قراءة متأنية للقاء اسياس مع الفضائية الارترية
عبد الله اسماعيل
مركز دراسات القرن الإفريقي
أجرت الفضائية الإرترية مقابلة مع رأس النظام الحاكم في ارتريا بمناسبة حلول العام الجديد 2015م حاول خلالها صرف الرأي العام الإرتري عن القضايا الحقيقية التي يعاني منها، كظاهرة خلو البلاد من فئة الشباب، والوضع الاقتصادي المتردي، والخدمة الإلزامية التي تحولت إلى حالة من العبودية والاسترقاق، وتردي التعليم، وتراجع معدلات التنمية إن لم نقل بتعطلها، وتردي الوضع العسكري داخل قوات الدفاع الإرترية، وانحصار شعبية النظام الذي دفعه إلى ادارة البلاد من خلال القبضة الأمنية والتي هي الأخرى بدأت في التراخي بفعل التحدي الذي بدأ يواجهها جماهيريا في داخل البلاد وعلو صوت المعارضين له خارجيا. ومن خلال العرض التالي سنحاول تحليل وتفكيك اللقاء وسبر فحواه من أجل معرفة الوضع الحقيقي للنظام.
درج رأس النظام الحاكم وطاقمه الدعائي وأجهزته الأمنية منذ حقبة الكفاح المسلح على جمع المعلومات التي تستهدف تنظيمه ومن ثم الرد عليها، وكان الأجدر بهم أن يعالجوا سياساتهم بالتقويم، غير أنهم يحاولون باستمرار تفنيد الآراء التي تنتقد تصرفاتهم بالنفي والتكذيب، والادعاء بأنها محض اختلاق وأكاذيب من أجل حماية قواعدهم المضللة التي كانت لا تفقه شيئا عن ما يجري حولها، ولا تنبث ببنت شفه فيما تراه وتشاهده في داخلها بحجة أنها من مهام القيادة، مع أنها كانت فرحة بما كانت تمارسه مما كانت تطلق عليه بالنقد والنقد الذاتي، الذي يطال صغار الكادر ولا يتجرأ في نقد القيادة، ونراه حتي اللحظة ينهج ذات السياسة من دون أن يطور في خطابه السياسي أو يعدل في ممارساته السياسية فهذا اللقاء لا يختلف عن الماضي البعيد أو الحاضر القريب، فمحور أهدافه هو تكذيب ونفي الأزمة التي يعيشها النظام والتي بدأت تضيق أكثر كلما حل عام جديد، وتعكس عن فشل مريع كلما انقضي عام، وتوزيع التهم على عدو خارجي متوهم تنحر في مذبحه كل الإخفاقات والسياسات الفاشلة وشعارها درئ العدائيات من أجل تضليل الرأي العام الإرتري.
بالعودة إلى اللقاء نجد أن أهم الموضوعات التي أثيرت كانت حول :
– برامج التنمية للعام 2015م والتي نفذت في الاعوام الماضية.
– أهمية صياغة الدستور وما اسماه المحاور بالبناء السياسي.
– هروب الشباب وخلو إرتريا منهم.
– تقوية القدرات الدفاعية.
– رؤية رأس النظام للسنوات الخمسة المقبلة.
بدأ رأس النظام الحديث بمقدمة عكست خلفيته الفكرية كشيوعي متزمت، حيث اجتهد كثيرا في حديثه لإقناع المتلقي أن ما يشهده العالم اليوم من أزمات وصراع يندرج ضمن التحليل الماركسي الذي كان يؤمن به اسياس، ومفاده أن ما يحدث هو صراع طبقي بين قله تملك كل شيء وأكثرية محرومة، والهدف من ذلك هو ايصال رسالة مفادها أن سبب الحصار وتردي الوضع الاقتصادي وتخلخل البنية الاجتماعية في ارتريا تعود أسبابها إلى تدخل عامل خارجي ـ وقد أسهب في كيل التهم له ـ من أجل صرف النقاش عن البحث في العوامل الرئيسية لازمة البلاد، وهي السياسات العدوانية للنظام الإرتري الذي غزى أربعة دول من جيرانه، وتلفيق تهم بدول لم يكن في مقدوره مهاجمتها ومع ذلك يحاول لي عنق الحقيقة بالزعم أن العالم برمته يتأمر عليه وما ذلك الا لأنه من الأكثرية المحرومة، هذا التحليل الفج يندرج ضمن التضليل الذي ظل يمارسه لعقود وأصبح اليوم أشبه بدفن الرؤوس في الرمال.
