أحـداث الـتـأريـخ بـيـن الـحـيـدة عـنهـا وقـراءتها بمـقـاصـدهـا (5-5)

abu usamaبقلم: أبو أسامة المعلم،
E.mail: asous.ert@gmail.com

المبحث الثالث.

هل ثم ما يُخيف من مآلات الأحداث، وكيف نتصور ذلك؟

نعم، ليس الأمر بهذه الأريحية كما ربما أن يسترخي له البعض، فيستغرق في تفاؤل مفرطٍ قد يؤدي إلى التهوين والاستخفاف بالخصوم دون قراءة واعية تُقدر الشؤون الإقليمية والدولية التي بعضها حاضرٌ في قلب الصراع الإرتري بأبعاده الثقافية والإستراتيجية، وبعضها ينتظر إلى ما ستؤول إليه الأحداث، وكل هؤلاء قد حسموا خياراتهم الإستراتيجية، وأنهم على اتصال بمن هم أولى بهم في إرتريا لحماية إسرائيل في الشام التي تعد موطن صراع الحضارات كما قررته وتعمل له الكنيسة الإيفانجليكية.

إن هذه الحقائق إن لم تُعطى حقها من الفهم الصحيح للتعامل معها بنا ينبغي، فسوف تكون النتائج كارثية جدًا في حال ومستقبل إرتريا والمنطقة كلها، ولعل هذا يُعيد إلى أذهاننا تجربة الثورة الإرترية عندما لم  يُحسن قادتها ومنظريها القراءة الصحيحة لما قبلهم وما كان في زمن كونهم قيادة، وبناء على هذا الجهل انتهت تجربة الثورة الإرترية إلى واقع اليوم المؤلم، ولما كانت القراءة هكذا، فإني أتصور بعضًا مما يخيف على النحو التالي:

ليست التنظيمات الإرترية المعارضة لحزب الجبهة الشعبية الحاكم، على تقارب عظيم بقراءتها في خفايا خلافاتها الفكرية والسياسية، بل نجدها على تناقضات خطيرةٍ في مسائل الأبعاد الثقافية التي تحكم مطالبها السياسية في الدولة الإرترية، سواء بالتصالح والتقارب مع حزب الجبهة الشعبية الحاكم أو بإقصائه، ولعل أبرز أوجه خلافاتها تتمثل في التالي:

-1 إن قوى المعارضة الإرترية متفقة إجمالا على رفضها لنظام حكم حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة.

ب- إن قوى فصائل قوى المعارضة ألإرترية مختلفة في تصور تحقيق أو ضمان أبعادها الثقافية التي يرى كل فصيل وجوب تثبيتها في دستور الدولة الإرترية ليُؤسس عليها منزلته بين المكون الوطني الذي يجب أن يَبْرُز في مشهد إرتريا الثقافي والسياسي والاجتماعي، وبناءً عليه يجب أن تُؤسس علاقات دولة إرتريا مع دول الجوار وبقية العالم.

-2 إن أبرز وأقوى أبعاد الخلافات الثقافية بين فصائل قوى المعارضة الإرترية، تتمثل في عموم القوى العلمانية، وقوتين دينيتين، هما: الإسلام والنصرانية، وليس الخوف من ذات هذه المذاهب الفكرية، فإرتريا ليست بدعًا من هذا الواقع المذهبي العالمي، بل الخوف من تدخل قوى التآمر الإقليمي والدولي التي تعمل من أجل ضمان مصالحها الإستراتيجية، وليس من أجل إرتريا كما حصل بقوة في أربعينات القرن الماضي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك التآمر الدني كان كما في كتابي: (إرثٌ من الرماد، واغتيال اقتصاد الأمم) للاستخبارات الأميركية هو الذي أوصلنا إلى ما نعانيه في واقعنا المعاصر منذ سبعة عقود مظلمة.

-3 يبدو أن تيار القوى العلمانية سوف يكون أقل شأوًا لقلة ناصريه من بين عامة الإرتريين، ولدى المسلمين خاصة بسبب إرثه السيئ لما كان هو المسؤول الأول لمعاناة إرتريا بقراءة نتائج الثورة الإرترية من قبل فصائل تنظيمات جبهة التحرير الإرترية من جهة، ومن قبل تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا من جهة أخرى.

-4 يبدو أن تيَّاري المسلمين والنصارى سوف يكونا الأكثر والأبرز حضورًا في الساحة السياسة والفكر، وأننا سوف نرى لكل منهما مؤيدين ومناصرين أقوياء من الداخل والخارج، بيد أن تيار النصارى لعله أن يكون الأفضل حظًا بما يحظى به من دعمٍ وإعداد بسبب حضور وظهور من مؤيديه في الساحة الإقليمية والدولية بقيادة أميركا صانعة واقع النظام العالمي الجديد الذي تريد أن تختزل العالم كله في نمط ثقافتها الرأسمالية الإباحية المنحلة كما دعا إلى ذلك منظريها كما في كتابه: (نهاية التأريخ وخاتم البشر) لمؤلفه: (فرانسيس فوكوياما) الذي طالب بإسقاط كافة الحضارات البشرية القديمة، وفرض واقع الحضارة الأميركية بعد أن غدت أميركا بحق حكومة العالم بدون منازع عقب نهاية الحرب العالمية الباردة.

-5 أما تيار المسلمين فيبدو أنه سيعاني كثيرًا حتى يتكيف مع واقع حرجٍ تتمالأ فيها ضده بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية، بينما نجده يتمتع بتأييد عظيم جدًا من قبل جماهير المسلمين في الداخل والخارج، وأنه مع الزمن سوف يتمكن من حشد جيش عظيم لا يمكن أن يتصوره الخصوم والأعادي، هذا انعدام التأييد والدعم من قبل قوى نظامية إقليمية ودولية بسبب هيمنة أميركا على حكومات العالم، وأنها قد قررت حربًا عالمية ضد المسلمين في كل مكان خارج حدودها.

