دردشة : في عيد الاستقلال بين النظام وأبو نواس والمعارضة
الحسين علي كرا ر
عندما كنا ندرس في المعهد الإسلامي بأغوردات في الستينات ، كان الأستاذ / الحسن عثمان أمد الله في عمره ، يكتب في مادة الخط العربي بيتان من الشعر تحت عنوان قال الشاعر :
*****
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة | *** | فلقد علمت بأن عفوك أعظــــم |
إن كان لا يرجوك إلا محســــن | *** | فبمن يلوذ ويستجير المجــــرم |
*****
وقتها لم نكن نعرف أن القائل هو أبو نواس ، ولم نكن نعرف أن التوبة كانت من إفراط الشراب، ولم نكن نعرف كذلك قصيدته الخمرية التي مطلعها.
*****
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء | *** | وداوني بالتي كانت هي الداء |
*****
والشاهد في ذلك أن النظام الارتري منذ الاستقلال وحتى اليوم ، فهو يحاكي في سكرته وإدمانه ومجونه وجنونه العقلي أبو نواس في خمرياته ، ولكن أبو نواس عندما تقدم به العمر أدرك الخطأ والصواب وتاب وطلب من الله الغفران ، و هذا النظام لا يعرف التوبة ولا يعرف الندم وإن تقدم به العمر ، ولا يكلف نفسه حتى أن يقف دقيقة واحدة يتذكر فيها لكل وعوده الكاذبة عند هذيانه وشعاره السنوي ، فلنعمل اليوم لرفاهية الغد ، وأصبحت معاناة اليوم مأساة الغد و يستمر في غفوته وهفوته ولا يفيق ، والشعب يموت بالجوع والعطش والعدم والقهر ، عام بعد عام ، وحتى يحقق هذا الشعار الاستهلاكي ، قد تحول الشعب بكامله ، إما إلي هارب أو مهرب ، وتحول معه شعار النظام للرفاهية إلي المساعدة في عمل التهريب ورعاية المهربين , وهو الاستمرار في الأنشودة خلال الثلاثة والعشرون عاما ، وكانت الجرعة الأخيرة حكاية كؤوس الحروب التي قدمتها أمريكا ضد النظام كما قال أفورقي ، ولكن النظام وهو الأعلم بذلك ، كان في حاجة إليها فتجرعها مسرعا ، فهذي وسقط وقضت عليه ، وبقيت أمريكا القوة العظمي التي تغير الأدوار ، فجعلت المعلم أفورقي تلميذ الطالب زيناوي ، حسب أحجام الدول بعد الانتصار ، وما فات مات ، وهذه مصلحة أمريكا الراعية لهما ، وهو ما لم يقبله أفورقي ، وحجم دولة ارتريا لم يحقق له طموحه ، فتحدي الجميع وطبق في إرتريا الأكسومية الانعزالية القهرية ، فخرّب الدولة الإرترية ، فلم يستطيع أن يبن دولة ناجحة نامية مستقرة ، ولم يضمن لنفسه حكما مستقرا ناجحا ، وهي حسرته ، وليست غلطة أمريكية.