من المفارقات أن النظام الإرتري عندما حدثت التطورات في الشرق الأوسط وهبة الربيع العربي لاذ النظام الإرتري بالصمت المطبق وكأن لا شيء حوله، لنراه اليوم في هذا الحديث يحلل في الأحداث التي تغاضى عنها في السابق، بدأ في تحليل الأحداث وتدعيم ادعاءاته بأن ذلك قد تناولته كتابات فلاسفة القرون الثلاثة الماضية، بل في تطور لافت في موقفه من الدين والذي كان في السابق يتسم بالإلحاد، ذكر أن الكتب المقدسة تناولت هذا الصراع وهو بذلك يحاول كسب تعاطف المتدينين حين كرر لأكثر من مرة الاستشهاد بالكتابين المقدسين القرءان والإنجيل، ومع ذلك لم يستطع اخفاء كنهه وجوهره المعادي للدين، فهو يعود ليسخر من الدين والمتدينين حين يقول أن الشعوب العاجزة لجأت إلى الكنائس بحثا عن حل عبر الصلوات والدعوات، أي زنوج أمريكا، وفي مكان أخر يقول : (قبل أن تتفاقم ويتم البحث عن الحلول الإلهية) (وفي مثل هذه الأوضاع هناك سماسرة الدين يلبسون عباءة الدين) (ويقومون باستخدام الدين لبلوغ كرسي السلطة) (سماسرة الدين هؤلاء ليس لديهم برامج لحل النزاع).
لا يهمنا كثيرا البحث عن الصياغ الذي قيلت فيه هذه الاتهامات لأنها ليست ذات قيمة فكرة، بل الذي يعنينا هو تبين حالة الاضطراب الفكري الذي يعيشه هذا التنظيم، حيث تأسس على معاداه الدين، وتبني الأفكار الشيوعية واعتبرها خطا مرشدا لبرامجه، وبانتهاء الشيوعية تحول من أقصي اليسار إلى أقصي اليمين، واليوم عندما ساءت علاقته بالغرب نجده يحن إلى ماضيه الأحمر كالعاجز الذي يندب حظه العاثر لكنه يكابر عن الاعتراف بحقيقة كنهه.
هذه الأقوال جاءت في اطار مناقشة حالة بلاد الربيع العربي، وكانه أراد أن يقول أن سياساته كانت ناجحة لأنها لم تكن موالية لمن وسمها بالأقلية المتنفذة، لأن البلاد التي اجتاحها الربيع العربي سارت في ركب الأقلية، غير أننا سنحاول تحليل الوضع السياسي في ارتريا في فترة الربيع العربي.
مرحلة الذهول :
عندما هبت ثورة الربيع العربي في مصر وشمال افريقيا وبدأت تتهاوي عروش الأنظمة الدكتاتورية أصابت النظام الإرتري حالة من الذهول والهلع حين شاهد جماهير غاضبة تقاوم صديقه القذافي بعنف وضراوة لم يكن يتوقعه فأصابته حالة من الذهول لم يستطع قول حتي كلمة تأييد في حقه بل استنفر جميع أجهزته الأمنية من أجل المراقبة والسيطرة حتي لا تحدث انتفاضة وتنتقل حمي الربيع العربي إلى ارتريا لا سيما أن الأغلبية المسلمة في ارتريا هي ضد النظام، كما وضعت مدينة كرن تحت المراقبة والكل يذكر تهديدات الأمين محمد سعيد في اجتماع بفعاليات المدينة حين اعتبرت تلك المدينة معادية للجبهة الشعبية، وتجتاحها حالة من التدين، وتراجع شعبية حزب الشعبية فيها.