-6 لعل هذه القراءة أن تقودنا إلى هواجس واقع تقسيم إرتريا على أساس البعد الثقافي الذي أقوى وأبرز هاماته المرتفعة يمثلها دومًا بعد الإثنية الثقافية، وهو هاجس لا يفارق خلد القوم، بيد أن تصور معالمه في واقع اليوم، ليست بالضرورة أن تكون على أسس قواعد ما كان في مرحلة الانتقال من الاستعمار إلى نموذج سياسي لدولةٍ إرتريةٍ مستقلةٍ من بعد الحرب الثانية، ذلك لأن قواعد دعوة التجراي تجرينيا التي كانت أكثر تأثيرًا في الساحة الإرترية السياسية والاجتماعية والأمنية في تلك الفترة بما حظيت به من تأييد إقليمي ودوليٍّ، قد انتهت مفهومها التقليدي في قراءة واقع اليوم، إذ قد أصبحت أمة التجراي الإثيوبية في واقع اليوم من أقوى وأهم فئات الحكم الإثيوبي، ضمن سائر القوى الوطنية الإثيوبية، فلا يمكن أن نتصور عقلاً ومنطقًا لأن تختار أمة التجراي الإثيوبية، الانفصال عن عموم إثيوبيا لترجع إلى واقع الضعف والبعثرة والمصير المجهول، بوهم التحالف مع التجرينيا الإرتريين الذين هم أقل من أن تَعتمد عليهم أمة التجراي، فعموم الموارد الطبيعية لإقليم تجراي الإثيوبي في الشمال، وإقليم تجرينيا الإرتري في الجنوب، ليسا كافيين بالقدر المطلوب لإقامة دولة قومية عصرية، ما لم يحسموا لأن يكون ميناء عصب جزءًا من الديمغرافية الجديدة، إما بالانضمام إلى إقليم دنكاليا بسكانه العفريين، أو بضمه إليهم إقليم دنكاليا بسكانه العفريين، فإن هم استطاعوا تحقيق هذه الديمغرافية الجديدة بالتراضي بينهم على أي نموذج يتفقون عليه، فلن يكن بوسعنا الاعتراض على ذلك، أما إن كان وصولهم إلى ميناء عصب الإرتري على جماجم العفريين اعتداء بقوة السلاح، فعندئذ لن يكن يسعنا أبدًا أن نقف مكتوفي الأيدي.

-7 رُبَّ سائلٍ يقول: لماذا رشحتُ إقليم دنكاليا الإرتري، لقد رشحتُ هذا الإقليم لكون سكان هذا الإقليم غدوا يطالبون بالانفصال عن إرتريا، وهو ما أوضحته في كتابي الذي اسمه: (إرتريا في قراءات سياسية) بعنوان: (مؤتمر المثلث العفري في بروكسل)، وتتضح هذه القراءة أكثر عندما عند ما نعلم بأن الأقاليم الجنوبية الإرترية الثلاثة التي يقطنها نصارى إرتريا ليست خالصة لهم، بل فيها مسلمين شركاء بالأصالة، وأن نسبتهم لا تقل عن %40، وليس ذاك فحسب، فهؤلاء المسلمين بهذا الحضورٌ الكافي لإحداث أي قراءة قوية في المعادلة السياسة والفكرية التي تترتب عليها أقوى قرارات سياسية لتقنين الحقوق السياسية والفكرية والنموذج الثقافي فيها، لاسيما أنهم على علاقات قوية مع سكان إقليم دنكاليا، هذا بالإضافة إلى العفريين الإثيوبيين الممتدين جميعهم إلى دولة جيبوتي.

-8 أما المسلمون في الأقاليم الإرترية الستة التي تقع في الشرق، والوسط، والشمال، والغرب، والجنوب الغربي، فيتمتع أهلها بكثرة عدد السكان، وسعة الأرض، وتنوع المُناخ، وبناء على ذلك يتنوع فيها الإنتاج الزراعي والحيواني، وأن بعض أقاليمها تمتد في شاطئ البحر الأحمر الغربي، بطولٍ يزيدُ عن ألف كم من دولة جيبوتي جنوبًا وحتى السودان شمالاً، وفيه ثروات سمكية هائلة ومتنوعة لم تستغل بعدُ، هذا فضلاً عن أهمية هذه الأقاليم ضمن  أهمية البحر الأحمر في البعد الإستراتيجي الأمني والسياسي والتجاري؛ لقربها من جزيرة العرب المعروفة بخصائصها ومواصفاتها الإقليمية والعالمية، ولقربها من إقليم الشام حيث صراع الحضارات وإسرائيل، وثَـمَّ ثروات معدنية وبترولية مسكوتٌ عنها اليوم عن عمدٍ في إرتريا عمومًا، وفي أقاليم المسلمين خصوصًا، ولعل هذا السكوت المتزامن مع الحرب التي يشنها حزب الجبهة الشعبية ضد الشعب الإرتري عامة، والمسلمين خاصة، المقصود منها، حتى تتهيأ إرتريا لغير أهلها ضمن أبعاد القراءتين في: ( 7-6 ).

-9 إن هذه القراءات تفيد عند التمعن فيها بتحكيم العقل، عدم تَمكن أي قوة تتوهم إقصاء المسلمين عن الساحات الإرترية السياسية والاجتماعية، إذ لا يمكن أن تهنأ بإقامة دولة خالصة لها بدون المسلمين الإرتريين فيها، هذا بصرف النظر عن مظاهر ضعف المسلمين المعاصر الذي كانت قيادات المسلمين هي السبب فيه، وليس ذات المسلمين للأسباب التي بسطتها في المجلدات الثلاثة من كتابي: (إرتريا والمأساة التأريخية)، فالمسلمون اليوم في مرحلة الترتيب والتكوين، كما أن غيرهم في مرحلة الترتيب والتكوين .

-10 إن الأمر المؤكد، أن أي جهدٍ يبذله البعض مهما حظيَ بدعمٍ من حزب الجبهة الشعبية، وآخر خارجيٍّ بغية إقامة دولةٍ إرتريةٍ بإقصاء المسلمين عن كل ساحاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية لن ينجح أبدًا، فمحاولة مخطط تقرير مصير إرتريا النهائي من طرف واحدٍ نهاية أربعينات القرن الماضي، إما بضمها إلى إثيـوبيا، أو بتقسيمها بين إثيـوبيا والـسودان، ثم ضمها إلى إثيوبيا في مطلع ستينات القرن الماضي بنكث إثيوبيا ومن تواطأ معها من الداخل والخارج لإسقاط ميثاق الإتحاد الفيدرالي الصادر عن الأمم المتحدة مطلع خمسينات القرن الماضي بتواطؤ أميركي بريطاني إثيوبي إسرائيلي، لم تنجح رغمًا كل هذا التأييد الإقليمي والدولي الضخم الذي حظي به من أجل إقصاء المسلمين.

