مرجعية المثقف المسلم من مرجعية مجتمعه
الحديث عن دور المثقف المسلم يعني بالضرورة الحديث عن المجتمع المسلم، والحديث عن المجتمع المسلم يعني منطقيا وجود هذا المجتمع في عالم الشهود والحس، وليس في عالم الأذهان والتخيل فقط، ووجوده في عالم الحس والشهود يعني وجوده متكاملا بكل ما تعنية كلمة ( وجود ) من معنى، أي أنه موجود جسدا ملموسا، وفكرا محسوسا، ومرجعا عقديا مقروءا ومقدسا، وسلوكا مطبقا، وقيما لها السيادة والريادة، منها ما هو ثابت لا يتغير بتغير الأحوال والأزمان، ومنها ما هو متغير حسب تغير ظروف المكان والزمان، وفق مقتضيات التطور البشري، والمثقف المنتمي إلى هذا المجتمع، يفترض أن يكون موصولا به، لا مفصولا عنه، يعبر عن قيمه من خلال اعتزازه بمرجعيته العقدية، وتثبيت ثوابت هذه المرجعية، وعدم المساومة فيها، أو التنازل عنها، أو المقايضة بها في أي حال من الأحوال، في إطارها تكون اجتهاداته التطويرية، وبهذا ينطبق عليه فقط وصف ( المثقف المسلم ) وإلا فلا، أيا كان تخصصه العلمي، مجال الدراسات الإسلامية، أو مجال العلوم الإنسانية، أو مجال العلوم التجريبية، وأيا كان الزي الذي يرتديه، أو اللغة التي يتحدث بها، وأيا كان المحيط الذي ينشط فيه، سياسيا، أو ثقافيا، أو اقتصاديا، والأمر نفسه يقال بالنسبة للمثقف المسيحي، وهذا يقودنا إلى الإقرار بثنائية الثقافة في مجتمعنا الإرتري، الثقافة الإسلامية بمرجعيتها الإسلامية، والثقافة المسيحية بمرجعيتها المسيحية.
ثنائية الثقافة في المجتمع الإرتري
ثمة من يرفض الإقرار بثنائية الثقافة في المجتمع الإرتري ( الثقافة الإسلامية ) ( الثقافة المسيحية) ويرى في القبول بهذه الثنائية تشطيرا للمجتمع إلى شطرين متنازعين، متنافرين، ومتنافسين، وتهديدا لوحدته الوطنية، وينادي عوضا عن ذلك بما اصطلح هو على تسميته بـ(ثقافة القوميات) منها تنشأ(الثقافة الوطنية )!! ولكن من غير أن يقول لنا: ما معايير التعاطي مع ثقافة القوميات رفضا وقبولا؟ ما مرجعيتها؟ وما علاقة هذه المرجعية بمرجعية المجتمع العقدية؟ ما أصولها الذي ترتكز عليه؟ من الذي يحدد معالمها، ثوابتها، متغيراتها؟ وهل هناك فعلا قوميات؟ أم أنها قبائل وعشائر وعوائل؟.
