عصــــب بين الماضي والحاضر!(1ــ2)
بقلم : ادريس حسن يعيدي
مقدمــــــــــــــــــــة!
منذ أمد ليس بالقصير تُراودني أفكار الكتابة عن مدينة عصـــب وعن تاريخها العريق وعن تَمَيزِها الجُغرافي وعن مكانتها الريادية و إسهاماتها الكبيرة في المنطقة. لكنني إستثقلت الكتابة لفترة طويلة أولاً: لعدم وجود مَصادر مَكتوبة يمكن الرجوع إليها بسبب رُكُون العفر بالثقافة الشفاهية وبالتالي لم يتم تدوين تاريخها وأنه ما زال قَابع في صُدور المُعَمِّريين والأكابر. وثانياً: وجدت فَجْوة كبيرة بين صُورتها المُتألقة الحالمة في الماضي وصُورتها المُدمرة البائسة في الوقت الحاضر . وأن عقلي لم يستطع إستيعاب هذه المُفَارقة وبالتالي وجدت صُعُوبة لفَهْم وهَضْم كيف تَحَولت عصب الصامدة التي كانت عَصَية علي الإنكسار والإنحناء لأعتى المستعمرين علي مر العُصور. الي مدينة مُنْكسرة مَنْكُوبة خَاوِية وفَارِغَة من أهلها في عهد الحرية وبعد إشراقة فجرها الجديد وفي الوقت الذي كان ينتظر فيها أبناء المدينة عصر الحرية والنهضة. لكن رغم إسْتِيِائِي وشُعُوري بالغُبْن الشديد قررت الكتابة عن ماضيها كيف كانت ناصعة وعن حاضرها كيف هي مُظلمة وبائسة وقلت في نفسي مُستدركاً لماذا لا أسجل هذه المآسي؟ وتَساءلت نفسي إنْ لم أكتب ما أرآهُ بأم عيني وما تَسْمَعَه أُذُنِي من يكتب عنها؟. وخاصة أعتبر نفسي بأنني مُطلع علي الكثير من قِصَصِها وحَكَايَاتِها وأسَاطِيرها في القديم والحديث بحكم تَتَبُعِي لتاريخها الطويل وتَسَاؤُلاتِي الكثيرة عن شَأْنِها بالمَعْنِيين ومُعَاصَرَتِي لبعض أهم مَراحلها التاريخية ومن حسن حظي فكم تلذذت في مُسَامَرة تَاريخها العريق مع الأكآبر! وكم شَمَمْتُ من عَبَقِها الفَوَّاح وأرِيجِها الأخآذ من طَبيعتها ! وكم حضرت من مهرجاناتها الثقافية وإحتفالاتها الفنية ومَعَارضها المُتَنَوِعَة في مَسَارِحَها الشعبية وفي مَيَادِينها العامة! وكم إسْتَمْتَعْتُ بِمَنَاظِرها الجميلة وبِمُنْتَجَعَاتِها السياحية وبأسواقها المُفْعَمَــــــة بالحَيـَــوِية والنشـــاط! وكم سَحَـــرَتْنِي أرْصِــفَتِــها المُغْـــتَضَة بالقَآدمـــــيين والرَّآئحـــيين من كل الجـــــهات! وكم أسَـــرَتْـــنِي شَوَاطِــئِها الذَهَــــبِية المُمْتَلِئَة باليَخْتَــات الســـياحية ذات الأشْرِعَة الفَــاتِنَة بجَوَار البَوَاخر الضخمة والسفن العالمية المَرْصُوصَة في مِينَائِها العِمْلاقَة!. بالإضافة الي مُعَايَشَاتِي لفترة عِشْرِين سَنَة الأخيرة التي حَكَمَها وما زَال يَحْكُمُها نظام الجبهة الشعبية بقيادة أسياس أفورقي. لذلك عَزَمْتُ بكِتابة تاريخ هذه المدينة العريقة مُبْتدِءاً بتسليط الضوء علي أهمية مَوْقِعِها الجُغْرافي المُميز ومُثَنِياً بالحديث عن أشياء مُوجزة من تاريخها القديم والوسيط والحديث وخِتَامَاَ سأركز الضوء الكاشف علي حاضرها وفترتها الراهنة.!
موقعها الجُغـــرافي!
عصب مدينة جميلة ساحــرة حَبـَــاهَ اللهُ موقع جُغرافي تَلَخَصَت فيها جَوْهَر الإستراتيجية وعُصَارة تأثيراتها المختلفة وتَجَمَعَت فيها خُلاصَة الحَيَوية وزُبْدَة تَفَاعُلاتِها المتنوعة. وأنها تقع في الركن الغربي من البحر الأحمر وتتمركز خريطتها في الزاوية المِفْتَاحِية من مضيق باب المندب الإستراتيجي وبالتحديد يقع مركزها فوق خليج عصب المُطل علي مضيق باب المندب الإستراتيجي وهو عبارة عن يابسة تحركت بفعل العوامل البيلوجية حتى إخترقت البحر نحو العمق وما زال رأس الخليج يقف شامخاً علي بُعد أمتار قليلة من حافة المضيق ويبدو للناظر إليه في الخريطة كأنه شاهد عيان الذي يُراقب حركة العابرين هنا وهناك أو كمن يمد يده نحو الضفة الأخرى. إذن هذا يعني أن مدينة عصب هي مدينة ذات خلفية إفريقية ولها قَاعدة رَاسِخَة في تُربة القرن الإفريقي لكن واجهتها البحرية تعانق الجزيرة العربية وتحاذي موانئ ومدن في الضفة الأخرى كالمخاء والحديدة وتعز وفي نفس الوقت تقع في طريق الملاحة البحرية وأمام الخط الدولي الذي يربط بين العالم الشرقي والغربي. وهذا التموضع الرهيب أكسبها إمتيازات جيو إستراتيجية وحيوية وجاذبية لا مثيل له بل أَضْفَت على المدينة صِبْغَة عالمية لأنها لعبت بأدوار غاية الأهمية وغاية الحيوية والجاذبية وهي أدوار قلما تجتمع لموقع واحد لكنها إجتمعت لعصب وميزته عن غيره وأهمها هي أربعة أدوار رئيسية:-
أ- لعبت بدور المفتاح الذي يمكن إستخذامه في التحكم والسيطرة علي مضيق باب المندب المعروف بإستراتيجيته العالمية بسبب قُرب موقعها علي حَافَة المُضِيق من نَاحِية ومن نَاحِية أخرى إمْتِلاكِها في يَمِينِها “جزيرة حالب” وفي يِسَارِها “جزيرة فاطمة” تُشْبِهَان كأنهما قرنين أماميتين للمدينة وهما جزيرتين معروفتين بحساسيتهما الإستراتيجية بسبب إطلالتهما المباشرة علي الشريان الحيوي وإمكانية إستخدامهما لأي أغراض سواء كانت هجومية ضد المضيق أو دفاعية لحمايته أو لأغراض أخرى إستخباراتية كالتجسس والمراقبة عليه. إذن هذا الموقع بهذه المواصفات يُعْطِي لمن يُسيطر عليها مفتاح طبيعي للسيطرة علي الممر الدولي بدون بذل أي جُهد بشري إضافي. فما بالكم لو سيطر عليها من يمتلك إمكانات بشرية وعلمية وتكلولوجية مُتَطَورة.! وهذه المِيزَة الإستراتيجية دائماً هي التي دَقْدَقَتْ مَشَاعِر المستعمرين وألهبت عَواطِفهم وحركت رغباتهم وأحلامهم الجشعة نحو السيطرة والتحكم علي هذا الموقع وبالتالي عصب قبلة لجحافل المستعمريين والمحتليين جيئة وذهاباً طوال قًرُون حتى مَنَعُوا عنها الدفئ والعيش بسلام وإنما عاشت في أغلب عصورها في أتون المحن والفتن وأمام العواصف والأزمات المباشرة أو غير المباشرة.