-11 بيد أننا لا نعلم ما ستؤول إليه الأحوال في وطننا، فقد يجنح بنا هاجس تقسيم إرتريا على أساس ما جاء ذكره أعلاه، فلسنا متأكدين من عزم القوم، بقدر ما نشعر ونسمع الهمس به، فهذا الهاجس مع ضيق مساحته الفكرية والسياسية، لا نضمن عدم إسرارهم عليه بناء على القراءات أعلاه التي هي أقرب إلى وهمٍ سياسيٍّ منها إلى مطلبٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ، ولكن ماذا لو أسر القوم على تفعيل هذا الهاجس على أرض الواقع عندئذ، يبدو أن الخاسر الأول والأوحد سيكون أهل الجنوب النصارى لجملة الحقائق المذكورة والتالية، فلا هم سيتمكنون من إقامة دولة مستقلة خاصة بالتجرينيا، ولا التجراي يرضون بذلك ليرجعوا إلى الخلف فيسقطوا في حمأة فكر متخلف من بعد عز حقيقيٍّ قد حققوه بجدارة، وأما اختيار الانضمام إلى إثيوبيا، فيعني الذوبان في بوتقتها، وأما وهم الإتحاد مع إقليم دنكاليا العفري، أو ضمه إليهم بقوة السلاح من أجل التقوى بميناء عصب، فهو أسوأ وهم سياسيٍّ، ليس إذًا أمام الجميع إلا صناعة واقع التعايش السلمي للعيش وطن واحدٍ جامع، لا فضل ولا منة فيه لأحد على أحد، بل الجميع فيه شركاء عزيزين مكرمين، لاسيما أن الوطن يسع الجميع.

-12 يبدو لي أن الكنانة السياسية لهذه المنطقة، تخبئ احتمال مفاجأتنا بوقوع متغيرات كبيرة وخطيرة لإحداث ديمغرافيات جديدة، وقد تُحدثُ هذه المُتغيرات الديمغرافية قراءات جديدة براية أو برايات، وهو احتمال لا أرى يتحدثُ عنه كثيرٌ من الناس، ومن يتحدث عن هذه الاحتمالات بقراءة الظواهر السياسية واضحة المعالم، ربما اتُّهِمَ إما بتأجيج فـتنة أو بعمالة، أو بضعف الوازع الوطني والديني والأخلاقي، بهذا لست أعني أنا الأعلم وأنا الأشجع، ولكني وجدتني بالفطرة قبل الانشغال بالعلوم السياسية، الاهتمام بقراءة ظواهر الأحداث بمنهاج الاستقراء التحليلي.

-13 ليس من المنطق السليم أن تصور ما قد يجري بين الجنوب الإرتري والشمال الإثيوبي، قد لا يجري بين كل إرتريا وشرق السودان إذا ما تحقق احتمال انفصال الجنوب الإرتري، سواء بالانضمام إلى إثيوبيا، أو بالإتحاد مع إقليم دنكاليا على هيئة ما، أو بإقامة دولة قومية، فمن المفاجآت السياسية، إنني لا استبعد وقوع أحداث سياسية بين شرق السودان وإرتريا، ولكن ما هو التصور الطبيعي المستند على حقائق علمية ووقائع تأريخية واجتماعية موثقة، هذا ما سأخوضه في الصفحات التالية- بإذن الله-، لذا آمل من الجميع الحلم وسعة الصدر.

لنعلم سلفًا أن وقوع الخلاف في القراءات الفكرية خاصة، أمرٌ طبيعيٌّ وظاهرة صحية، لذا يجب أن لا يكون ما نقدمه لليوم، بل للتأريخ بتأسيسه على قواعد علمية ومعرفية بعيدًا عن علاقة التواد والتضاد بين الأشخاص، فإما أن نؤيد الكاتب عندما يكون من القرابة والجماعة، وإما أن نضاده عندما لم يكن من القرابة وجماعة، فإن كل الذين يُجرون مثل هذه المحاكمات، لا أشك أنهم ساقطي الفكر، ليست الساحة الإرترية في حاجة إلى أقلام قذرة رديئة متخلفة عن الركب الحضاري مثلها.

-14 إن التصور الطبيعي المستند على حقائق علمية ووقائع تأريخية واجتماعية موثقة قد فرغت من دراستها البحثية منذ عقد مضى في كتابي المؤلف من ثلاثة مجلدات بعنوان: (إرتريا والمأساة التأريخية) ومن هناك سوف ألخص المادة- بإذن الله-، في غير إسهاب ممل، ولا اختصار مخل، فإلى قراءة الملخص.

جاء في الجزء الأول من إرتريا والمأساة التأريخية أثناء الحديث عن طبيعة ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين السودان وإرتريا تحت عنوان: (السودان وإرتريا خلال نصف قرن)، وبعد كلام في هذا الشأن، تفرع عنوان آخر هو: (أخطاء إستراتيجية بحسابات بدائية)، جاء فيه ما ملخصه:

لقد ربط السودان الرسمي استقلال إرتريا بمطالب شعـبه في الجنوب الذي ما فـتئ يطالب المركزية بحقـوق المواطنة في السيادة والحكم والثروة والتعليم والصحة، وهو الأمر الذي حقـقه الجنوبيون بعد مرور أكثر من خمسة عقود داميةٍ استقرت بعدها سفينة السودان بإقرار انفصال الجنوب بالـتراضي، وقبل الوصول إلى هذه النتيجة الراقية، كانت إثيوبيا تؤيد جنوب السودان على الدوام بإصرارٍ مقايِضةً السودان أمنه القومي بالقضية الإرترية، وكانت عقيدة مقايضة السودان بمصير شعبه الجنوبي لصالح الشماليين، في مقابل إقصاء المسلمين الإرتريين عن وطنهم أو حتى فنائهم من أوضح مسالك الساسة السودانيين الذين ضادوا استقلال إرتريا من أجل تحقيق أطماع إثيوبيا بالوصول إلى البحر الأحمر، ولم أعلم أجهل وأحمق فكرًا منه في مثله لما لم  يُجهد السودان نفسه لدراسة المخاطر المترتبة على تبنيه لإستراتيجية المقايضة المجحفة تلك، متجاهلاً كون حكومات السودان الشمالية أقرب إلى الإرتريين ما دامت الحسابات بما جاء ذكر طرفه في الصفحات السالفة.

نعم، لستُ أتحدثُ فيما كان فحسب، بل وفيما هو كائنٌ وفيما سيكون، فالمعلوم أن السودان لم يكلف نفسه لدراسة المخاطر المترتبة على تبنيه لإستراتيجية مقايضة القضية الإرترية بمطالب شعبه الجنوبي في السابق، ومقايضته اليوم بمطالب حزب الجبهة الشعبية بمصير المسلمين الذين يتم إقصاؤهم عن وطنهم، هذا في الوقت الذي يمثل فيه الإرتريون النسبة الأعلى من سكان شرقه حتى البحر الأحمر، سواء من المتسودنين منهم أو غير المتسودنين، فالمعلوم قطعًا أن الجميع مرتبطين بأصولهم الإرترية حتى لو عملوا في مؤسساته السيادية العسكرية والمدنية.

