني بالنسبة لهم أن يصبحوا تحت رحمة نيران العدو في ميدان مفتوح، والتقدم كان يعني الاصطدام بحائط المعسكر الذي كان الجنود الذين فيه يمطرونهم بوابل من نيران الرشاشات والبنادق الأوتوماتيكية. كانت المعركة غير متعادلة، وهنا يسقط القائد إزاز فيلتقطه جنوده وينسحبون به تحت وابل الرصاص، بعد أن أعطى القائد أوامر بالانسحاب، وكانت آخر كلمات القائد إزاز كالتالي: “هذه ليست آخر معاركنا انسحبوا لتوفير أرواح الرجال والذخائر”.
تم عرض شهداء حلحل البالغ عددهم 46 شهيدًا في ساحة مدينة كرن المركزية، كما كانت عادة الإثيوبيين في التمثيل بجثث ضحاياهم في محاولة لزرع الرعب في قلوب الإرتريين. جمال، بطل الرواية، يصف حالة العجز والاشمئزاز الذي كان يحس به هو وأبناء مدينته من تصرفات جنود الكوماندوس الهمجية، عندما كانوا يجُرُّون جثث الشهداء لعرضها على الرصيف الذي كانت حافلات السفريات نحو مدينة تسني تقف فيه، ورائحة مادة “دي دي تي” الكيميائية تزكم أنوف سكان المدينة الذين عجزوا عن فعل أي شيء تجاه ما يحدث لأبنائهم ولهم. جمال ابن المدينة، وبعض من أهالي المدينة، بحثوا في الجثث المعروضة عن أبناء أو أقارب قد يكونون بين الشهداء الذين تشوهت ملامحهم بالدم ومادة “دي دي تي” البيضاء التي كانت تغطي وجوه الأبطال.
بطل الرواية جمال يهزه هذا المنظر الفظيع فيتساءل وهو ينظر إلى جثث الشهداء، بماذا كان يفكر الشهداء قبل لحظات من استشهادهم؟ ما هو الدافع للتضحية بالروح؟ هل الحرية تستحق الموت من أجلها إذا لم يكن الشخص الذي يموت سيعيش لحظات منها؟ هل الحرية هي أن تنتهي حياة الإنسان بهذا الشكل معروضًا على الرصيف، ومادة الـ”دي دي تي” تغطي جسمه؟ ما هو الفرق بين موت العقل وموت الجسد، عندما يتعرض الإنسان يوميًّا للإذلال وفقدان الحرية؟ وينظر جمال أخيرًا إلى وجوه الشهداء فيرى فيها علامات الرضا والاطمئنان.
الرواية تصور الاحتفالات التي أعقبت انتصار الإثيوبيين في حلحل، والترقيات التي حصل عليها الضباط في نصر “الخيانة” الذي تحقق لهم، والانتعاش الذي شهدته الدعاية الإثيوبية في المساس بمعنويات الشعب والثوار، وتسليم عدد كبير من أبناء الهضبة المسيحيين أنفسهم للسلطات الإثيوبية بعد أن أحسوا بأن مستقبل الثورة أصبح غير معلوم، واستثمار مدير المدينة “دجيات” لهذا الحدث لتوجيه إهانته للمدينة وسكانها مع أنه ينتمي إليها، وتنظيمه حفلاً كبيرًا بهذا الانتصار في قلب المدينة، وفي مقر الرابطة الإسلامية القديم، يخاطب فيه إسرات كاسا سكان المدينة والجنود الذين احتفلوا بانتصارهم من نفس الموقع الذي كان الزعيم الوطني إبراهيم سلطان يخاطب منه سكان المدينة متحدثًا عن الحرية والاستقلال. كان انتصار الإثيوبيين في معركة حلحل في عام 1968، يأتي بعد عام من انتصار إسرائيل على العرب في حرب الأيام الستة في عام 1967، وكان الانتصار على يد قوات الكوماندوس التي قام الإسرائيليون بتدريبها.
وفي نهاية الفصل يلتقط القارئ أنفاسه ليتعرف على النتائج المستقبلية لهذه الهزيمة العسكرية التي تحولت إلى نصر عسكري ووطني بعد أعوام قليلة من معركة حلحل، بتفكيك قوات الكوماندوس، بل تفكيك الإمبراطورية الحبشية كلها، حيث بقيت معركة حلحل شاهدًا على قوة عزيمة الإرتريين، وعلى شجاعة القائد إزاز وجنوده، ورؤيته المستقبلية الثاقبة، وأن القائد إزاز وشهداء حلحل بقوا رموزًا للعزة والكرامة الوطنية. وهنا يختم الكاتب هذا الفصل قائلاً ” نقطتان تمثلان فخرًا للجبهة: سقوط إزاز في المعركة وهو يقاتل ببسالة مع جنوده، ولم يمت في غرفة محصنة تحت الأرض بعيدًا عن جنوده، ولم يكن أمام المقاتلين تحت قيادته سوى خيارين، الانسحاب إلى الميدان المفتوح تحت خطر الإبادة، أو الاستسلام وإنقاذ أرواحهم، فاختاروا الخيار الأول، الموت وهم يقاتلون عوضًا عن الاستسلام للعدو. لم تتمكن القوات الإثيوبية من القبض على جندي واحد، لم يستسلم أي أحد منهم”.
عمل روائي رائع يؤرخ لمدينة “كرن” 1/3
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=12851
أحدث النعليقات