ب- لعبت بدورالبَوَّابَة للعُبُور والتلاقي بين شعوب الضفتين مما أهلها بلعب دور المركز الوسطي الذي يجمع سُكان الجزيرة العربية من جهة وسكان القرن الإفريقي من جهة أخرى حتى سهلت التبادلات المنفعية بين شعوب الضفتين مع مرور الزمن تطورت أكثر وأصبحت مدينة تجارية مزدهرة إنهالت عليها بضائع الجزيرة من هنا ومنتجات الهضبة الحبشية من هناك.
ت- لعبت بدورالسنترال العالمي وكمحطة بحرية في طريق الملاحة العالمية لأن ميناء عصب موجودة علي مرمى حجرمن خط الملاحة الدولية الذي تمر من خلالها التجارة البحرية بين العالم الغربي والعالم الشرقي ويمر منها نفط الخليج الي مناطق الإستهلاك حتى أصبحت عصب عبارة عن محطة ترانزيت دولية ومحطة الإستراحة ومحطة لتموين السفن العالمية والبواخر العابرة بالمؤن والوقود والمياه العذبة التي إشتهرت بها المدينة.
ث- لعبت بدور الوسيط بين الهضة الإثيوبية والجزيرة العربية لأن عصب يُعْتبر أقرب ميناء بحري على حاضرة الهضبة أديس أبابا فمثلاً تَبْعُد ميناء عصب عن أديس أبابا بمسافة 624 كيلومتر وتَبْعُد ميناء جيبوتي عن أديس أبابا بمسافة 910 كيلو متر وتَبْعُد ميناء بَرْبَرَة عن أديس أبابا بمسافة 943 كيلومتر وهذه أقرب ثلاثة موانئ علي العاصمة الإثوبية وميناء عصب أقربها على الإطلاق والفرق بينها وبين ميناء جيبوتي الذي تليها من حيث القُرب هو 286 كيلو متر وهذا الرقم كبير وأنه فرق هائل جداً. وأما المسافة البحرية بين مدينة عصب واليمن في الضفة الشرقية تضيق الي حُدود 40 ميل بين عصب والمخاء اليمنية والى 20 ميل بينه وبين باب المندب.!
إذن هذه المُميزات النادرة أهلت المدينة بدور طليعي وقيادي في المنطقة حتى تَرَبَعَت في قِمَّة النُفُوذ الإستراتيجي وفي ذُرْوة النشاط التجاري والإقتصادي. وسجل التاريخ بمُساهماتها الإقليمية العظيمة كمركز تجاري مُزدهر يربط بين القارتين آسيا وإفريقيا وكمنفذ بحري رئيسي لشُعوب المنطقة وخاصة شعوب الهضبة الحبشية وكمعبر أساسي يربط بين الضفتين. وكذلك سجل التاريخ خدماتها الجليلة للملاحة العالمية كمحطة للإستراحة والتموين بالمؤن والوقود أمام خطوط العبور الدولي وأدوارها الجيو إستراتيجي حتى أصبحت عصب مِحْوَر للصراعات المُعقدة بين القُوى الدولية والإقليمية المتنافسة عليها. وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين تعاظم نفوذ عصب وإرتفع شأنها وتبوأت مكانة مرموقة في المنطقة حتى صارت جَوهرة المدن الساحلية اللامعة ولُؤلؤة البحر الأحمر المُضيئة وأحد أهم المنافذ الإستراتيجية العملاقة في الشريط الساحلي للبحر الأحمر. وبسبب أهميتها الكبيرة وتأثيراتها العميقة وجاذبيتها المُثيرة ونُفُوذها واسع وحيويتها التجارية والإقتصادية المَهُولَة إكتسبت ثقل السياسي كبير حتى أصبحت حاضرة في كل الأجندات السياسية وصارت وَجبة رئيسية في الطاولات الساسية وأنها لم يَغِبْ إسمها من الطاولة السياسية بين إرتريا وإثيوبيا سواء كان علناً أو سراً منذ بداية الأربعينات من القرن الماضي حتى اليوم. بل أصبح إسم عصب عَامل مُثير للصراعات السياسية في المنطقة وعُنصر مُوجه لمساراتها وهي عبارة عن صندوق أسود الذي تكمن فيه الإجابات الصحيحة للحلول المُمْكنة للصراعات التي تدور في القرن الإفريقي بين إرتريا وإثيوبيا حتى إرتبطت بالمفهومي القومي لكلا الدولتين لأن إرتريا تُعتبر عصب جزء لا يتجزأ من سيادتها الوطنية وأنها أحد أهم مُدنها الأساسية وأحد أهم مَوانِئها الرئيسية وأحد أهم مَراكزها التجارية والإقتصادية وأنها عاصمة أحد الأقاليم الإرترية التي يقطنها العفر ولولا هذا الإقليم لا معنى للخريطة الإرترية بِرُمَّتِها. وأما إثيوبيا تعتبر عصب شريان رئيسي يُغذي شراينها الحيوية في الهضبة وأنه أقرب منفذ بحري علي حواضرها في الهضبة وبالتالي لولاه ستكون إثيوبيا دولة حبيسة بلا منفذ بحري ومعزولة عن العالم الخارجي. وكذلك إكتسبت هالة شعبية وشُهرة جماهيرية كبيرة الى درجة التى صارت فيها كلمة عصب عبارة عن أيقونة التي تتكرر علي الألسنة على سبيل الإفتخار والإعتزاز وتتسمى بها الفنادق والمطاعم والمقاهي الشعبية في القرن الإفريقي وفي خارجه.!
عصـــــــــــب في المــاضـــــي!