وعودة لموضوع أبو نواس، عندما قرأ النظام لأبي نواس قصيدتاه الخمرية والتوبة ، أعجبته الخمرية ، وأصبح يحاكيها ولكنه قبل أن يبدأ في محاكاتها ، رأي طيف الغوغاء التي حشدوها للدعاية تحت حجة عيد الاستقلال ، وتحول فيها شارع الكمبوشتاتو إلي مسرح مغلق ، يشكر في وجوده الطليان ، بجوار سينما روما ، لتعزيز موقف النظام المنهار ، يهتفون (حادي لبي ، حادي حزبي) ، فأراد أن يشاركهم الهتاف ، وهو غارق في الطوفان ، وحساب نجوم الليل ، وحبة حبة يا مودة ، فأصبح يهتف ، شوعاتي لبن ، حمسا هزبي ، وقد تغلب عليه العقل الباطني وسط دهشة الجميع ، ثم أنشد طربا وهو يتمايل:
*****
و لع ولع موقد شراراتـــــــــي | *** | قمع رفس سجن طـــــخ قرارات |
شدّوا حمّوا دقّـــوا دلاليكـــــــي | *** | طار طبل رقص زار هواياتـــــي |
بألوان الحرير الناعم رقصاتـي | *** | وأحباب العرض صغيراتـــــــــي |
أفتح أجمع أضــرب حساباتـــي | *** | صفر باح كاح مدخولاتــــــــــي |
جوازات الغربــــــة مزاراتــــي | *** | وجيوب الشعب الغالي زياراتــــي |
أجمع النقفة غصـباً لحفلاتــــي | *** | من فمّ الجوعى خوفا من حملاتي |
*****
وكان يردد أنشودته هذه التي قابل بها الجماهير محتفيا ولكنه تذكر أبو نواس ونشوته وإحباطه ، وتذكر اليأس والفلس والمكابرة فأنشد قصيدته الخمرية بعنوان : دعوا لومي
*****
دعـــــوا لومي فإن اللوم يغرينــــــــي | *** | ودواء دائي في نهـــج أخطائــــــــي |
سكر شطط وصرعة عـــقــل غائـــب | *** | خير من ألف نصح منكم يهديـــنـــي |
وتوبة من جرم يدميكم وينعشنــــــــي | *** | هدر ونبش معيب يهز أركانــــــــــي |
وحفل أقامه الجمع في كل ميادينـــــي | *** | بأمري جورا وقهرا كأس يواسينــي |
وسقت الرعايا كالأغنام في معتركــي | *** | وفاز طفل سقيم جائع ينشد ألحانـــي |
فهذا يساق عاريا تدمع عينه حممــــا | *** | من البؤس يهتف صارخا لإسعـــادي |
وذاك ممسك شبشبه المقطوع فــــــي | *** | يده يرقص باكيا وطنا حافي الأقدامي |
وكهل مسن تخطئ الأرض وطأ تـــــه | *** | يسحب من بيت البرش لإطرائــــــــي |
وصحن مقلوب وثوب سمل مرقـــوع | *** | توفير للشعب من بذخ الإنفاقــــــــــي |
وقبر وجمجمة مجهول صاحبهــــــــا | *** | وفكر وعلم من تحت الأرض شاكيني |
وشباب هارب عصفت به المطايــــــا | *** | كان سعيدا في الخدمة يحلم بجناتـــي |
وطوابير النساء المكلوم في ضيعتـنا | *** | منتج للدف والزغروط والإلهائــــي |
وطن كان حلما وصار حقيقة وغـــــدا | *** | رهنا ووهنا وشتاتا بجنون غزواتــي |
من في الخلق يماثلني تنمية ومعجـزة | *** | فهذه الأعمال تاجي وسر إنجــــــازي |
من في الخلق يماثلني في القهر قاطبة | *** | هائم العشق للكاس فاقد الوجدانـــــي |
أنا الغول الشامخ الكاسر من عارضني | *** | وأخاف المنايا حتى أكلت أبنائــــــــي |
أنا الفارس الهمام الأبدي فلا توبــــــة | *** | من جرم ولا حكم للشعب إلا بمكيالـي |
أبو نواس مخطئ أنت في توبـــــــــتك | *** | وتوبة الطغاة العصاة ليست لأمثالي |