مرحلة التجاهل :
مع تساقط الأنظمة الدكتاتورية في تونس ومصر وتطور الأحداث في ليبيا وسوريا وانزلاقها نحو العنف، وبدء تخلخل نظام علي عبد الله صالح بدأ النظام في الإفاقة من حالة الذهول التي أصيب بها ليتحول إلى سياسة التجاهل لما يجري حوله فبدأت وسائل إعلام النظام بتجاهل ما يجري في محيطه بنقل أخبار بورما وأمريكا الجنوبية من أجل تطمين مؤيديه أن لا شيء في محيطه يستدعى القلق بل ذهب أبعد من ذلك بمنع مشاهدة القنوات الإخبارية في الأماكن العامة مخافة أن يصاب الناس بعدوى التظاهر .
مرحلة الاضطراب :
في خضم أحداث الربيع العربي حدث تنافر بين النظام الإرتري وأهم داعميه قطر، بسبب حماقات ارتكبها النظام تجاه الاستثمارات القطرية، مما دفع بالقطريين إلى مهاجمة رأس النظام حين وصفت صحيفة قطرية اسياس بأنه يتردد على قطر أكثر من بيته في اشارة مهينة بأنه يتسول علي الدوحة، ومن ثم فتحت قطر كوة للمجلس الوطني كتهديد للنظام وأعادت علاقاتها مع اثيوبيا، فما كان من رأس النظام إلا أن يهرول إلى قطر، حيث بعث بمستشاره يماني قبرآب ليقول للقطريين لماذا تفتحون علينا أبواب النار بل نحن مستعدون لترميم سوء التفاهم، ومن ثم كانت زيارة اسياس الذي استقبل ببرود وجفاء لم يكن يعهده . كذلك ظل هذا الاضطراب سيد الموقف في علاقته مع مصر حين حاول ابتزازها باعتقال بحار مصري فتعاملت مصر مع الأمر ببرود حتي تمكنت من اطلاق الرهينة ومن ثم تجاهلت العلاقة مع النظام. أرسل النظام مجموعة من الرسائل إلى السعودية التي لا تكن الود للنظام الإرتري الذي لم يترك شعرة معاوية التي تحافظ على العلاقة بينهما غير أن استجابة الطرف الآخر كانت فاترة ولا زالت المحاولات تتري. ولم يغب عن اسياس في لقائه الحالي الذي نحن بصدد تحليله من أن يرسل الرسائل حيث اسهب في الحديث عن ما اسماها بالشراكة الفاعلة اذ يقول : (خلق شراكة اقتصادية وفتح مجال للاستثمار مع اليمن والسعودية. وترددت كلمة (الجيرة الحسنة) ـ أي حسن الجوار ـ أكثر من مرة في هذا الحوار.
مرحلة الهجوم علي الربيع العربي :
لن نسترسل في تحليل هذه الفقرة وذلك لان هذا اللقاء يمثل قمة هذه المرحلة فقد استرسل رأس النظام كثيرا في الهجوم على الربيع العربي وكان جزء مهم من الحوار يدور حول هذه الحالة مما يعني أن النظام بدأ يحس بالتعافي من فوبيا الربيع العربي فانتقل من حالة الخوف إلى التعبير عن الغبطة لما حل بالربيع العربي مما جعل رأس النظام يحلل بأريحية عن أوضاع المنطقة وكأنه في كوكب آخر.
برامج التنمية للعام 2015م
طرح على اسياس سؤال فحواه ما هي نظرتك لمستقبل ارتريا في الأعوام القليلة المقبلة ؟
الإجابة هي بعد حديث طويل ليست له علاقة بالسؤال، عام 2015م هو مدخلنا لمرحلة جديدة وسنري ما تخبئه السنوات القليلة القادمة لذا لنصبر حتي منتصف عام 2015م (وسأعطيك الإجابة الواضحة اذا سألتني بعد أربعة أو خمسة أشهر لذا لنصبر حتي منتصف عام 2015م وعندها سأقوم بإخبارك بما تم انجازه).
هذه الإجابة تلخص لنا حالة التردي المريع الذي تعيشه البلاد في ظل نظام منبوذ ومكروه ومحاصر يتسول على دول هي أقرب إلى وضع ه، يجهل مستقبل حاله والدولة خلال عام قادم فما يكون الأمر اذا تطلب استشراف مستقبل خلال أعوام قادمة .