أعُود بذاكرتي الي الماضي القديم لمدينة عصب لإستكشاف جُذورها التاريخية المُمْتَدة الي آلآف السنيين لكي أتتبع عن خط سيرها التاريخي المُنْحَدِر بإنْسِيَابِية مُطْلَقَة من القديم الي المتوسط حتى الحديث. ومن خلال قراءاتي للمصادر التاريخية وإسْتِقْرَائِي لطُبُوغْرَافِية مَوقِعِها الجُغْرافي وتَأَمُلاتِي في تاريخها السياسي والإجتماعي وإسْتِنْطَاقِي لبعض المَوْرُوثَات الشَّفَاهِية التي تَنَاقَلتها الأجيال العفرية جيلاً بعد جيل تَوَصَلَتُ الي إقْتِنَاع رَاسِخ بأن مدينة عصب المُعَاصِرة هي مدينة تاريخية ذَات إمتدادات مُوغلة في القدم حتى إستحقت وصفها بأنها عبقرية جغرافية بسبب روعة موقعها الفريد وكذلك تستحق توصيفها بأنها جوهرة تاريخية لأنها كانت تقوم بأدوار التواصل التاريخي والحضاري بين الضفتين في العالم القديم منذ قُرُون تعود الى ما قبل الميلاد.وأن عطائها وإسْهاماتها التاريخية والحضارية والإجتماعية والتجارية إستمرت عبر القرون الطويلة حتى الي العصر الحديث. وعندي أدلة كثيرة وإثْبَاتَات مُتعددة وأمامي عوامل عديدة وإعتبارات مُتنوعة كلها تُؤكد بوُضُوح عراقة المدينة وقِدَم تاريخها في المنطقة وبعضها يصل الي درجة الحقائق. إذن سأقوم بسرد هذه الأدلة والبراهين وتلك العوامل والإعتبارات إستناداً على الأُحْجِيَات التاريخية القديمة والحقائق الجُغرافية وعَبْقَرِية مَوقِعِ المدينة الفريد للغاية الذي لا يَتَصَور أحدٌ بخُلُوِهِ من السكان القاطنيين بأي عصر من العُصُور والمُخلفات الأثرية القديمة التي تَرَكُوها كعلامة توضح بأنهم كانوا هنا يوم ما في القديم والمَوْرُوثات الشعبية المَخْزُونَة في العقل الجَمْعِي لأبناء المدينة وهم الشعب العفري. ومن أهمها هو مَنْطَقِ الدراسات الأنثروبولوجية وبعض البُحوث التاريخية التي أكدت وما زالت تُؤكد بأن مَنطقة شرق إفريقيا عُموماً وبالأخص مَنطقة حَوض البحر الأحمر الذي يُعْتَبَر موقع عصب بالنسبة لهذه المنطقة بمثابة حبل السُرة أو نُقطة مَرْكزية تَتَمَحْور حوله الأهمية الإستراتيجية والحيوية والجاذبية الذي تَتَمتع به المنطقة هي من المناطق التي حَظَيت بإستيطان بَشَري منذ فجر التاريخ بإعتبارها مَوطن أقدم المجموعات البشرية. وإكتشافات لأقدم هياكل بشرية التي تم عُثورها في المنطقة العفرية في إثيوبيا عَزَزَت صِحَة الفَرَضِية التي أثبتها الأنثوروبولوجيين. وهناك رِوَايَات تَارِيخِية وخَرَائط جُغْرافية في الكُتُب الكلاسيكية لليونانين والرومانين القُدَامِى تُؤكد بوُجُود مدينة كانت مُزْدِهرة وعامرة في القُرُون الثلاثة الأولى قبل الميلاد في خليج عصب أَقْوَى مدينة وأكثرها نُفُوذاً في الجانب الإفريقي من باب المندب. وهذا يعني أنَّ خليج عصب منذ تلك الأزمنة السحيقة كان له دُور الإستراتيجي والحيوي في التواصل الإجتماعي والتجاري والحضاري مع الجانب الشرقي من الجزيرة العربية الذي هو مَوْطِن ومَنْبَعْ حضارات سَبَأْ وحَضَرَمُوت ومَعِين وقَتَبَان وأَوْسَان والحِمْيِرِيين. وقد تَكررت في كثير من كتاباتهم وفي خرائطهم بإسم مدينة سَبَا أو سَبَئِيِّين وأنها وردت بثلاثة ألفاظ (saba أو sabae أو sabaen). وفي 1879م أجرى البروفيسور الإيطالي جُوزَابِي سَابِتُّو تحقيقاً في كتابه عن عصب أثناء فترة الإستعمار الإيطالي للمدينة عن تحديد موقع تلك المدينة التاريخية بالضبط من خليج عصب وفي النهاية قام بتحديد بُقْعَة تُسَمَى بـ(شِيخ دُورَان) وهي تقع بقُرب عصب كبير من الجنوب. وكذلك دكتور هاشم في كتابه (المنهل) أجرى تحقيقات المُسْتَفِيضَة حول تلك الروايات التاريخية لليونانيين والرومانيين ومُقَارَنَات المُطَوَلَة حول الخرائط الواردة في كتاباتهم وخاصة حول الخريطة التى وردت في كتاب (جُغرافية إسترابو) في القرن الأول قبل الميلاد عن الساحل العفري للبحر الأحمر المُمْتَد من ميناء مصوع الي مدينة زيلع في خليج عدن. وإنتهى بتحديد موقعها في بُقْعَة قريبة من مَصَب وادي (مَرْ قَابلة – marrigabla ( التي تقع اليوم في جنوب عصب كبير. إذن هذا الموقع الذي حدده دكتور هاشم قريب جداً بموقع آخر الذي حدده قبله بروفيسور سابتو وكِلاهما موجودان اليوم في الطرف الجنوبي لمدينة عصب. وهذا يعني أنّ موقع مدينة عصب الذي نعرفه في الوقت الراهن ليس ببعيد عن موقع تلك المدينة التاريخية بل يَكَاد يكون موقعها الحالي هو نفس موقع تلك المدينة الغابرة التى كانت مُزدهرة في قُرُون ما قبل الميلاد. إذن نتائج التحقيقات الذي إنتهى إليها الباحثان تَنْسَجم مع الحقائق الجُغرافية للمدينة وعَبْقَرية موقعها الفريد الذي لايمكن أنْ يتصور أحدٌ خُلوه من القاطنين بأي عصر من العصور. وتنسجم كذلك مع الحقائق الأثرية الذي خَلَّفَه الأقْدَمِين وحَفرياتهم المَطْمُورة التي تَزْدَخربها خليج عصب ومُسْتَحْدَثَاتِهم القديمة التي تَتَوالى حِيناً بعد حِين مما يَدُل أنها كانت مَسْرحاً للإستيطان والتعمير والنشاط البشري في الأزمنة الغابرة. وأيضاً أن الشعب العفري يمتلك في عَقْلِهِ الثَّقَافِي الجَمْعِي روايات تاريخية شَفَاهِية ونُصُوص أدبية وحِكَايَات أُسْطُورية عن تاريخ عصب ومَآثِرِها القديمة وأَمْجَادها الغابرة وفيها إشارات لأماكن خالدة ومواقع أُسْطُورِية التي ليس لها وُجُود في الوقت الحالي الإ في بُطون الكتب الكلاسيكية القديمة وفي خرائط اليونانيين القُدَامى. مما يُوحِي أنه تُرَاث قديم بَعِيد الغَورتَناقلتها الأجيال العفرية جيلأً بعد جيل حتى الي يومنا هذا. وهنا يَجْدُر بِي أنْ أُلْفِتَ أَنْظَاركم الي أسماء المدينة ومَعَانيها اللغوية ودَلَالَاتها الزمنية ومَصَادرها التاريخية. وبحسب معرفتي وعِلْمِي أنها كانت لها إِسْمَان والأول: هو إسم سبا أو سبئية أو سبئيين لأنها وردت في المراجع القديمة بثلاثة ألفاظ Saba) أوSabae أو Sabaen). وهذه الكلمات الثلاثة بينها إختلاف في المَبْنَى واللفظ لكن جَوهَرَها ومَضْمُونِها يَعْنِى شئ واحد وهو إسم قديم ليس له وُجُود في واقعها اليوم إلإَّ في بُطون المَراجع اليونانية القَديمة وفي خَرائطهم التي تَعود الي عُصور ما قبل الميلاد. ومعناه هو إشارة الي اليمنيين القُدامي أبناء دولة سبأ الذين كانوا ربما يُحَرِكُون إقتصادها والفاعلين فيها في تلك الأزمنة الغابرة كما أن اليمنيين في القرون الحديثة ما يزالون هم أكبر الفَاعِلِين والمُؤثريين في عصب وفي مُدن أخرى في الشريط الساحلي. وأيضاً أن الحضارة اليمنية القديمة سواء كانوا سبائيين أوغيرهم مَعِينين أو قَتَبَانِيين