ليس ذاك فحسب، فثم وجود الإرتريين الهائل في معسكرات اللاجئين في عموم شرق السودان، وهو الوجود الذي لم تقدره السلطات السودانية التقدير الصحيح، فهي اليوم قد أخذت تجنسهم في معسكرات لجوئهم بقرار مركزي مؤسس على بعدٍ أمنيٍّ وسياسيٍّ لصالح الشماليـيـن لاحتاجتا إليهم من أجل موازنة سياسية وعددية بمرغماتي الهدف، ولو أن السودان أمعن النظر وفكر في البعد الإستراتيجي لعمل أنه اليوم إنما يضعفنا لصالح خصمٍ مشتركٍ، وأن هؤلاء الذين غدا يمنحهم جنسيته اليوم سيكونون غدًا صوت أهل حق ضده عندما يصل الجميع إلى مرحلة تقرير مصيره إذا ما دخلت المنطقة في صراعٍ ما كما أتوقعه، هذا ومن ممارساته البرغماتية:

1- اتخذ السودان الوجود الإرتري في بلاده عصًا يخوف بها تارة، ويبتزها أخرى  يذبحهم على عتبات صراعاته الداخلية التي تقع عادة بين أحزابه في ساحته السياسية المطربة دومًا دون وازعٍ، وقد تجلت صور تلك المآسي في المداهمات والاعتقالات والإبعاد التعسفي الذي لا نرى حاجة لضرب أمثلة حوادثه لكثرتها وشيوعها وبشاعتها.

2- كان السودان وما زال يتخذ القضية الإرترية دومًا كرت رهان في المزاد السياسي والأمني فيقايض بهم أعداءهم، فتارة يسمح لهم بممارسة النشاط السياسي ابتزازًا لهم، وأخرى يمنعهم وفاءً، بل قد تجاوز من قبلُ حد المنع إلى سجن القيادات والكوادر وتسليم بعضهم إلى إثيوبيا لتقدمهم إلى حبال مشانقها أمام شعبهم، أو لتغيبهم في سجونها، وكذلك يفعل اليوم مع الجبهة الشعبية.

3- اتخذ السودان الوجود الإرتري كبش فداء كلما تأزمت تناقضاته المتصلة بقوى خارجية يتورط فيها بعض ساسته وعسكرييه وأجهزة استخباراته كما حصل في عهد الرئيس جعفر النميري من خلافات بين السودان وليبيا، فاختلقت استخباراته أقبح بهتان ضد الشعب الإرتري مدعيَّة تورطه في تآمر ضد السودان مع ليبيا لقلب نظام الرئيس المظفر جعفر النميري، وقد كان ذلك البهتان الأحمق، الأبشع والأسوأ لأحداث عام 1976.

نعم، لقد أخرجت أجهزة استخباراته لتسويق هذا البهتان سيناريوهات ادعت فيها تورط الإرتريين ارتزاقًا لصالح ليبيا ضدهم، وأذاعت ذلك رسميًّا في وسائل إعلامها المقروءة والمسموعة والمشاهدة في آن واحد، وبناءً على ذلك نالت بعض أجهزتها شر مما يناله عدو من عدو محارب له، وهو ما يصعب إعادة ذكر تفاصيله، وإمعانًا في الغواية والتضليل فقد أظهرت وسائل إعلامهم في شاشات تلفازها من ادعت أنهم أبطال المؤامرة المزعومين، وهما شابان إرتريان كانا عائدين إلى الخرطوم من مناسبة زواج لقريب أو صديق لهما في مدينة ود مدني، والـشابان المتهـمان هـما: أبوبكر إسماعيل، وهو يعيش حليًا في السويد حسب علمي، وزميله أحمد سيرا، حتى فوجئنا بهما هكذا في مشهد صور أبشع مأساة الشعب الإرتري في السودان الشقيق؟!

4- كان السودان يشنُّ غارات مباغتة أحيانًا ضد مؤسسات الشعب الإرتري ممثلة في تنظيماتهم، ومن تلك المآسي ما كان من غاراتٍ على مؤسسات فصائل الثورة الإرترية السياسية والجماهيرية، ثم مصادرة أو إتلاف ما فيها.

5- ومن تلك المآسي ما كان من مداهماتٍ على المنازل العائلية وانتهاك حرمتها ليلا أو نهارًا.

6- ومن تلك المآسي، حملات ترحيل الأسر الإرترية العـزل إلى مجهول بعد أن يتم حشرها في صناديق سيارات نقل البضائع التي كُـنَّا نشاهدها وقلوبنا تُعْتَصَرُ ثم تقطرُ دمًا لحال التعذيب النفسي والجسدي الذي كان ينطق به واقع الأمهات والآباء مكلومي القلوب ومجروحي النـفوس، وهم أشبه حالاً في تلك الشاحنات بقطعان ماشية معـدة للترحيل إلى الموانئ استعدادًا لتصديرها إلى المذابح، وقد أُلْبِسُوا على صهواتها كل معاني الهوان والذل والضيم والاعتداء والخزي وخيبة الأمل البادي كله في نظراتهم التي يقرأها الأمي سليم الفطرة قبل المتعلم، فالوجوه الشاحبة مطرقةٌ إلى الأرض، والشفاه الجافة المشققة تتمتم همسًا، والدموع المترقرقة في مآقي الجميع شحيح تسترحم الذئاب، والأنفاس متقطعة تستنجد مجهولاً، وكأن جميعهم في قرقرة قبل الممات، والحديث ليس إلا استرجاعًا وحوقلةً، والأذهان شاردةٌ لهول المصاب دون رحمة، والعـقول حائرةٌ لشدة قسوة الناس مع براءة ساحتهم، وقلوب الرجال تخفق لتصور سوء مصير ذراريهم بعد أن سُلبوا رجولتهم.

7- ومن المآسي، مصادرات متكررة للعتاد العسكري الخاص بالشعب الإرتري، وقد كان من آخرها سلاح أُهدِيَ لأحد التنظيمات الوطنية لتجهيز 5,000 جندي بمضادات الطيران والمدفعيات الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، والرشاشات الميدانية، والقطع الفردية، كلها مع كامل ذخيرتها، وكان ذلك في عام 1991، بيد أن السلطات السودانية قد صادرتها.

8- ومن المآسي، ما كان من اختفاء متكرر لأطنان كبيرة من المواد الغذائية والعلاجية والكسائية التي كانت تجود بها منظمة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأم المتحدة لصالح اللاجئين الإرتريين، إذ لم يصل منها إليهم إلا القليل وهم في أمس الحاجة إليها.