ومع أن المستقبل غير واضح لرأس النظام وأجل الإجابة إلى منتصف العام 2015م إلا أننا نستطيع أن نقول وبشيء من الجرأة أن الإنجاز الموعود ما هو الا استيراد مجموعة من الآليات الزراعية وافتتاح مرتقب لمعامل تنقية الذهب في كل من فانكو، هدمدمي، في القاش، وزرا في اقليم عنسبا، هذا اذا أحسنا التخمين، وفي أسوء الاحتمالات يمكن أن تتأجل الرؤية المستقبلية لعام 2015م إلى نهاية العام لنتفاجأ بإنجازات ضخمة حين يكون الحديث بمناسب حلول العام 2016م .
قبل ثلاثة أعوام أي بالتحديد في عام 2011م استعرض رأس النظام خلال اجتماع لمجلس الوزراء خطة طموحة، وعد بأنها ستنجز خلال العام، احتوت على طرق تربط بين جميع المدن، ومطارات، جعلتنا نصاب بذهول لضخامة المشروعات التي طرحت فيها، ومع ذلك لم يكن يساورنا أدني شك بأن ارتريا تعاني من حالة افلاس مزمن وأنها بالكاد توفي بالفصل الأول من الميزانية وتتعلق بالأجور والمرتبات، ومع ذلك قلنا ربما تحصل النظام على وعد بالدعم من دولة صديقة تحاول في اطالة عمره، انقضي العام بل الأعوام الثلاثة ومع ذلك لم ينجز من تلك الخطة حتي 1% ومع ذلك يتم التطرق خلال هذا اللقاء عن انجازات تحققت خلال الأعوام الماضية، ولعلم القراء تضمنت تلك الخطة ربط مدينة أغردات بطريق مباشر بالعاصمة أسمرا يمر بليبان وحبلا ثم منصورا ومنها إلى أغردات مضت سنوات ولم يتحقق من ذلك الوعد شيء بل مدينة أفعبت التي لا تبعد كثيرا عن مدينة كرن ومثلها نقفة ما زالتا خارج سياق الحضارة ومدينتي قلوج وأم حجر وهما تقعان في اقليم منتج وغني مازالتا تستنزفان ولم تحظيا بأي تنمية أو إعمار.
أيضا ضمن الإنجازات جاء سؤال حول تأمين الغذاء، أولا نحن حاولنا أن نلتقط من السؤال جملة مفيدة فظفرنا بهذه الجملة، التي جاءت ضمن مقدمة دعائية لا تهمنا كثيرا، مثلها كانت الإجابة عبارة عن محاولة لاستدرار عطف المواطن الذي بات لا يهتم لتنظيم الجبهة الشعبية .ارتريا اليوم قد مر عليها قرابة الأربعة عشر عاما من انتهاء الحرب الحدودية مع أثيوبيا والتنمية فيها معطلة، والنمو الاقتصادي فيها بطيء، فهي ضمن الدول الأضعف نموا في أفريقيا جنوب الصحراء ولا يتجاوز معدل 2%، ارتريا في أفضل الأحوال المناخية تنتج 30% من احتياجاتها الغذائية من الحبوب، أما في مواسم الجفاف فهي في حاجة ماسة إلى المعونات الغذائية، ارتريا منذ الاستقلال هي عالميا في أدني سلم ما يحصل عليه الفرد من البروتين والمياه النقية، ونذكر القارئ الكريم بسيل الأكاذيب التي يمطرنا بها أعوان النظام ومفادها أن 80% من الشعب الإرتري يتحصل على المياه النظيفة، غير أن هذه المرة تكذيب ادعاءاتهم جاء من رأس النظام حين قال: (إن كثير من المواطنين لا يحصلون على مياه نقية وأن ما نراه من برامج في هذا الجانب في المناطق القريبة يجب أن لا ننخدع به بل كثير من الأطراف والوسط والريف لا يتوفر لديها الحصول على مياه نقية)، وهذه نعتبرها محمدة لأن الأولى هو الالتفات إلى العلل لا محاولة حجبها وانكار الحقيقة، فالزعم بالاكتفاء في الغذاء تكذبه الأرقام، وهو تحت رحمة التحولات المناخية المتذبذبة لوقوع إرتريا ضمن الاقليم شبه الجاف مما كان يتوجب على النظام تنفيذ مشاريع استراتيجية في هذا السدد وهو مالم يحدث .