أو أَوْسَانِيين أو حِمْيريين كانت أقرب مركز حضاري ثبت إتصالها التاريخي والحضاري والثقافي والإجتماعي بالضفة الإفريقية عن طريق عصب الذي كان وما يَزال بَوَّابَة بَحْرِية ونُقْطَة العُبور الرئيسية بين الضفتين. وخاصة من المعروف تاريخياً أن السبائيين دفعتهم ظروفهم داخلية بالهجرة بأعداد كبيرة علي شكل جماعات وقبائل وبالتالي قد يكونون إستوطنوا وسكنوا في هذا الساحل وبسبب مهارتهم المعهودة وخبرتهم الحضارية صاروا الفاعلين والمُؤثرين فيها حتى تَسَمَتْ عصب في قُرون ما قبل الميلاد بإسمهم. وربما يكون إسم ( سَبَا Sabaأو سَبَئِية Sabae) ليست لها علاقة بمملكة سَبَأ أو السَبَئيين باليمن وإنما يكون أصلها راجع الي كلمات عفرية مثل كلمة وادي سَبَّى- Sabba وهو إسم لأحد الأودية في البلاد العفرية وباللغة العفرية تسمى الطحالب البحرية سَبَّى Sabba وكذلك يُطْلقون علي العُشْبِ والزَبَد إسم سَبَّى- Sabba وخاصة أن مركز المدينة في الأزمنة القديمة كانت في مَصَب وادي مَرْقَابَلة كما لَمَّحَ إليه دكتور هاشم في كتابه (المنهل). والثاني: هو إسم عصب وهي كلمة معروفة ومشهورة وتقول الروايات الشفاهية المتداولة عند العفر أنّها كلمة عفرية مأخوذة من إسم الينبوع المائي(بئر قديم) الذي كانت تطلق عليه العفر إسم (عَصَبُوِّيِ) وهي كلمة مُركبة من صفة (عصى) أي بمعنى أحمر وموصوف (بُويِّ) أي بمعنى عين الماء وحينما تأسست حوله نواة المدينة فيما بعد أطلقت عليها العفر إسم الينبوع المائي الذي تأسست حوله المدينة لكن مع مرور الزمن سقط حرف الواو والياء من الكلمة (عَصَبُويِّ) وإستقر إسم المدينة بكلمة (عصب) الثلاثية. ويُقال أنّ الذي أسقط الواو والياء من كلمة (عَصَبُوي) هم العرب اليمنيين لصُعوبة نُطقهما في الكلمة. وذلك البئر التاريخي مازال موجود أمام بوابة الميناء وفيه علامة بَآوَرَة بحرية (بُرُوسِي) وما تزال أحد مُدريات عصب يُطلق عليها إسم (عَصَابُويِّ) تَخْلِيداَ لذكرى ذلك البئر التاريخي. رغم تأكيدي لهذه الرواية المُتواترة التي يتداولها العفريين بكثرة عند حديثهم عن عصب يَصْعُبْ علىَّ تحديد زمنها التاريخي بالتحديد ومتى كانت بدايات التسمية؟ ومتى نشأة نواة المدينة الأولى؟ وفي أي عُصور كان موجوداً ذلك البئر التاريخي في تلك البقعة؟ لأن الرواية الشفاهية جاءت مَنْقُوصَة بدون ذكر للزمن كعادة الروايات الشفاهية التي دائماً تُسْقط وتَزِيد حتى تَتَحَول الي أَسَاطِير الأوليين التي لا يُمكن تَأْكِيدَها أو نَفْيها علمياً. ومما يؤسفني حقاً هو أن العفر بِطَبْعِهم يَرْكَنُون بالثقافة الشفاهية ولايمتلكون ثقافة التدوين لذلك نحن العفر طَالَما عَانِيْنا وما زلنا نُعَانِي بسبب إفتقادنا لهذه الثقافة الضرورية في مَسيرة الأُمم والقوميات الحية لكي تُحافظ علي ذَاكِرَتِها التاريخية ومَخْزُونها التُراثي والثقافي حَيَّةً علي مَر القرون. وأكثر ما يُؤلمني هو أننا فقدنا أجزاء كبيرة من تاريخنا وضاعت أيام مُشْرقة من بطولات أجدادنا في القرن الإفريقي وكثير من أمجادنا نَسَبَه الآخرين الى أنفسهم كما فعل الصوماليون بمملكة عدال الإسلامية فقد نَسَبُوها كلها الي قَومِيَتِهم كأنها كانت مملكة صومالية رغم أنها كانت عفرية المَنْبَع والنشأة والإستمرار حتى سَقَطَتْ بيد البرتقاليين الإ أنها في فترة قُوتها وإزدها أدخلت تحت نُفوذها كثير من قوميات القرن الإفريقي. وكذلك نَسَبُوا لأنفسهم كل إنجازات قائدها الشهير أحمد إبراهيم قُرى فاتح الهضبة وقاهر الأباطرة الحبشية الصليبية كأنه كان قائد صُومالي رغم أننا نعرف أصوله العفرية ونعرف نَسَبَه وفي أي قبيلةً هو ومازالت سُلاتَه موجودة في نطاق الخريطة العفرية كعفريين. وأعود الي السرد التاريخي للمدينة وأقول أنها حافظت علي أهميتها وسَحِرِها وأَلَقَهَا في كل العُصُور. ورغم تأكيدي بأنها شَقَت مَشْوَارِها التاريخي في نُمُو وتَطَور مُسْتمر بِهُدُوء وإنْسِيَابِية نحو مُسْتَقبلها الي هذا اليوم. لكنني بعد إسْتِقْرَائِي ومُقَارَنَاتِي بين مَآثِرَها في الماضي ومَوْرُوثَاتِها في الحاضر فقد تَبين لي أنّ خط سيرها التاريخي لم يستمر مُسْتقيماً علي الدوام. فربما كانت مُزْدَهِرَة وعَامِرَة في الأزمنة القديمة في بُقعة أخرى قَرِيبة من البُقْعَة الحَالية وبالتالي حينما إستأنفت ظُهُورها مرة أخرى من البُقْعَة الحَالِية إكتسبت إسم عصب من البئر الذي تأسست حوله المدينة كما تقول الرواية الشفاهية. وربما حَصَل لها في بعض مَرَاحِلِها التاريخية إنْعِطَافَات حَادَة كالإنحدار أو الإنكماش لتاريخها لكنها في نظري لم تصل الي درجة الإختفاء من المسرح ولم تصل إنعطافاتها الي مُسْتَوى الإسْتِدَارَة الكَامِلة التي يمكن أنْ تَقْطَعَها من إمتداداتها أو تُغَيِر مَسَارها الي إتجاهات أخرى. ما يعني أنها لم تَنْقَطِع عن مَسَارَها بل حَافَظَت علي ثَبَاتِها في مَجْرَاهَا الطبيعي مُتَّصِلَةً بإمتداداتها التاريخية والحضارية وإسمها الحالي الذي يُنْطق عند العفريين (Assab) ربما له عَلاقَة بالإسم القديم الذي كان يُلْفَظ بـ (Saba أو Sabae) كما ناقشها البُرُوفِيسُور سابتو في كتابه حول عصب عن إمكانية تحويركلمة عصب من ذلك الإسم التاريخي لكن قال في النهاية أنه لم يستطع تحديد الكيفية التي تم تحويرها. وبحكم مَوقِعها الجغرافي الفريد أصبح خليج عصب عبارة عن ساحة للصراعات الدولية والإقليمية منذ فجر التاريخ البشري واستخذمها الفراعنة القدامى كمحطة الإستراحة لسُفُنِهم كسُفن الملك الفرعوني “ساحورع” وبعثات “حتشبسوت” البحرية ما بين 1520 ق.م الي 1484 ق.م عند عُبُورهم للبحر الأحمر نحو خليج عدن والمحيط الهندي والرجوع منها الي مصر القديمة. وحينما وجه الفينيقيون أسطولهم البحري نحو سواحل شرق إفريقيا تنازعوا في المحطة الإستراتيجية مع الفراعنة ثم من بعدهم تصارعت علي السيطرة عليها الإمبراطوريات الرومانية واليونانية والفرس. وفي الفترة التي سادت فيه نظرية السيادة البحرية تنازع عليها البرتقاليين والأتراك لهدف السيطرة علي الممر الدولي وبقيت عصب تحت الوُجُود التركي الإسمي بثلاثة قُرُون من 1557م الى 1865م. وأما في حقبة التسابق الأوروبي في البداية إحتلها الإستعمار الإيطالي لمدة 70 عاماً والبريطانيون بعشرة سنوات ثم سَلَمُوها للإمبراطور الأمهري هيلي سيلاسي وبقيت عصب تحت إحتلال الأمهري بـ 30 عاماً حتى إستقلت عصب عن الإحتلال الأمهري العنصري في عام 1991م ثم دخلت في حِقْبَة الإحتلال التقريني الوطني الهمجي التدميري.