ربما يقال: إنها الثقافة التي نستقيها من ماضي تراثنا الاجتماعي، وننميها بمجهوداتنا الذاتية من خلال تطورنا المستمر في لغاتنا، وفنوننا، وعلاقاتنا الاجتماعية، في أفراحنا وأتراحنا، وعاداتنا وتقاليدنا، وإذا ما سألت: أين يقع الدين من تنمية هذه الثقافة وتهذيبها؟ قيل لك: إن الدين شأن خاص بين العبد وربه، دائرته التي يعمل فيها لا تتعدى حدود المسجد بالنسبة للمسلم، والكنيسة بالنسبة للمسيحي، تحت مراقبة إدارة الأديان في وزارة الداخلية، ولا علاقة له أبدا بالثقافة التي على ضوئها ترسم الخطة الإعلامية في المجتمع، ولا الخطة التعليمية مثلا، ومعلوم أن هذين المجالين هما من أهم مجالات البناء الثقافي، وآلياتهما من أهم آليات التأثير الثقافي، وبهذا يقع المجتمع بكل خصائصه تحت تغول (اللادينية) وقهرها، محكوما بثقافة لا تمت بأي صلة إلى مرجعيته العقدية، ويفرض عليه في مثل هذه الحالة أن يشاهد أفلاما خليعة هو وأسرته، من خلال التلفزيون الوطني مثلا، وأن يتعرف ابناؤه على ( الكندوم ) ( الواقي الطبي ) في سن المراهقة، يوزع على الطلاب في المدارس والطرقات، بحجة نشر الثقافة الجنسية، أو قل الإباحية الجنسية؛ لأن توزيع ( الكندوم) (الواقي الطبي) يعني دعوة المراهقين إلى ممارسة الجنس، ولكن باستخدام هذا الواقي، حتى لا يصابوا بالمرض القاتل، كما هي ثقلفة الغرب مع أبنائه المراهقين في المدارس، وفي نظرته للعلاقات الجنسية بشكل عام، وهكذا يقع المواطن في أزمة ثقافية، وخوف شديد على أسرته، يعيش حالة التناقض المؤلم والقوي بين قيم ثقافته التي نشأ فيها، ويسعى إلى تربية أبنائه عليها، وبين تغول (اللادينية) بثقافتها التي لا تقيم لهذه القيم أدنى وزن، وربما اضطر من جراء ذلك الضغط الثقافي متى اشتد عليه إلى الهجرة خارج الوطن، السودان أو غير السودان، حيث يظن أنه آمن على أهله ونفسه من الناحية الثقافية، مهما كانت المتاعب الاقتصادية التي تواجهه ويواجهها، وبهذا تكون هذه الثقافة اللادينية ثقافة طاردة إن لم يكن للجميع فبالذات للعنصر المسلم الذي يجعل من (العرض) مسألة في غاية الحساسية، بحكم أن إسلامه يطالبه بالحفاظ على ضروريات الدين الخمس التي جاء الإسلام بحفظها، وجرم كل من يعتدي عليها، وهي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العرض ( النسل ) حفظ العقل، حفظ المال.
الثقافة الوطنية من قيم المواطنين
وبناء على ما سبق فإن الثقافة الوطنية لا تكون وطنية إلا حين تنبثق عن قيم المواطن، وتستمد شرعيتها من مرجعيته، وأن ثقافة القوميات الإرترية ـ إذا افترضنا وجود قوميات ـ محكومة بقيم مقدسة ومقدرة عند هذه القوميات، ويمثل الدين في المجتمع الإرتري بكل قومياته أهم مصادر هذه القيم في بناء الثقافة الوطنية، لا فرق في ذلك بين (الإسلام) و(المسيحية) ومن الممكن جدا أن تتأسس هذه الثقافة الوطنية على هذه المرجعية الدينية للمجتمع الإرتري، فتحارب كل ما يتناقض معها من الثقافات الدخيلة، بحكم أن القاسم المشترك بين الإسلام والمسيحية في محاربة الثقافات المنحلة متين جدا، ومساحة التوافق بينهما في هذا الميدان واسعة جدا، فالإنجيل مثلا كما القرآن يحارب الإفساد في الأرض بالتحريض على (الزنا) أو (اللواط).. أو سرقة ممتلكات الآخرين، أو العدوان على حياتهم بالقتل، أو الجرح، فمن وصايا عيسى عليه السلام، كما جاء في إنجيل متى (العهد الجديد) الأصحاح 19 مقطع 16 ” لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد الزور، أكرم أباك وأمك، وأحب قريبك كنفسك “.
وفي الأصحاح 15 مقطع 20 من إنجيل متى ” وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك ينجس الإنسان، لأن من القلب تخرج أفكار شريرة، قتل، زنا، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف، هذه هي التي تنجس الإنسان”.
ففي هذين النصين الإنجيلين التشديد على حفظ ما له صلة في إسلامنا بما يعرف بـ(الضروريات الخمس) ( لا تقتل ) حفظ النفس، (لا تزن) حفظ العرض، ( لا تسرق ) حفظ المال، إلى جانب قيم قضائية تؤسس لعدالة ناجزة وقائمة، تجرم من يعتدي عليها بالتزوير ( لا تشهد الزور ) وقيم اجتماعية، تعصم المجتمع من الانحدار في الفسوق ( من القلب تخرج أفكار شريرة، قتل، زنا، فسق) وتوثق الصلة بين أفراده، بين الأبناء والآباء، بين الأقرباء، بين الجيران، كل يحب الآخر، ويتعاون معه، لا على الاثم والعدوان، وإنما على البر والتقوى (أكرم أباك وأمك، وأحب قريبك كنفسك ).