ذكر رأس النظام أنهم كانوا بصدد تحقيق برامج ضخمة في النقل الجوي، والبري، والموانئ، في المرحلة الماضية، غير أنها نحيت جانبا لأنها ليست من الأولويات، في إشارة واضحة للإخفاق بسبب الحصار المفروض عليه لدوره في الملف الصومالي، وهذه العزلة التي يعيشها النظام حجبت عنه التموين من المؤسسات المانحة، وكان الرئيس الإرتري قبل أكثر من عام قد تحدث عن التنمية واعتبر قيام مطار في مدينة تسني من الأولويات الاقتصادية، مما يعني أن هذه الخطط لم يتوفر لها التمويل، كما أنها في الأساس ربما وضعت للاستهلاك والدعاية ومن ثم التنصل منها، كما يدل ذلك على الفوضى والارتباك الذي تعشه إرتريا في ظل حاكم دكتاتوري يدير دولة من دون مؤسسات ولا يوجد دور للوزارات، كما لا توجد خطط خمسية أو عشرية بل كل شيء يدار بارتجال وعشوائية .كما أن جزء من المشاريع التي صرفت فيها أموال لم تكن مجدية، مثل مطار مصوع الذي اقتصر على استقبال رحلات استعراضية دعائية قام بها كل من علي عبدالله صالح والرئيس السوداني وبعدها لم تقم له قائمة لأنه شيد على أساس طموحات سياسية وليست على أسس دراسات جدوي حقيقية، لأن مينائي مصوع وعصب لن تكون لهما أهمية اقتصادية ما لم تكن لإرتريا علاقات حسن جوار مع اثيوبيا التي لديها كتلة سكانية تقترب من المائة مليون نسمة وموارد طبيعية ضخمة ونمو اقتصادي هو الأسرع في أفريقيا برمتها وصل إلى 10% والخامس عالميا وفق تقرير البنك الدولي مما يعني أن هناك شريك اقتصادي ذو أهمية لا يمكن التفريط فيه وهو في الوقت ذاته يملك خيارات متعددة تمكنه من عدم الخضوع لابتزاز شريك متعجرف، وكانت أثيوبيا قد أعلنت في ديسمبر الماضي الاستيراد عبر ميناء بور سودان وكانت من قبل تستخدمه في تصدير المنتجات الزراعية من غرب أثيوبيا وهذه الخطوة بالتأكيد ليست في صالح ميناء مصوع مستقيلا لدخول منافس استراتيجي هو الأكثر قربا إلى غرب أثيوبيا والأقل وعورة، والدولتان ترتبطان عبر طريقين قاريين وفي طريقهما لإكمال ثالث وهذه الطرق تقع في أقاليم غنية هي حمرا، قندر بحر دار، بني شنقول جما، كما أن استخدام أثيوبيا لميناء بورتسودان هو بمثابة رسالة واضحة بأن النظام الإرتري لم يعد يشكل أي تهديد لمصالح أثيوبيا.