9- ومن المآسي، اعتقالات متكررة لقيادات وكوادر الثورة الإرترية وزجهم في سجون ومعتقلات دون سبب وجيه، والدليل أنهم يطلقون سراحهم بعد حين تحت بند ( معـلـيش )؟!

10- ومن المآسي، السكوت على اغتيالات قيادات وكوادر الثورة الإرترية من قبل الأعداء داخل المدن السودانية، ثم تسدل الستارة على قضاياهم تحت بند ( ؟ )؟!

11- ومن المآسي، بشاعة مظاهر التعذيب النفسي للاجئين الإرتريين وهم مصطفون في طوابير لأمر ذي بال ولغير ذي بال، والشرطة السودانية تحف بهم وهي تحمل عصي غليظة وسياط، ولستُ معترضًا على ذات الطوابير، بل على طول المكث فيها لساعات طويلة في الحر والقر دون مبرر ولا فائدة تعود إليهم ولا إلى السلطات السودانية.

-12 أما أحوال معسكرات اللاجئين فكانت ومازالت الأسوأ بكثير، فواقعهم المعيشي والصحي والتعليمي في تلك المعسكرات كان كئيبًا ووحشيًا جدًا إلى حدٍ يصعب تصويره، فالأمم المتحدة كانت قد تبنت رعاية شؤون اللاجئين الإرتريين بالتنسيق مع السلطات السودانية التي تعهدت من جهتها لأن تقوم بنقل وتوزيع كل ما تجود به منظمة غوث وتشغيل اللاجئين، ولهذا فقد وفرت منظمة غوث وتشغيل اللاجئين للإرتريين ما يحقق لهم قوامة الحياة الكريمة التي تليق بالآدميين، وتحت لذلك مكتبًا رئيسًا لها في الخرطوم، وأخرى فرعية، كلها تديرها المندوبية السامية لإغاثة وتشغيل اللاجئين.

لكل هذه الأسباب والاعتبارات، ظل الإرتريون يُخفون في أنفسهم ادعاء خطير وهم لا يفتؤون يرددون أبعاده في مجالسهم الخاصة في لحظات الغضب، كلما ضايقتهم القوات الأمنية التي كانت السلطات السودانية العليا تصدر أوامرها ضدهم، حتى بلغ الأمر ببعض الإرتريين التعبير عنها بصريح اللسان القائل:

” إن الحدود الإرترية أبعد عمقًا داخل السودان على اليابسة والبحر عما هي عليه اليوم “، وكانوا يقولون ذلك بصريح القول للتأكيد على أنهم في أرضهم، ذلك بالتزامن مع مزيد تأذيهم من السلطات السودانية لأتفه الأسباب، وهو ما صرح به أسياس في إحدى المقابلات عندما سئل عن اللاجئين في الذين في السودان حيث قال: ” إنهم في أرضهم”.

إن السلطات السودانية المتعاقبة على حكم البلاد، لم يغب عنها ما كان الإرتريون يخفونه من ادعاء بشأن الحدود السياسية الإرترية السودانية، لهذا فقد ظل السودان يرفض استقلال إرتريا مخافة أن يتولد عن استقلالهم مطالبته للسودان بالأرض التي يزعمون أنها لهم في شرقه من الجنوب الشرقي إلى البحر الأحمر في الشمال الشرقي، وكان خوف السودان مؤسس على فرضيات ونظريات غير مقروءة، فماذا لو أن هذه المزاعم طالبت بها دولة إرتريا المستقلة، أليس ذلك سيُفضي إلى خلافات سياسية وعسكرية بين البلدين في منطقة البحر الأحمر، وأن هذا سيقوي نزعة انفصال شعبه في الجنوب وربما غيرهم، وهذا أمرٌ خطير وعظيمٌ يهدد أمن السودان القومي في القريب والبعيد، ذلك لأن أحداثه ستقع في إقليم البحر الأحمر الذي يربطه بحركة التجارة العالمية، ويكسبه أهمية سياسية معتبرة ضمن حراسة أمن البحر الأحمر، وغير ذلك من الاعتبارات التي تعزز مكانة السودان الإقليمية والدولية في الموازنات السياسية والأمنية.

هنا قد يقول قائل، إذا لَمَّا كان الأمر كذلك فمن حق السودان حراسة مصالحه القومية بسد كل المنافذ والذرائع المؤدية إلى تعـريضها لخطر الـنيـل منها وإن كان احتمالا ضعـيفـا، وهـذا يبدو في الوهلة الأولى قولٌ قويٌّ ومنطقيٌّ، لكنه في الحقيقة قولٌ ساذجٌ ومحض جدلي ينقصه بعدُ النظر بقراءة فقه الواقع، إذ ثمَّ حقائق واقعية مختلفة تستـند على أرضيات صلبة تخالف هذه النظرية القائمة على قراءة متخلفة، ومن الحقائق الواقعية التي كان على السودان قراءتها بنظريات أعمق منها:

1- إمَّا نظرية ماذا لو استقلت إرتريا فوقع ما يحذره السودان، وها هي إرتريا قد نالت استقلالها الوطني وبقي الخطر قائمًا بحسب مخاوف السودان؟

2- وإمَّا نظرية أن تُضَمْ إرتريا إلى إثيوبيا، فإثيوبيا أدهى وأمر، ولولا أنه ليس من ضمن مواد المادة لذكرتُ بعض أراض السودان التي ضمتها إثيوبيا إليها، ولم يستردها السودان منها بعد؟

-3 ثم نظرية ثالثة لم يقل بها أحد صراحة، بيد أنها كامنةٌ في نفوس القوم، إلا أنها ليس لها مكانٌ في علم السياسة، لأنها نظرية مبنيَّةٌّ على تصور فقدان الذاكرة التي يعبر عنها بـ: ( النسيان )، بناءً على واقع التقادم، فيبدو بذلك للبعض وكأن أمة ما تنسى حقوقها بسبب تقادم عهدها، وهذه النظرية لا يقول بها إلاَّ جاهل بعلم التأريخ، متوهمًا تحقق حصولها على أرض الواقع، لكن الأمم والشعوب، عادةً لا تنسى قضاياها الكبرى إن كانت حقيقية ثابتة تؤيدها جملة من الأدلة والقرائن الثابتة الموثقة، وما في حكم هذا وذاك مما هو معتبر ومقدرٌ في القوانين والأعراف الإنسانية المعمول بها في مثلها قديمًا وحديثًا.