واقع هذه القيم في ظل ثقافة الانحلال اللاديني
هذه القيم الوطنية بالطبع تتلاشى حين تكون الثقافة العلمانية ( اللادينية ) التي يؤصل لها اللادينيون هي السائدة، وهي المسيطرة في توجيه المجتمع، وهي المتفردة برسم مختلف سياساته، وهذا هو الجاري الآن في المجتمع الإرتري فعلا، فالقتل، والخطف، والإخفاء القسري، يمارسه النظام من غير أن يخاف عاقبته الجنائية، ولا المحاسبة الأخروية، وثقافة التجسس تتعمق بين المجتمع بتشجيع من النظام، يوما بعد يوم، ترصد لها الميزانيات الكبيرة التي تصرف على الجواسيس الذين يشهدون بالزور في غياب العدالة الناجزة، ويؤذون الأبرياء من المواطنين بالاعتقالات التعسفية، أو يعدمونهم من غير ذنب اقترفوه سوى معارضة سياسات النظام، أو بمجرد التهم والتلفيق، وما عاد عيبا اليوم نتيجة هذه الثقافة الرديئة أن يكون الفرد جاسوسا على أهله، وأخوانه، وأقربائه، إذ السياسة الأمنية المطبقة سلطت القريب على قريبه، والجار على جاره، والأخ على أخيه، والابن على أبيه، رفع تقارير عن هذا وذاك، والتلصص على مجالس الناس، ومتابعتهم في أقوالهم، ماذا يتحدثون، وماذا يقولون ( هزبي إنتاي يبل ألو ) وجعلت من هذه الثقافة مطلبا وطنيا.
أما من الناحية الأخلاقية فقد عم الفساد الأخلاقي قطاعات كبيرة من الشباب، إذ البارات منتشرة بشكل مقرف، حتى أضحت ثقافة تعاطي الخمور علنا على مقاعد البارات غير محرجة في المناطق الإسلامية، وبات (السوا) يعصر في القرى والأرياف من مناطق المسلمين، بحجة أنه جزء من الثقافة الوطنية، بعد أن كان ذلك أمرا مستهجنا ومستقبحا، حتى أن الشرفاء من متعاطيه كانوا فيما مضى يتعاطونه خفية احتراما لقيم المجتمع المسلم، لا جهرا كما يحدث اليوم، وأحياء الخمارات كانت أحياء منبوذة لا يقترب منها إلا المبتلون، وحتى هؤلاء المبتلون لا يقتربون منها إلا تسللا، وقد تحدث أبوسعدة عن ثقافة تعاطي الخمور في المجتمع الإرتري بشكل عام، مبينا عدم قبول ذلك في مجتمع المنخفضات من مجتمعات المسلمين، فقال في كتابه ( إرتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال ص 203 ) : هناك عادات وتقاليد لا يستطيع الإنسان تجاوزها مطلقا، فالشرب أي تناول الكحول غير وارد مطلقا في المنطقة الغربية والساحل، وعلى مدى السنوات التي عشتها في الريف لم أر شخصا واحدا يتناول الكحول ضمن هذه المناطق، ومن يتناولها فهو ملعون، لكن في المرتفعات ومدنها فشرب الكحول وغيره، هي أشياء عادية…”.