من المفارقات ضمن الطموحات جاء الوعد بالاهتمام بالسكك الحديد وتطويرها، وبهذه المناسبة يحق لنا أن نتندر من فجاجة هذا الزعم، فإرتريا منذ الاستقلال فكثيرا ما افتخرت بتشغيل خط السكة حديد بين أسمرا ومصوع من خلال تسيير بعض الرحلات الترفيهية للأوربيين ولكن من حقنا أن نذكر حزب الجبهة الشعبية والنظام الحاكم بإخفاقاته في هذا الجانب، ففي عام 1978م وصلت طلائع قوات الجبهة الشعبية إلى غرب مدينة كرن ساحة معركة لكتات في عام 72 والتي نقلت حرب التحرير التي كان يخوها جيش التحرير من مرحلة حرب العصابات إلى مرحلة المواجهة الشاملة وأخذه بزمام المبادرة، ومع سعي أثيوبيا لاستعادة المدن المحررة في اواخر سبعينيات القرن الماضي كانت جبهة التحرير منشغلة بصد الهجوم الأثيوبي الروسي الليبي العدني الكوبي من محاور ثلاثة، عصب ومحور مرب ومحور سيتيت القاش، وكان جيش التحرير يقاتل بمفرده، بينما كانت الجبهة الشعبية منشغلة بما أسمته بالانسحاب الاستراتيجي، فبدأت باقتلاع قضبان خط السكة حديد الرابط بين كرن و عدردي، فاعترض سكان هذه المناطق على هذا التخريب وقالوا لهم إن هذا الخط بناه الإيطاليون ومع ذلك لم يأخذوه معهم حين هزموا، وكذلك فعلت بريطانيا، واثيوبيا، وحتي جبهة التحرير كانت حريصة في الحفاظ عليه فلم يتعرض للتخريب. كان جواب الجبهة الشعبية ( هل تظنون أننا نعجز عن تشييده اذا تحررت ارتريا) اذا مضي على هذا التخريب المتعمد والمقصود ثلاثة عقود ونصف، وعلى التحرير أكثر من عقدين، ومع ذلك عجز النظام واضح، بل من المضحك وعد اسياس في هذا اللقاء بإعادة بناء خط التلفريك مما يعني عدم وضوح الرؤية في ماهي الأولويات وافتقارهم إلى الموازنة بين الطموح والإمكانات، وهذا يتجلى في قوله نحن لدينا المقدرة في ضخ المياه من البحر أي القدرة على التحلية مع العلم أن تحليه المتر المكعب يكلف دولارين وأن ارتريا تعاني من أزمة طاقة ولم يستطع اسياس اخفاء هذه المعاناة عندما تطرق في حديثه إلى الطاقة حين قال : (نعاني من نقص في الطاقة الفاعلة على مدار اليوم)، فإرتريا اليوم تتحصل على احتياجاتها من النفط عن طريق التهريب من السودان والطاقة الكهربائية أيضا من السودان، ولم يخفي اسياس في أكثر من لقاء عن رغبته في أن يكون هناك ربط اقليمي أو سع أي الاستفادة من ما لدي اثيوبيا من فائض في مجال الطاقة الكهربائية والتي تتميز بالرخص والاستقرار.
صياغة الدستور الجديد:
بخصوص الدستور لن نسهب كثيرا كما كان مع الفقرات السابقة لأنه قد سبق وان تناولنا ذلك في مقال منفصل بعنوان (دستور الثورة المضادة) حاولنا من خلاله تفسير الدوافع التي أرغمت النظام إلى سن دستور جديد ومع ذلك سنبلور بعض الأفكار التي جاءت في حديث اسياس بخصوص الدستور المجمد أو الموعود.
اعتبر اسياس أن وثيقة الدستور التي انجزت في عام 1997م قد ماتت وأرجع أسباب عدم تطبيقها لكونها فاسدة وغير صالحة للتطبيق وأنها عمليا ماتت قبل الإعلان عنها.
نحن لن ندخل في مغالطات ففي المقال الذي تقدم ذكره حللنا في أسباب تجميد الدستور، وأن ما يطرح الآن ما هو الا هروب عن الإجابة وهو استمرار للسياسات المبنية على المغالطات الفجة وقلب الحقائق لكن يمكن أن نقول أن الوثيقة اذا كانت فاسدة فما هو المانع في حينه في أن تتم معالجة هذا الفساد ولماذا كان الصمت المطبق طوال هذه الفترة أي ما يقارب من 17 عاما بالتأكيد الإجابة ستكون ملتوية ولذلك لن نشغل بها القارئ الكريم، كما عزى الإخفاق في التطور الدستوري إلى التدخلات الخارجية وهو المشجب المعهود الذي تنشر فيه باستمرار جميع الإخفاقات التي يقع فيها هذ النظام الدكتاتوري الذي لا يتعلم من أخطائه الجسيمة. قبل أن نختم الحديث في هذا الموضوع يجب أن نوضح أن سلامة وقانونية الإجراءات التي اتبعت في اعداد واقرار تلك الوثيقة هي التي تحكم على سلامة أو فساد تلك الوثيقة لا حكم من معها أو ضدها تجاهها وهذا قد ناقشناه في المقال الذي تقدم ذكره . كما أننا نلفت عناية القارئ الكريم أن اسياس ذكر ان هناك جهة كلفت بصياغة الدستور ولم يرد الإفصاح عنها وهذا يقدح في شرعيتها بينما كانت قد كلفت في الوثيقة السابقة مفوضية عرفت بمفوضية الدستور.