وإذا ما أبدت أمة ما ظاهرة النسيان لحق من حقوقها، فرب ذلك لضعفٍ قد اعتراها، ثم يأتي زمن إحيائها لمطالبها القومية بعد فترة سكون وموادعة كانت لظرفٍ عارضٍ، بصرف النظر عن عمر ذلك الظرف؛ لهذا فالساسة والمفكرون والكتاب والباحثون العقلاء، لا يبنون إستراتيجياتهم القومية على احتمالات متهوكة؛ لهذا كان على السودان بدلاً من أن يبني تلك الفرضيات المتخلفة، أن يعتمد إعمال نظريات أخرى أكثر واقعية ونفعًا له في حاضره ومستقبله.

ولعل من أهمها وأنفعها له ثلاث نظريات، ثم النظر إلى أيها يؤتيه الأكل أكثر وأفضل تحققًا، فيقدم الأرجح والأرجا للسودان عاجلاً وآجلاً، ومن الحصافة والكياسة أن يساوم بكلتا أو بإحدى الأخريين مادام الأمر أمر سياسة تتحكم فيه مصالح ومكائد مجردة، لاسيما أنه كان وما زال يتخذ القضية الإرترية كرتُ رهان سياسي وأمني للتبرير أو المساومة، والنظريات الثلاثة التي كان عليه تقريرها ثم إعمالها بحسب الحاجة والواقع هي:

أولاً، كان على السودان إما أن يمنح الجنسية السودانية لكل مواطني تلك المنطقة ما دام المسوغ القانوني والأخلاقي متوفر بالتأسيس على الأصول المشتركة بين السكان، ثم يستوفيهم كامل حقوق المواطنة في كافة المجالات التي أهمها، التعليم والصحة والتنمية والاستثمار والوظائف المدنية والعسكرية والأمنية، ليُلبي بذلك جميع حاجاتهم ويملأ شعورهم بالمواطنة الحقيقية التي أولى مقاصدها العظيمة، بسط العـدل والمساواة في الحقوق والواجبات للفرد والجماعة بين أبناء الوطن، وليست تلك السياسات الحمقاء والتطبيقات المجحفة بحق الأقاليم كما بينتها المعارضة فيما أسمته بـ:

(الكتاب الأسود).

ثانيًا، كان على السودان إن لم يمنح جنسيته للإرتريين ثم يستوفيهم حقها، أن يدفعهم نحو تحقيق استقلالهم الوطني بإبرام اتفاقات تحقق له ضمان أمنه القومي مع جهة مظنة تَسلُّمِ استقلال إرتريا، ضابطًا اتفاقه معها بعهود ومواثيق مشتركة مع إعلان ما يمكن إعلانه، وهنا يصبح من حق السودان أن اختيار الجهة التي يلزمه التعامل معها من بين الـتـنظيمات الإرترية.

ثالثًا، كان على السودان إن لم يمنح جنسيته لهم بالاستناد على المسوغ القانوني والأخلاقي المذكور، ولاعتبارات تخصه كالذي اعتمده اليوم لتجنيسهم في بعض معسكرات لجوئهم، ولم يجد من يتفق معه من بين التنظيمات الإرترية، كان عليه أن يصنع قوة فكريةً وسياسية يضمنها مستقبلاً من بين الحضور الإرتري الحقيقي الفاعل الموزع في جغرافية السودان السياسية والاجتماعية، دون أن يقلل من شأنهم فضلاً عن تجاوزهم، فيصنع بهذا بعده الإستراتيجيِّ المعتبر.

المبحث الرابع.

ثم أزمات أراها تشرئب رؤوسها صوبنا.

فما هو التصور العلمي العملي المشترك للنجاة من نُذُرها؟

بهذه المختطفات اكتفي لأنتقل إلى قراءة المباحث.

إننا دعاة سلام من أجل تعايش سلمي بين مكوننا الوطني، وبينا وبين والمنظومة العالمية، فما هو التصور الذي علينا صناعة واقعه بيننا، وبيننا وبين دول العالم، خاصة في هذا الزمن الذي انفتح فيه العالم على بعضه بسرعة وقوة؟

وما الذي يلزم دول الجوار والعالم الآخر تجاهنا، بينما نحن في مرحلة انتقال من نظام شمولي استبد بالوطن جملة وتفصيلا، فقاد الوطن إلى واقع دمار وشتات وتمزق، وأنه لم يقبل التفاهم معه لتجنيب الوطن والإقليم ويـلات ما قـد يترتب على رفضه الـتـفاهـم مع شركائه، بل أنه لا يعترف بمن هم خارج الوطن من القوى السياسية بأنهم مواطنين إرتريين لهم الحق الكامل في وطنهم وإن منعهم حقوقهم الفكرية والسياسية؟

إن نظام حكم الجبهة الشعبية الشمولي المستبد، أصبحت تُعدُّ أعماله ضد شعبه خلال العقدين والنيف صكًا شرعيًّا وقانونيًا للثورة الشعبية عليه، فهو كسائر أنظمة الحكم الشمولي المستبدة التي تعمل من أجل البقاء والهيمنة الكاملة على الحكم بقبضة حديدية تمكنه من السيطرة التامة على الدولة وما حوت من إنسان وثروات طبيعية، وإمعانًا في ذلك فهو قد اختزل الوطن كله في شخص أسياس أفورق، أو في شخص حزبه، ولما كان تحقق ذلك يحتاج منه إلى مظلة قانونية، فقد جند العامة مستغلا حبهم العظيم لوطنهم بما غدا يصوره لهم من تآمر إقليمي ودولي ضد هذا الوطن العظيم المحبوب، وأنه صور لهم أن بعض رجال المعارضة أصبحوا خونة ومرتزقة بما يدعيه ضدهم بأنهم قد تورطوا في عمالة مشينة ضد وطنهم لخدمة أعداء الوطن المتربصين به ليلا ونهارًا، وهو بهذه التهيئات الذهنية الذكية، وبهذا التمهيد فقد قضى على كثيرين من أبناء الوطن الأبرياء الشرفاء من مفكرين وسياسيين ومناضلين ومواطنين أبرياء من كافة طبقات الأمة الذين قتلهم غدرًا، أو أنه تغيبهم في سجون شبه مؤبدة دون ذكر الجرائم التي ارتكبوها، وبعضهم لفظهم بعد أن جعلهم معاقين.

ومن نجا مِن كل تلك الويلات، هم أولئك الذين شردهم مِن وطنهم باستمرار تهديدهم ووعيدهم والتضييق عليهم حتى أغض مضاجعهم ونقص عليهم حياتهم، ومن وراء كل هؤلاء ما أكثر الأسر التي مُزقت بتغييب أبنائها، سواء بقتلهم أو سجنهم أو إعاقتهم أو تشريدهم، فتبعثر أفراد الأسرة الواحدة، إما خوفًا من أن يدركهم ما حاق بأقاربهم، وإما بضياع الأفراد بالسقوط في مستنقعات الرذائل بسبب غاب ولي الأمر، وما أكثر الآباء والأقارب والأحباب الذين ملأت حياتهم آلام الحزن والخوف.