حتى الثقافة التجرنياوية في المرتفعات تعير متعاطي الخمور إلى حد الإدمان، إذ نسمع شتائما تكال على المدمن، من نحو ( أتا سكران ) كما نسمع تعيير أبناء العاملات في بيوت الخمارات بحرفة أمهاتهم، من نحو (ودي خماريت ) (يا ابن الخمارة) في إشارة إلى الحقارة والازدراء بعاصرة الخمر العاملة في (اندا سوى ) وإنها تمارس حرفة دنيئة لا يمتهنها الشرفاء من المجتمع؛ مما يعني أن مدمني الخمر ليسوا أسوياء، ويمثلون حثالة المجتمع، وأن العاملات في الخمارات لسن مقدرات من المجتمع التجرنياوي ومحترمات منه، لكن انظر كيف تسير الأمور الآن بين الشباب في أسمرا، وكرن، وسائر المدن الإرترية، وبين صفوف الجيش الشعبي، والكثير من قياداته، قتلتهم الخمر وفتكت بهم، وكأن الأمر مدبر له ومخطط، لم يأت من فراغ، إذ الإفساد جزء من شروط بقاء الديكتاتورية واستمرار نهجها الشيفوني، وهنا دعني أنقل لك ما قاله المواطن (قيتؤوم) في تقرير نشرته جريدة (النبض) الناطقة بلسان اتحاد الشباب الإرتري التابع للنظام عن الملاهي الليلية في أسمرا في العدد ( 107) النصف الثاني من إبريل 2001م، يقول هذا المواطن: إن الجهات المعنية تطالبنا بانضباط أبنائنا، وأخوتنا، بينما في الواقع هي أكثر من يدفعهم لذلك … ليس هناك شيء اسمه الحرية، إذا كانت ضد التقاليد والعادات، ليس من المعقول أن يكون لأحد الحرية في أن يسيء إلى مجتمع وأسرة هي أساس نشأته، من أين له هذه الحرية إذا كان يمارسها وهو يسيء إلى عاداتنا وتقاليدنا؟ تطالب الجهات المسؤولة أولياء الأمور بمتابعة وانضباط أبنائهم، بينما هي تسهل لهم طرق الانحراف!!، أجل هذه هي الحقيقة، ما الداعي للملاهي الليلية ؟ “.
نعم الجهات المسؤولة هي من تدفع هؤلاء الأبناء إلى الفساد، وهي التي توفر لهم سبله ووسائله، هذه هي الحقيقة كما قال المواطن قيتؤوم، نعم ما الداعي للملاهي الليلة غير الإفساد الممنهج، كذلك الأمر في معسكر (ساوى) فما فيه من الإفساد الأخلاقي أزكم الأنوف، وأرق النفوس الشريفة.
إنها طبيعة الأنظمة الشيفونية وديكتاتوريتها، تأسس لمثل هذه الثقافات، وعليها تتغذى، ومنها تستمد قوة بقائها، إذ لا يمكن أن تبقى من غير ثقافة الإفساد في الإرض، لأنها فاسدة في ذاتها، ولا يمكن أن تخرج لنا إلا ما كان فسادا، (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ).
وصدق عيسى عليه السلام حين قال: من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنبا، أو من الحسك تينا، هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا جيدة. وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا ردية، لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارا جيدة، كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار، فإذا من ثمارهم تعرفونهم.
وهكذا أيضا أن الثقافة الرديئة هي تماما كالشجرة الرديئة التي لا تقدر أن تصنع أثمارا جيدة، على عكس الشجرة الجيدة، فإنها تصنع ثمارا جيدة، وليس من علاج للثقافة الرديئة إلا اقتلاعها من جذورها، والإلقاء بها في النار، كما تقتلع الشجرة الرديئة ( كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار ).
المثقف المسلم أو المسيحي هو من يتميز عن هذه الثقافة
أجل، من ثمارهم نعرفهم، كما قال المسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا السلام فالذي خبث لا يخرج إلا نكدا، والشوك لا يثمر عنبا، كما الحنظل لا ينتج إلا مرا، إنها ثقافة اليسار الماركسي التي ابتلي بها الشعب الإرتري في الثورة الإرترية ( حزب العمل ) في جبهة تحرير إرتريا، الذي ورثنا الهزيمة النكراء بثقافته النكدة، ونكب جبهة تحرير حين تبنى في داخلها هذه الثقافة الإفسادية، ولو قدر له أن يصل السلطة لفعل في ظني نفس ما يفعله الآن خصمه الماوي ( حزب الشعب ) الذي ما زال يعيث في الأرض فسادا ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالو إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ).
المثقف إذا ما أراد أن يوصف بـ( المسلم ) أو ( المسيحي ) عليه الانطلاق من قيم مجتمعه النبيلة والحفاظ عليها، ومقاومة هذه الثقافة المنحلة التي أصل لها الماركسيون وما زال يسير عليها الآن فلول حزب الشعب تحت قيادته الشيفونية.
وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
22 رمضان 1433 الموافق 11/8/2012
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=25128
أحدث النعليقات