إذن وكما ترون من هذا العرض البسيط أن موقع مدينة عصب الإستراتيجي غني بالمادة التاريخية الدسمة وحافل بالأحداث الجسيمة وأنها شهدت أحداث عَظَيمة وجرت فيها تَحَوُلات كبيرة ودَارَت عليها صراعات دولية بين الإمبراطوريات الغربية والشرقية وصراعات إقليمية بين أباطرة تقراي والأمهرة الإقليميين من جانب والممالك العفرية وسلاطينهم التقليديين من جانب آخر. وهذا يؤكد بجلاء أن المدينة قد دفعت فَوَاتِير لا تُعَد ولا تُحصى حتى عاشت في أغلب عُصورها التاريخية في مَرْمَى العواصف وفي دروب الأحزان. لذلك فلا أستطيع الغَوص والتعمق في تاريخها وما قَدَّمْتُه وما كَتَبْتُه هنا لا يتجاوز من رُؤُوس أقْلَام.
أهم مراحلها التاريخية!
وفي ضَوء المُلاحظات العامة التي إٌقْتَبَسْتُها من السرد التاريخي السابق يمكنني أنْ أقسم أهم الحِقَب التاريخية التي مرت عليها مدينة عصب عبر تاريخها الطويل بشكل عام الي ستة حِقَب تاريخية مُخْتَلِفَة منها ما كان عادياً ومنها ما كان مُزدهراً ومنها ما تم إعتبارها بعصر الإنحطاط والسُقُوط كحِقْبَة الجبهة الشعبية. وأنها كانت مُتَفَاوِتَة من حيث طولها الزمني بعضها طويل للغاية كحقبة الممالك العفرية وبعضها قصير للغاية كحقبة الإستعمار البريطاني .. وأهم الحقب الستة هي كالتالي:-
1- حِقْبَة التاريخ القديم للمدينة!.
هذه الحقبة تعود الى ما قبل الميلاد والحديث عن تفاصيل مَادَتِها التاريخية يُعْتَبَر ضرب من الخيال بسبب جهلي عن طبيعة أحداثها إلإ بإشارات طفيفة موجودة في المراجع اليونانية القديمة التي لا تُسْمِن ولا تُغني من ظمئ للكتابة والتسجيل. إذن لا أستطيع أن أُكَوِن صُورة عن تلك الحقبة ولا أستطيع تقديم قراءة تاريخية معقولة عنها لأن أحداثها مَضَي عليها قُرُون طويلة حتى إنْطَمَسَت كثير من مَعَالِمَها وإخْتَفَت العديد من آثارها لكن هذا لا يمنع أن أطرح شُكُوكِي الذي تُسَاوِرُنِي دائماً بأنّ هناك حلقة تاريخية أخرى مهمة مفقودة من تاريخ هذه المدينة العريقة لذلك سأتركها كسُؤال مفتوح لعل وعسى نجد من يُجِيب عليها.
2- حِقْبَة المَمَالك العفرية المُسْتِقلة!.
العفرهم عناصر سُكان المدينة الأصلية وبالتالي عاشت في أغلب عُصورها التاريخية في ظل الكيانات العفرية المستقلة. وتعاقبت علي حُكْمِها ممالك وإمارات وسلطنات عفرية عديدة أغلبها كانت ممالك ذات الطابع الأُسَرِي التي تحمل بأسماء الأُسَرالذي أسستها. وهناك قائمة طويلة من أسماء الأسر العفرية التي حكمت عصب لكن أشهرها أربعة ممالك عفرية وهي كالتالي: الأولى: هي مملكة “دُوبَاعَيْ العفرية” التي كانت تحكم الشريط الساحلي بما فيه عصب وبعض المناطق العفرية الأخرى. والثانية: هي مملكة “دَنْكَلِي العفرية” التي كانت قوية في الشريط الساحلي لقُرُون طويلة وكانت لها علاقات مَتَميزة مع مُحِيطها الجغرافي وبسبب شُهْرَتِها ونُفوذها الكبيرة في المنطقة سُمِيَت العفر بإسمها والي اليوم يُطْلق علي العفر إسم الدناكل في اليمن وفي عُمُوم الجزيرة العربية وفي السودان. والثالثة: هي مملكة “أَنْكَالاَ العفرية” التي كانت لا تقل قُوَّتَها ونُفُوذها من سَابِقَتِها. والرابعة: هي مملكة “عَدَالَ الإسلامية العفرية” التي أسسها أبناء (عَدْ عَلِي) في بداية القرن الحادي عشر الميلادي وفي منطقة “رَحَيْتَا” الواقعة اليوم في جنوب عصب بقرب الحدود الجبوتية. لكن هذه المملكة بعد إنتشار الإسلام في المنطقة العفرية تَحَوَلَت الي مملكة إسلامية وقَادَت الجِهَاد في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر ضد الأباطرة الحبشية في منطقة القرن الإفريقي. لكن هذه المملكة العتيدة تفككت بعد إستشهاد قائدها الفاتح الإمام أحمد إبراهيم قُرَى بيد القوات البرتقالية بقرب بُحِيْرَة تَآنَا الموجودة في عُمق الهضبة الحبشية في عام 1542م. وبعد ذلك تَفَرَّعّ الكَيَان العفري الي أربعة سُلْطَنَات وبقيت مدينة عصب ضمن حُدود “سُلْطَنَة أَوْسَا العفرية” وهي كُبْرَى السلطنات العفرية الأربعة الموجودة في الخريطة العفرية في القرن الإفريقي حتى إِقْتَطَعَها الإيطالين بالقوة من سلطنة أوسا ثم إِقْتَطَعُوها تماماً من الخَريطة العفرية حينما أعلن الإيطاليون نواياهم الإستعمارية في سنة 1882م وفي عام 1890م قاموا بضم عصب وإقليمها مع المنخفضات الغربية والشرقية بالإضافة الى المرتفعات الكبساوية ثم أعْلَنُوا من تلك المُقَاطَعَات الثلاثة بكَيَان جديد إسمه إرتريا. إذن هذا يعني أن الإستعمار الإيطالي قد رَسَم لمدينة عصب وإقليمها المعروف بإقليم دنكاليا بِمَصِير جديد خارج إطار الخريطة العفرية وفقاَ لمصالهم الإمبريالية.
3- حِقْبَة الإستعمار الإيطالي!( 1869م ــ 1941م ).