تسربت معلومات من نافذين في النظام بتكليف شخصية قانونية مهزوزة تلبي رغبة رأس النظام بإعداد وإن شئت قل بتفصيل هذ الد ستور الموعود على مقاس الدكتاتور .
ما سر تدين اسياس جاء في حديثه (وثيقة الدستور هي ليست منزلة كالقرآن والإنجيل وانما هي عهد لا يمكن القول بأنه خالي من أي عيوب).
هروب الشباب من ارتريا :
ورد سؤال عن هروب الشباب ( بما يخص هجرة الشباب سبق وأن طرح عدة مرات، هناك شباب صمدوا داخل وطنهم كيف يمكم مكافأتهم؟ وآخر عن الدفاع ماهي يرامج تعزيز قدراتنا الدفاعية وكيف يمكن إنجاز مهام الجيش الشعبي؟
ليسمح لنا القارئ الكريم في تعديل هذا السؤال بخلاف الصيغة التي طرح بها لان مضمون السؤال وفحوى الإجابة هو عن خلو ارتريا من الشباب وهذا الوضع بدأ يعزز من مخاوف النظام وسندمج معه السؤال عن القدرات الدفاعية لإرتريا لارتباطهما من حيث الأسباب والنتائج.
يحاول النظام الإرتري وباستمرار أن يرجع موجات الفرار التي حدثت في وسط الشباب إلى عوامل خارجية من أجل نفي ارتباط ذلك بسياساته القمعية فهو في أكثر من مناسبة ربط اسباب هذا النزوح الكبير بأمريكا وغيرها ثم تحول اليوم من خلال هذا اللقاء إلى اتهام الأسر وما أسماه البيئة المحيطة بهم أي المجتمع الإرتري في تشجيع الشباب على الفرار من البلاد .
لم يكن بمقدوره أيضا اخفاء حجم الكارثة التي حلت بالبلاد من خلال هذا النزوح الكبير وللتسهيل علي القارئ أن صندوق النقد الدولي في تقرير لعام 2014 ذكر في خلال عام 2013م غادر ارتريا أكثر من ستين ألف شاب وهذا الرقم تعززه الإحصائيات التي صدرت عن المفوضية السامية لشؤن اللاجئين وكذلك تقرير الحكومة الإيطالية التي قالت في تقريرها أن 35 ألف لاجئ إرتري دخلوا إيطاليا في العام 2014م وهذا الرقم يمثل 25% من الإرتريين الذين وصلوا إلى السودان واثيوبيا وتمكنوا من شق طريقهم نحو أوروبا.
اذا الكارثة كبيرة وأصبحت تهدد النظام في وجوده وذلك لارتباطها بقوات الدفاع الإرترية، فإرتريا خلال العشرين عاما الماضية دربت في ساوا أعداد مهولة من الشباب واستوعبتهم في قوات الدفاع الإرترية ونتيجة لتردي الأوضاع الإدارية (اللوجستية) في هذه القوات وضعف الأجور والمرتبات وانعدام التموين والاسترقاق المقنع وعسكرة التعليم والحرب المدمرة مع أثيوبيا اضطرت أعداد كبيرة من هذه القوات مغادرة البلاد وأعداد أخري قريبة منها احتمت بالريف ولم يبقي في الجيش الا من هو عاجز عن الفرار لأسباب ربما اجتماعية أو أمنية لشعور أعداد غير قليلة بالتورط في جرائم النظام ضد مواطنيهم وهناك معلومات تقول بأن حجم قوات الدفاع الإرترية حاليا انحدر إلى 20%من حجمه الحقيقي مقارنة بما كانت عليه هذه القوات قبل عشرة أعوام أو أكثر بقليل.