أما غالب الناشطين الذين خراج الوطن الرافضين لنظام حكم الجبهة الشعبية الشمولي، فيظل يلاحقهم كما هو الحال مع السودان الذي دأب يعتقلهم ثم سلمهم حينًا بعد حين لعدوهم، وهذا واقعٌ أصبح مألوفًا منذ عهد عبود وإلى اليوم، لكنه اليوم أسوأ وأنكى للأسباب التالية:

أولاً، إن نظام الحكم القائم في إرتريا ليس مستعمرًا غازيًا، بل هو من أبناء الوطن.

ثانيًا، أن السودان دولة مجاورة بينها وبين الشعب الإرتري كثير من الروابط الإستراتيجية، فكل منهما يثمل للآخر بعدًا أمنيًّا واجتماعيًّا، وبين الشعب الإرتري إجمالاً، وبين سكان شرق السودان إجمالاً علاقات قرابة خاصة.

ثالثًا، إن الغالبية المطلقة من بين الفارين من نظام حزب الجبهة الشعبية، هم من فئة الشباب الرافضين لاتخاذهم سخرة في معسكرات التدريب العسكري التي لا حد لنهاية الخدمة فيها. فلصالح من يتعمد السودان تخريب العلاقة الإستراتيجية الطبيعية بين إرتريا والسودان؟

هذا هو دأب الأنظمة الشمولية المستبدة، فهي دومًا تُمارس سياسة الاغتيالات والإسكاتُ والتهديد بالانتقام من الأقارب، وكشف ملفات سرية خاصة ربما كانت ملفقة أو تم استدراجهم إليها لمثل هذه الممارسات الدنيئة، ولهذا فإنها لا تتردد أبدًا أن يقايضهم بأمثالهم مع أمثالها، هذا في الوقت الذي وسائل إعلامها المُسيَّسَةِ لا تفتأ تردد على أسماع العامة، بأن هؤلاء خونة ومرتزقة يزعزعون أمن واستقرار الوطن من الخارج من أجل خدمة أعداء الوطن؟!

وبمثل هذه الفِعال تُشعل أنظمة الحكم الشمولي المستبدة حربًا شعواء بين المواطنين لفترة من الزمن بسبب صناعة التحقن وغياب الحقائق، بيد أن تلك الحرب الماكرة تنتهي بانكشاف غلائلها الزائفة، فتنقلب عليهم بعد أن يتكون لدى قيادات المجتمع واقع وعيٍ مشتركٍ خلاقٍ، وبهذا يتم صناعة واقع عملٍ منظَّمٍ بينهم في الداخل والخارج، وعندئذ فقط يبدأ يتهاوى جبروت بقائها في الحكم، وهكذا فإن إرتريا ليست بدعًا من هذه القاعدة بعد إذ صنع حزب الجبهة الشعبية واقع التأزم القاتل بين بينه وبين الشعب الإرتري، ولم يكن الشعب الإرتري بدعًا من سنن الشعوب الناقمة على حكامها المستبدين، فما حصل لنا قد حصل لغيرنا من قبلُ، وما قد حصل لغيرنا، هاهو قد حصل ويحصل لنا.

ليس أمام الشعب الإرتري إذًا إلى الحرب كما قلته أعلاه، فهذه هي الممارسات التي أدت وتؤدي دومًا إلى ثورات الشعوب ضد الأنظمة الشمولية المستبدة في الماضي والحاضر والمستقبل بسبب تراكمات المآسي المتزامنة مع تجديد الأجيال، بيد أنها حربٌ لا بد من أن تصاحبها أزمات خطيرة من داخل وخارج الوطن، وبلا أدنى شك، هذا ما يجب أن نتوقعه، فكيف نتصور طبيعة هذه الأزمات، وكيف نتصور الوقاية والتحصن مما قد يقع؟

جاء في مؤسسة أكاديمية بريطانيا اسمها: (الأكاديمية العربية البريطانية للتعليم العالي.

Arab British Academy for Higher Education)

تقول هذه المؤسسة ما يلي مع التصرف: تنقسم الأزمات إلى شقين من أنواع التفاعلات، هما:

الأول، التنبؤ و الاستعداد لما قد لا يحدث.

الثاني، التعامل الفعال مع ما قد حدث بالفعل.

هناك حقيقة مفادها أن أي منظومة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ربحية أو غير ربحية أو خدمية، يعتمد الهرم القيادي فيها على مجموعات فرق عمل متخصصة للتعامل مع الأزمات، أي أنها تدير الأزمات………………………الخ.

أي، إدارة تهديد أي خطر مفاجئ، وأحياناً نادر غير مفاجئ لأهداف وقيم ومعتقدات وممتلكات الأفراد أو المنظمات أو الدول والذي يُحد من عملية اتخاذ القرار ويؤدي إلى توقف سير الأحداث و اضطراب العادات وفقد التوازن العام للمؤسسة ويتطلب التدخل الفوري واستخدام أساليب إدارية مبتكرة وسريعة، أي أنها تعني اللحظة الحرجة أو نقطة التحول التي تؤثر على المصير الإداري للمنظمة وتهدد استمرارها وربما وجودها، ويتطلب التصدي لها مهارة عالية لإدارتها ويرجع ذلك لعنصر المفاجأة.

علم إدارة الأزمات:

هو علم إدارة التوازنات والتكيف مع المتغيرات المختلفة وبحث آثارها في كافة المجالات، ومما سبق نرى أن إدارة الأزمات تنطوي على عدة عمليات مترابطة ومتكاملة، أهمها تحديد المخاطر المحتملة و التنبؤ بها، ثم إعداد الخطط التي سوف تُستخدم في مواجهة هذه المخاطر ومجابهتها وتقليل الخسائر المحتملة بأقصى درجة ممكنة، ثم تقييم القرارات والحلول الواقعية.

انتهى بتصرف.

 

 

ما هي إذًا الأزمات التي نتوقعها، وكيف نتصور حجم الخطر فيها؟

أولا، الأزمات المتوقعة بين الإرتريين أنفسهم.