هذه الحقبة بدأت بعد تحقيق الإتحاد الإيطالي في سنة 1861م وبعده مُبَاشرة نَظَّمُوا رَحَلات إسْتِكْشَافِية الي سَوَاحِل البحر الأحمر في شرق إفريقيا. لكن بعد مُسُوحَات مَيْدَانِية ودَرَاسَات طُبغرافية إخْتَارُوا موقع عصب الذي يقع فوق خليج عصب الإستراتيجي كَمَوْطِئ القدم للإيطاليين في شرق إفريقيا. وقال خَبِيرالمُسْتَكْشِفِين الإيطاليين ورئيس البِعْثَة الإيطالية ورئيس شَرِكَة “رُوبَانْتِينُو” للنقل البحري البروفيسور جُوزَابِي سَابِتُّو في أحد تَقَارِيره التي كان يَرْفَعُها الي وزارة الخارجية الايطالية مُوَضِحاً سبب إختيار مدينة عصب وقال (.. وقع إختياري علي عصب لقُربها من مدينة مُخاء والحُديدة في الساحل اليمني وقُربها من مُضيق باب المندب والدُّور الذي يمكن أنْ تَلْعَبها بين الحبشة والجزيرة العربية..). وحينما أراد الإيطاليون تَنْفِيذ مُخَطَطَاتِهم الإستعمارية إستخذموا في البداية مُرُونَة قُصْوَى مع العفر وإنْتَهَجُوا أسَالِيب المَكْر والخِدَاع واللَّفْ والدُورَان كل ذلك لكي يَتَفَادُوا الصِّدَام بالعفر والمَوَاجَهَة مع السلطنات العفرية التي كانت مُسَيْطِرة علي الشريط الساحلي وخاصة عصب كانت تَابِعَة لسُلْطَنَة أَوْسَا في تلك الفترة وهي كانت أقوى السلطنات وأكثرها رجالاً وأكبرها نُفُوذاً في المنطقة العفرية لأن سلطنة أوسا كانت تحت قيادة السلطان محمد حنفري الذي أُطْلِق عليه لَقَب إمبراطور لقُوَّتِه ونُفُوذه الواسع وكان رحمه الله يَتَمَيَز بِرُوح التحدي وبمَعْنَويَات قِتَالِية عالية لأنه إصْطَدَم بالقوات المصرية في مَوْقِعَة “عَدُّومِي” في سنة 1875م وخَرَج مُنْتَصِراً وأجْبَرَهم بالرجوع الي حيث أَتُوا منه. ثم إصْطَدَم بقُوات الإمبراطور الإثيوبي منيليك الثاني وواجه أطْمَاعه التوسعية وهَزَم جيشه في مَعْرَكة مَصِيرِية بِمَوْقِعَة “عَرَّدُو” في سنة 1895م حتى أَجْبَره بتوقيع الحدود بين الإمبراطورية الإثيوبية وبين السلطان محمد حنفري كسلطان عفري. والبروفيسور جُوزَابِي سَابِتُو الذي إستخذمه الإيطاليون كَرَأْس حَرْبَة لتنفيذ نَوَايَاهم الإستعمارية في المنطقة كان خَبِيراً بالشأن العفري وعَليماً بأحْوالهم المُخْتَلِفة حتى ألف كتاب بإسم عصب من الدراسات الذي كان يُجْرِيه والتقارير الذي كان يرفعه الي المسؤوليين الإيطالين الأكبر منه كالملك وحُكومته ووزيرخارجيته. وإنطلاقاً من مَعْرِفَتِه العَمِيقَة بالعفر إستخذم سياسة اللِّيْن والمُرُونَة القُصْوَى والنفس الطويل للغاية وفي البداية تَوَدَدَ بالقيادات العفرية ونَسَجَ معهم علاقات وِدِّيَة وصداقات شَخصية حَمِيمِية ثم طَلَب منهم قِطْعَة أَرْضِ في مَنْطقة حَسَّاسَة في ساحل عصب لإسْتِئْجَارِها كمَحَطَّة وكمُسْتَودَع لشَرِكَتِه البحرية رُوبَانْتِينُو لغرض إمْدَاد وتَمْوِين سُفُنِ الشركة المُتَّجِه الي الهِنْد الشرقية والرَّاجِعَة منها الي إيطالية بِصِفَتِه الشخصية كصديق للشعب العفري وفعل هذا إمْعَاناً بالخِدَاع والمُرَاوَغَة واللَّفْ والدُورَان الذي إنْتَهَجَها لإخْفَاء نَوَايَاه الإستعمارية الحقيقية للمنطقة. وبالفعل تم إستئجار أول رُقعة جُغرافية في 15 نوفمبر في عام 1869م لكنهم تَوَسَّعُوا في إستئجار المَزِيد بِخَطَوات ثَابِتَة بِحُجَّة تَنَامِي الشركة وتَوَسِعِها الذي يَتَطَلب مزيد من الأرض لبِنَاء مُسْتَوْدَعَات جديدة مع التَّمَعُنْ بِأَسَالِيب التَّمَسْكُنْ وبجانب الإطْرَاء وإظهار الود والصداقة الحميمية مع الإغْدَاق بالأُعْطِيَات لمُمَثِّلِي العفر ومَسْؤوليهم. إذن إسْتَمَرُّوا بهذه الطريقة بــ 13 سنة وفي عام 1882م أنْزَلُوا عليها قُوة عسكرية وأعْلَنُوا رَغَبَتُهم الإستعمارية بمنطق القُوة ثم أصْدَرُوا مَرْسُوم ملكي يَعْتَبر مدينة عصب وضَوَاحِيها مُسْتعمَرَة إيطالية في شرق إفريقيا. ومنذ ذلك الوقت إتَّخَذُوها كمدينة إيطالية في شرق إفريقيا وإسْتَخْذَمُوها كقَاعِدَة للإنْطِلاق لتحقيق نَوَايَاهم الإستعمارية في المنطقة وبالتالي نَقَلُوا إليها عدد كبير من الإيطاليين وقاموا بإسْكَانِهم في عصب كبير وكان من بينهم تُجار والمستثمرين والحِرَفِيِّين والعُمّال والباحثين عن الفُرص الجديدة في الآراضي البِكْرة حتى تَكَوَنَت فيها جَالِية إيطالية كبيرة لأنهم وَجَدُوها فيها مُتَنَفَسَاً عن مُدُن إيطالية المُقْتَّضَة بالسُكان ووجَدُوها كمَكَان جَاهِز للإستعمال بسبب إستراتيجيتها الكبيرة أمام المَمَر العالمي الوَسَطِي الذي يَرْبِط العالمي الغربي بالعالم الشرقي من جهة ومن جهة أخرى بسبب حَيَوِيتِها التجارية والإقتصادية الذي يَرْبِط بين الهضبة الإثيوبية الآهِلَة بالسكان والمعروفة أيضاً بالمنتجات المَحَلِية ذات القِيمَة التِجَارية وبين الجزيرة العربية الذي تملك فائض للبضائع التجارية التي تكون شُعُوب القرن الإفريقي أحْوج منها. لذلك فَتَحُوا طريق إسْفِلْتِي يَرْبِط مدينة عصب بأديس أبابا حَاضِرة الهضبة الإثيوبية الذي قَطَع مَسَافة قَدْرُها بــ 624 كيلو متر ثم شَقُوا طريق آخر بَرِّي الذي يَقْطَع كل أرْيَاف دَنْكَالِيَا قُرَى بِقُرَى حتى مُصُوَعْ ومنها الى أسمراء. ثم أخَذُوا في تطوير المدينة وأسَّسُوا فيها بُنية تَحتِية ومَرافِق خَدِمِية ومُنْتَجَعَات سِياحِية وتَرْفِيهِية. وأنْعَشُوها تجارياً وإقتصادياً ورَبَطُوها بالعالم الخارجي. وأنْشَأُوا فيها مَشَارِيع إستراتيجية كبِنَاء ميناء عصب العِمْلاقَة ومَطَارها وإستثمارات تجارية متنوعة. وقاموا بتخطيط المدينة وتطويرها وأدخلوا فيها نَمَط أوروبي وإدارة حديثة وبَنُوها كمدينة إيطالية علي الطراز الأوروبي.