باختصار شديد أن هذه الموجة الغير مسبوقة من الهروب لم يقتصر أثارها على العوامل الاقتصادية والاجتماعية بل بدأت في تهديد النظام في بقائه بتبخر الجيش والأجهزة الأمنية من بين يديه مما دفع به للقيام بموجات محمومة من حملات التجنيد لم يكن أمامه الا من هم فوق سن الستين من المسنين والعجزة، إذا النظام اليوم هو في أدنى درجات ضعفه والهدف من الحديث عن القدرات الدفاعية ما هو الا تطمين أنصاره وتبديد حالة الهلع التي يعيشها أنصاره لما يرونه من حالة الاضمحلال التي هو فيها .
وقبل أن ننهي هذه الفقرة يمكننا القول ان هذا الوضع اذا استمر فإن هذا النظام لن يطول بقاؤه لأكثر من ثلاثة أعوام وعندها لن يجد من يدافع عنه . كانت هناك أسئلة عن قدرات ارتريا العسكرية وعن برامج تعزيز القدرات الدفاعية والجيش الشعبي غير ذات أهمية وذلك لأن محور القدرات الدفاعية هو الإنسان وإرتريا اليوم تفتقر إلى الإنسان .
ملاحظات عابرة :
المقابلة حفلت بعدد كبير من الاتهامات للنظام الدولي الجديد وعلى رأسه أمريكا، ووصف دول الجوار بالعمالة، كما نالت اثيوبيا النصيب الوافر من التهم والازدراء والشتم والوصم بالعمالة وأنها وكيل للنظام الدولي الجديد بل ذهب إلى أبعد ما يمكن تخيله من الازدراء حين دعي أعوانه لعدم الاكتراث لمن وصفها بالكلاب والذئاب والأفاعي. اتسمت الإجابات بالطول وفي الغالب التفافية ليس لها علاقة بجوهر الأسئلة.
صيغت الأسئلة لأغراض دعائية ولا علاقة لها بالأسئلة الحقيقية التي تدور في ذهن كل مواطن ولذات الغرض رسمت الأجوبة.
تضمنت الأجوبة رسائل إلى كل من جيبوتي واثيوبيا حين تطرق في الحديث إلى شراكة في جوار مثمر وهذا قد يكون من أجل صرف الانتباه عن الخروقات الحدودية بين إرتريا وجيبوتي التي حدثت في شهر ديسمبر الماضي حين هاجمت المعارضة الجيبوتية المسلحة مواقع تابعة للحكومة الجيبوتية منطلقة من الاراضي الارترية.
اثيوبيا بالتأكيد ستشعر بسعادة غامرة حين تحلل مضمون هذا اللقاء لإدراكها حالة الوهن التي وصل إليها النظام وهو قد يلبي مطالبها ـ أي النظام ـ في ملفي الحدود وميناء عصب في تطور قد لا يكون مفاجئا بسبب الإحباط الذي يعيشه، كما باتت أكثر اطمئنانا لانحسار قدراته العسكرية.
حظي الحديث عن علاقة ارتريا الخارجية بنصيب غير قليل لكنه ما زال أسير فرضية التآمر الدولي واذا فيه شيء يستدعي الاهتمام فهو ورد كلمة (شراكة) تارة مربوطة بالإقليم واخرى دولية وثالثة أكثر دقة حين حددت الدول كأثيوبيا وجيبوتي والسعودية واليمن. اللقاء اسفر عن اعتراف لا لبس فيه بخلو ارتريا من الشباب وتردي التعليم وخدمات المياه.
اعترف النظام بفشله في دق الإسفين في العلاقات المصرية الإثيوبية من خلال استغلال الخلاف بين البلدين حول سد النهضة الإثيوبي والصيد في مائه العكر، وذلك عندما رأي تحست العلاقة بين مصر واثيوبيا بانعقاد اللجنة الوزارية المشتركة في شهر نوفمبر 2014م ورسو عطاء على شركة المقاولون العرب في منتصف ديسمبر لتشييد طريق بطول 170 كم في داخل اثيوبيا مما يعني أن البلدين تجاوزا الخلاف حول سد النهضة وكان قد سبق تصريح لراعي الكنيسة القبطية في مصر في 19 ديسمبر الماضي بأن مصر لن تتضرر من سد النهضة. هذه التطورات جعلته يعلن عجزه في استغلال الخلافات بين البلدين فقد جاء في حديثه (وحتي وإن لم يؤثر علينا منبع حوض النيل البعيد عنا) .
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=33044
أحدث النعليقات