*****
ولما انتشرت أناشيد النظام في الوسط وخاصة ورقة دستوره التي لوح بها أراد التضامن في المعارضة أن يسجل موقفا وخاصة لم يسمع صوته إلا في بيانات المناسبات ، وهو أصغرهم حجما ، وأوسطهم سنا ، فخاف أن يبدأ الزيارة بالتحالف نتيجة توجسه من لطمة يسددها له انتقاما من مواقف سابقة للبعض منهم في المطالبة بحله ، وهو ضامرها له ، فسلك طريقا بعيدا حتى وصل المجلس الوطني ، فوجده مفروشا مترهلا مطروحا يتثاءب ويجهز نفسه للنوم منتصف النهار ، فقال الوطني مالي أراك اليوم أيها التضامن ، وأنت لابس شورتات الرياضة وأخر نشاط وحيوية ، وهي ليست عادتك ، فقال التضامن يا سيدي المجلس الوطني كنت أقرأ كتابا فتوقفت عند بيت شعر للإمام الشافعي تقول:
*****
إني رأيت وقوف الماء يفســـده | *** | إن سال طاب وإن لم يسل لم يطــــب |
*****
وأنت زعيمنا وكبيرنا وعظيمنا ، وجليل القوم وقائدهم ، وسيد الرأي والحكمة المشهودة ، ويتفق حولك الجمع المتنافر المتناحر ، ما رأيك أيها الحكيم، بإصدار بيان بشأن دستور النظام ، أليس هذا ما ينتظره الشعب ، ألسنا نحن في بطئ وركود ، أليس هذا هو الصحيح ، فقال المجلس الوطني وهو مضطرب ، وقد اعتدل في الجلوس ، صحيح أيها التضامن الرشيق الفصيح، ولقد سمعت (إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه) وقد فاز صبي بحديث القوم لفصاحته ، وقالوا عنه:
*****
فإن كبير القوم لا علم عنده | *** | صغير إذا التفت عليه المحافل |
*****
فابتسم التضامن من هذا الإطراء من الوطني حتى بان ثغره ، وقال حيرتني أيها العزيز الكبير العظيم ، ماذا تريد أن تقول ، فقال الوطني ، نذهب إلي التحالف وخير الأمور أوسطها ، وأنت أيها التضامن الذكي ستكون المتحدث وأنا الحامي لك من هفوته ، وعندما رآهما التحالف قادمين ، مدّ قدميه واتكأ على الوسادة ، وقال مالي أراكما اليوم وقد جئتما قبل أن أخذ قيلولتي ، ما الأمر يا سادة ، فقال التضامن جئناك لأمر عاجل وأنت الوسط أيها الزعيم ، فجسمك لا نحيف ولا عريض ، وقامتك لا قصيرة ولا طويلة ، وهامتك عالية ، وسمعتك حميدة ، وجماهيرك غفيرة ، ومقامك كبير ، جئناك نسمع رأيك السديد ، حول هلوسة دستور النظام الجديد ، وما تري في ذالك من بيان رشيد ، فشعر التحالف بالعظمة وعلوّ المقام ، فقال هذا شئ بسيط ، وأمركما عجيب ، فالقول كما قالوا قديما ، إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ، ثم تذكروا قول الشاعر:
*****
ندمت على السكوت مرة | *** | وندمت على الكلام مرارا |
*****
عندما أحسوا بغضب الشعب من (التم) وتذكروا أغنية (تم) للفنان حسين محمد علي أصدروا بيان المجلس الوطني المتأخر وبعد فوات الأوان ، مقتدين ببيت الشعر ندمت على السكوت مرة ، وهم غاضون وينشدون :
*****
لــــوم وإتهام يكـــــال إلينـــا | *** | والكل بالعصا والنار يطرينا |
جوع وكيد ومكر نكابـــــــده | *** | وفي أديس الشّيرو هارينــا |
لا فلس لا قرش لا سنتيــــــم | *** | ولا حبت خبز منكم تأتينــــا |
صراخ بكاء عياط وترعتكــم | *** | عجزت أن تروي مآقينــــــا |
وأصاب الجمع جفاف ينتظــر | *** | المطر ورب الخلق يسقينــا |
***
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=30811
درشة ممتعة وصائبة — سلمت يا كرار