إذن نَسْتَنْتِج من القراءة السابقة أن الإيطاليين فقد تَدَرَجَ في إستعمار مدينة عصب بدرجات متفاوتة ومراحل مختلفة:-
i. مرحلة البحث عن مَوْضِع قَدَم بإسم شركة تجارية بقيادة البروفيسور سَابِتُو لمُدَة 13سنة من عام 1869م حتى 1882م.
ii. مرحلة عصب كمدينة إيطالية وحيدة في شرق إفريقيا لمُدَة 8 سنوات منذ إعْلان عصب مُسْتَعْمرة إيطالية في سنة 1882م حتى إعلان مُسْتعمرة إيطالية بإسم إرتريا من ثلاثة مُقَاطَعَات (إقليم عصب المعروف بدَنْكَالِيَا ــ المنخفضات الغربية والشرقية ــ المرتفعات الكَبْسَاوِيَة) في عام 1890م.
iii. مرحلة عصب كمدينة إيطالية في شرق إفريقيا بجانب أسْمَرَاء لمُدَة 50 سنة من عام 1890م حتى خروج الإيطاليين من المنطقة في عام 1941م.
إذن بقيت مدينة عصب تحت الحُكم الإيطالي 70 عاماً ومنها 20 سنة كمدينة إيطالية وَحَيدَة في شرق إفريقيا و50 سنة أخرى كمدينة إيطالية بجانب أسمراء.
4- حِقْبَة الإستعمار البريطاني!(1941م ــ 1952م ).
بعد خُرُوج الإيطالين مَهْزُوماً من إرتريا في عام 1941م إحْتَلتها بريطانية ثم كَوْنُوا فيها إدارة عسكرية. وكان للبريطانيين لهم سياسة خاصة وهي سياسة تقسيم الطائفي للبلاد وكانوا يريدون فك الإرتباط بين المَقَاطَعَات الثلاثة التي جَمَعَها الإستعمار الإيطالي في كَيَان واحد وفقاً لمَصَالحِه الإمبريالية دون الإعتبار للمعايير التاريخية والجغرافية والإجتماعية للكيان الجديد. وبالتالي قرر البريطانيون بإلحاق المنخضات الإرترية الي السودان والمرتفعات الكبساوية الي إثيوبيا وضم مدينة عصب مع شريطها الساحلي الي السلطنة العفرية في أَوْسَا لأنهم أرادوا إحتفاظها كمنطقة مَحْمِية تحت حِمِايَتُهم الخاصة إدْراكاً منهم بإهميتها الإستراتيجية ومعرفتهم بأن لهم مَطَامِح مختلفة وإتجاهات مُغَايِرَة مع الإنسجام العرقي والثقافي والإجتماعي والديني. لذلك إختلفت نظرتهم تُجَاه عصب وشريطها الساحلي منذ الوهلة الأولى لأنهم إحتلوها عن طريق البحر من حَامِيَتهم التي كانت مُتَمَرْكِزَة في عدن خِلافاً للمَنَاطِق الإرترية الأخرى التى تم إحتلالها بَراً من جِهة الشمال.وتمهيداً للبرنامج الذي تم وَضْعُه مُسْبَقاً قاموا بوضع مدينة عصب تحت إدارة مُسْتَقِلة ثم إختلفت مُقَارَبَاتِهم السياسية مع العفرعن بَاقِي المُكَونَات الإرترية ووعدوا النخب العفرية بِمَصِير مُخْتَلِف ثم دخلوا في مُفَاوَضَات سِرِّيَة مع السلطان محمد يايو سلطان سلطنة أَوْسَا العفرية وإقْتَرَحُوا عليه حكم ذاتي للعفر على أنْ يكون هو حاكماً علي المنطقة العفرية بما فيه عصب مع شريطه الساحلي الممتد من مصوع الى حدود جيبوتي تحت حِمَايَة البريطانيين. وبالفعل قَبِلَ السلطان محمد يايو ذلك الإقتراح لكن مع ذلك لم يتحقق برنامج الحكم الذاتي للعفربسبب مرض السلطان من جهة ومعارضة داخلية في إرتريا وفي إثيوبيا من جهة ثانية وبعض المُتَغَيِرَات المَوْضُوعِية للسياسة الدولية من جهة ثالثة حتى فشل برنامج تقسيم إرتريا ودخلت عصب مع باقي الخريطة الإرترية في إتحاد فدرالي مع الإمبراطورية الإثيوبية بقرار أممي في عام 1952م.
5- حِقْبَة الإحتلال الإثيوبي!(1952م ــ 1991م).
وفي عام 1952م تم تطبيق الإتحاد الفدرالي بين إرتريا وإثيوبيا وحينها دخلت عصب ضِمْنِياً في طَور مملكة هيلي سيلاسي ثم أَلْحَقَها رَسَمياً الي مملكته الإقطاعية في عام 1962م. وإثيوبيا منذ أنْ أنشأها منليك الثاني مُهَنْدس إثيوبيا الحديثة ظلت حبيسة في وسط الهضبة بلا منفذ بحري وعاشت شِبه مَعْزولة عن العالم الخارجي. لكن حينما أحكم هيلي سيلاسي قبضته علي عصب وجد منفذ بحري في أهم زاوية بالفكر الإستراتيجي وأكثرها حَيَوِيةً بالفكر الإقتصادي ووجدت إمبراطوريتهم الضخمة ذات السبعين مليون بفُرص وإمكانيات ما كانوا يَحْلُمُوها. لذلك قاموا بتسخيرها وإستغلالها وبالفعل إستفادوا منها أيَّمَا إستفادة سواء في عهد هيلي سيلاسي أو في عهد الدَّرْقِ وأنها ضَخَّتْ الدم في شرايين مملكتهم اليابسة وأنعشتها بحيث أَدَرَتْ عليهم وعلى مملكتهم أرباح وفيرة ومكاسب كبيرة. ومن مَدَاخِيلِها ورِيْعِهَا وخَيْراتِها بنوا مُدنهم وحَواضِرهم في الهضبة حتى إسْتَثْرُوا فيها وتَرَبَّحُوا منها. وشهدت المدينة في هذه الفترة حركة عمرانية كبيرة كبناء عشرات المدن السكنية وإسْتِحْدَاث أَحْيَاء جديدة وشوارع إضافية وبناء مرافق حيوية ومُؤسسات حُكومية وأسواق تجارية وعقارات إستثمارية وفنادق كبيرة ومنتجعات سياحية حتى تَوَسَعَت المدينة في هذا العهد أضْعَاف مما سبق. وقَامُوا بتحديث بُنْيَتَها التَحْتِية وتطويرها أكثر مماسبق. وكذلك فَتَحُوا فيها مُؤْسَسَات حَيَوِيَة ومَرَافِق مُهمة ومَشَاريع عِمْلاقة كتطويرمطارعصب وتوسيعه وتجهيزه وفي هذه الفترة قام الإتحاد السُوفيت بتطوير ميناء عصب الي ميناء عَصْرِية عِمْلاقة ثم في النهاية تم فَتْحُها كميناء حُرَّة أمام العالم بمعايييرعالمية. وصارت منفذ بحري لشُعُوب المنطقة وبالأخص لشُعُوب الهضبة الحبشية على البحر الأحمر. وأصبحت أكبرميناء في المنطقة وإحتكرت التبادلات المنفعية بين الضفتين وحَرَّكَت دُولاَب النشاط التجاري والإقتصادي في القرن الإفريقي. وشغلت الآلآف من المواطنين العادين ورَفَعَت مُسْتوى مَعِيشَتَهم وحققت بعض تطلعاتهم وفتحتهم أمامهم آمال جديدة. لكن اليوم عندما أغلقتها حُكومة نظام أسياس أفورقي إنفتح أمامهم أبواب الجحيم وهم يعيشون اليوم في مُسْتَنْقَع البُؤْس والشقاء. وفي هذا العهد أيضاً أسس الإتحاد السُوفِيت أكبر مَصْفَاة لتكرير النفط في عصب وهي كانت تُعتبر من أضخم مِصْفَاة في المنطقة بل يُقال أنها كانت أكبر مَصْفاة في إفريقيا في تلك الفترة. وأيضاً شهدت المدينة في عهدهم حركة تجارية كبيرة ونشاط إقتصادي واسع وفَتَحُوا فيها مشاريع كثيرة كالمشاريع الخدمية والتجارية والإستثمارية والسياحية التي عاد نفعها بالمدينة حتى أصبحت مدينة مزدهرة لامعة مفعمة بالحيوية والنشاط. وعاد نفعها بالمواطنين العاديين بالشغل والتوظيف وتسهيل الخدمات المطلوبة. إذن سأذكر هنا أهم المشاريع التي نفعت المواطنين وحَلَّتْ كثير من مَشَاكلهم ولَعِبَتْ بدور أساسي لتغيير أوضاعهم الي مُسْتَوي مَعِيشِي أفضل وهي علي النحو التالي:-
· أول المشاريع وأكبرها نَفْعاً للمواطنين وأعمقها تأثيراً علي المدينة وأكثر ما وَسَّعَ نُفُوذ عصب في المنطقة وساعدها في الشُهرة الإقليمية والعالمية هو ميناء عصب المُجَهَزَة بمختلف مشاريعها والمُتَكَامِلة بكل المتطلبات والموجودة بقُرب الخُطُوط المَلاحة الدولية وكانت بالنسبة للمواطنين عصى سحرية غيرتهم بسرعة الي الأفضل وحينما فَقَدُوها سقطوا في هاوية الفقر والحرمان.
· مشاريع الإستثمارية في الأحْوَاض المِلْحِية المُنْتَشِرَة في عصب وفي سواحلها بكثرة وفي مَنَاجِمَها التي تَتَمَيز بِغَزَارة المِلْحِ وفي نفس الوقت مشهورة بجَوْدَتها وصَفَائِها النَّاصِع لذلك وجدت طَلَب عالمي من الدول ومن التجار والمستثمرين. وأنهم إستثمروا فيها وجَلَبُوا الأدوات اللازمة وقاموا بإستصلاح الآراضي السَبْخَة في عصب وتطويرها لتحسين الإنتاج حتى توسعت رُقعة الآراضي المُنْتجة. ثم قاموا بتنظيمها بين القطاع الرسمي الذي كانت تمتلكه الدولة كمؤسسة “سَالِيْنَة” وكانت تُنْتِج سنوياً بــ 250 ألف قنطار من الملح الصافي المُعَبَأ. وأما القطاع الخاص الذي كان يمتلكه الأهالي والمواطنيين فكان ينتجون بالآلآف ثم كانوا يقومون بتصديرها بالأطنان الي الخارج وكانت تصل حصة بعض الشخصيات العفرية في عصب بـ 50 ألف قنطار وبــ 40 ألف قنطار وكانت جمعيات كجمعية “مَكْعَكَة” وجمعية “بَيْلُول” وجمعية “حَرْسِلِي”. إذن في هذه الفترة إزدهرت تِجَارة المِلْحِ وإنْتَشَرَت إستخذاماتها وتَنَوَعَتْ مَشَارِيعها ووظَفَت الآلآف في الإستزراع والشحن والنقل حتى إرتفعت الحالة المعيشية بين المواطنين فيما بينهم وتَكَونَت طَبَقَة مُتَوسِط ثَرِيَة في عصب.
· مشروع مياه عصب النقية والعذبة التي تم نَقْلُها من خارج المدينة ومن منطقة “حَرْسِلِي” التي تَبْعُد عن عصب بــ 40 كيلو متر. ومِياه “حَرْسِلِي” تُعتبرمن أنْقَى المياه وأعْذَبها وهذا المشروع الخدمي وَفَّرَ المياه النقية العذبة للمدينة وخدماتها للمواطنين. ولاحقاً أصبحت مَورد دخل كبير للمدينة لأنها صارت مَطْلُوبَة من السفن والبواخر العابرة للتموين منها بسبب قُرْبِ ميناء عصب علي الخط الدولى من جهة ومن جهة أخرى جَودَة مياه عصب ونَقَائِها وعُذُوبَتِها حتى زاد دخلها السنوي أكثر من عشرات الملايين من الدولارات.
· وهناك مشاريع أخرى كمشاريع التسهيلات التجارية التي سهلت التبادلات المنفعية بين شُعوب الهضبة من جهة والجزيرة العربية من جهة أخرى حتى أصبحت عصب مدينة تجارية ومركز إقتصادي من الدرجة الأولى في المنطقة في تلك الفترة.
وإذا سأل سائل لماذا فَتَحُوا هذه المشاريع؟ وكما قلت في السابق أنهم لم يفتحوها حُباً لعصب أو إكراماً للعفر وإنما كانوا يَحْلُبُونَها ويَسْتَغِلَونها بكل ما أُوتُوا من قُوة. لذلك تمرد العفريين وقادوا ثورة مسلحة ضد نظام الدرق. وحينما إشتد ضُغُوط الثوار عليهم لجأ النظام الي تَرْوِيج الحكم الذاتي للعفر بسبب معرفته بأنها فكرة مُحَبَبْ لدى العفريين. لكن في نهاية المطاف قَلَّصُوا الحُكم الذاتي للعفر الي حُكم ذاتي لإقليم عصب فقط وسَمُوه بـ(عَصَب رَاسِي قَدِي) وأعلنوه رسمياً وفي عام 1988م. وإرتفع شأن عصب في هذه الفترة وحَجَزَت مَكَانَتَها الإقليمية المَرْمُوقَة واهميتها العالمية بالمفهوم الجيو إستراتيجي وخدماتها الجليلة للملاحة العالمية إزدهارها وفي قمة نُفُذها وفي ذُرْوة نشاطها التجاري والإقتصادي في المنطقة.!
6- حقبة نظام الجبهة الشعبية!(1991م الى اليوم 2014م)
وهي فترة عشرين سنة الأخيرة التي حكمها ومازال يحكمها نظام الجبهة الشعبية بقيادة أسياس أفورقي وهي تعتبر من أخطر وأَصْعب وأَسْوأ وأَظْلم مرحلة من مراحل تاريخها الطويل لأن النظام سَخَّرَ كل إمكانيات الدولة الوليدة لخِذْمَة مَشْرُوعِهم الطائفي ومُحاربة كل من يقف ضدهم وضد مشروعهم سواء كانوا أفراداً أو جماعةً أو فكراً أو ثقافة أو تاريخاً. وبالتالي تآمروا ضد عصب فقاموا بدميرها بطريقة مُنَظَمَة وتخريبها بأسلوب مُمَنْهَج حتى وصل تدميرهم بالمدينة وعبثهم بمصيرها الي درجات مأسوية لا يمكن تصديقها بل حتى لا يمكن تخيلها وبحسب علمي أنها لم تشهد عبر تاريخها الطويل بمثل هذا التدمير ورغم أنها عَانَتْ كثيراً وتَعَرَّضَت لفَوَاجِع كبيرة وأصَابَتْها إحباطات كثيرة وخيبات تاريخية مؤلمة كلفتها أثمان باهضة لكنها في إعتقادي لم تصل الي هذه الدرجة من التردي والإنهيار الذي وصلت إليه اليوم .! وهنا إنتهى الجزء الأول… يتبع.
ملاحظة …
لاحقاً في الجزء الثاني سأتحدث بالتفصيل ما لحق بمدينة عصب في الوقت الحاضر من تدمير منظم وتخريب ممنهج في ظل حكم نظام الجبهة الشعبية في العشرين سنة الأخيرة.!
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=30721
لله درك استاذى لقد اتحفتنا بهذه المعلومات المهمة وكم نحن بحاجة لهذه المعلومات حتى نصمد ونؤاكد للقاصى
والدانى بأن عصب عفرية اسلامية ارترية شكرا حزيلا ونحن فى انتظار المزيد