الأزمات التي أتصورها بين الإرتريين وحجم الخطر فيها، لعل بعضها على النحو التالي:

-1 معلوم أن التنظيمات الإرترية المعاصرة السياسية التي تعارض نظام حكم حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، تتكون من علمانيين ونصارى ومسلمين، أعني بعدها العقدي واضح المعالم بأسمائها وشعاراتها، ولعل هذا الواقع سوف يعقد التوافق بينها، فكيف نتصور علاج تأثير تباينها العقدي؟

-2 بناء على حقيقة التباين العقدي، يبدو أن غالب التنظيمات الإرترية المعاصرة السياسية التي تعارض نظام حكم حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، سوف لن توافق على إقرار تصحيح الواقع الإرتري من خلال إعمال آلة الحرب ضد حزب الجبهة الشعبية وإن كان اضطرارًا وليس اختيارًا، وفي هذا فإن للفريق أو الفرق الرافضة للحرب وجهة توليها، فكيف نتصور حل خلافاتها المتوقَعةِ؟

-3 بناء على حقيقة التباين العقدي، يبدو أن التنظيمات التي سوف توافق على تصحيح الواقع الإرتري من خلال إعمال آلة الحرب، ستتوقف أمام تساؤلات خطيرة، أهمها:

أ- بحث مشاركة حزب الجبهة الشعبية في الحكم مستقبلا، وهل نتيجة البحث سيتمخض عنها قبول مشاركته أم رفضه، ومَن هو الطرف الذي سيقبل بمشاركته، وبما ذا سيبرر مشاركته، ومَن هو الطرف الذي سيرفض مشاركته، وبما ذا سيبرر ذلك، وفي حالة سلامة النفوس والتوافق بينهما، ما هي شروط وضوابط القبول به بالتأسيس على ما نتج عن حكمه؟

ب- بحث محاكمة مجرمي حزب الجبهة الشعبية الذين اغترفوا الجرائم بحق فئات كافة المجتمع الإرتري، وكيف ستكون  طبيعة محاكمتهم، أي، هل ستكون عسكرية أم مدنية؟

ت- بحث مصير الثروة الوطنية الهائلة التي استولى عليها حزب الجبهة الشعبية خلال مدة حكمه إذا ما نجحت المعارضة على إسقاطه أو إجباره على التفاهم معها؟

ث- بحث طبيعة نظام الحكم الذي سيعـقُبُ الحرب ضد حزب الجبهة الشعبية الحاكم إذا ما نجحت قوى المعارضة على إجباره لأن يجنح للسلم فيتم توافقه مع قوى المعارضة الوطنية، أو يتم إقصاؤه بقوة السلاح، عندئذ هل سيُقرِّر الدستور الإرتري نظام حكم ألا مركزي بإقامة حكومات إقليمية ذات صلاحيات واسعة كما تمت مناقشته في مؤتمر أواسى الذي عقدته قوى المعارضة الوطنية عام 2011 في مدينة أواسى الإثيوبية، وماذا يعني ذلك للبعض؟

ج- إذا ما تم الاتفاق على نظام حكم ألا مركزي كالذي تمت مناقشته ثم إقراره بأغلبية ديمقراطية في مؤتمر المعارضة الوطنية آنف الذكر، فهل سيتكون البرلمان الوطني بتصعيدات من الحكومات الإقليمية، أم بتوافقات، وماذا يعني الموقفان لهؤلاء ولهؤلاء؟

ح- إذا ما تم الاتفاق على نظام حكم ألا مركزي، فما هي اللغة الرسمية لدولة إرتريا حديثة التجربة الديمقراطية، أي، هل سيتم التأكيد على أن لغتي التجرينيا والعربية هما اللغتان الرسميتان للدولة الإرترية، ثم من الناحية العملية التطبيقية كيف سيتم إعمالهما في المؤسسات الرسمية للدولة الإرترية؟

خ- إذا ما تم رفض نظام حكم ألا مركزي المتفق عليه بموجب مسودة دستور أواسى آنف الذكر أعلاه، فماذا يعني ذلك للبعض؟

د- هل من الممكن أن نتصور ثلاثة دساتير، أي، اثنان يمثلان الإثنية الثقافية اللاتي كانتا باعث الصراع الثقافي الخفي تارة والظهار أخرى بين من يريدون التجرينية والذين يريدون العربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى حينه، وثالث للحكومة اللامركزية، وهل مثل هذا حصل في تجارب المجتمعات المدنية المعاصرة ؟

ذ- هل سيتم الاتفاق على أن اللغتان، هما لغتا الدولة الرسميتان في حدود الأقاليم التي ترغب العمل بأي منهما من أجل التوافق الجميل، على أن تكون لغة الدولة الرسمية في شؤون السياسية وسائر التعامل مع العالم الخارجي، اللغة الإنجليزية مثلا؟

ر- بناءً على هذه المعاني بكل أبعادها قبولا أو رفضًا، كيف سيتم اكتساب عضوية الدولة الإرترية في المنظمات الإقليمية والعالمية ذات البعد الديني والثقافي الإسلامي والنصرانية، أعني:

من أي زاوية سوف يُنظر إلى عضوية دولة إرتريا قبولا أو رفضًا لها في منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدولة العربية مثلاً، وفي المؤسسات النصرانية ذات نفس البعد الديني والسياسي أيضًا؟

ز- هل من الممكن أن نتصور أن تكون إرتريا معزولة عن المؤسسات العالمية والإقليمية ذات البعد الديني الإسلامي والنصرانية بحجة التوافق؟

س- هل عدم الاتفاق على هذه التساؤلات أو جلها أن تكون سببًا دافعًا لأن يبلغ الخلاف بين الإثنية الثقافية الممثلة في لغة التجرينيا التي تمثل النصارى، واللغة العربية التي تمثل المسلمين جميعًا؟

ش- هل لو أن الأمور بلغت إلى هذا الحد من التأزم العظيم، سيتطور الخلاف إلى اقتتال قد يُفضي إلى المطالبة بتقسيم الدولة الإرترية بين الإثنيتين المؤسستين سلفًا على حقيقة إرث طبيعة الصراع الثقافي الذي تم تفعيل قواعده من طرف واحد قبل ما يزيد عن سبعة عقود، فكانت حرب التحرير المدمرة خلال العقود الثلاثة التي سبقت الاستقلال، ومعاناة اللاجئين الإرتريين منذ خمسة عقود حتى هذا التأريخ، وعموم مأساة الإرتريين خلال العقدين والنيف منذ الاستقلال وإلى حينه، نتيجة طبيعية من نتائج الصراع الثقافي بين الإثنيتين إذا ما فشلت الأطراف الإرترية المعنية في تسوية الخلافات المتوقعة، هذا في الوقت الذي ربما تقاعست فيه دول ومنظمات العالم لأسباب هي وحدها تملك تفسيرها؟

هذه بعض أهم تساؤلات المخاوف التي ربما سوف تُأزم المُناخ السياسي والاجتماعي بين الإرتريين إذا ما قررت ثم نفذت كل أو بعض قوى المعارضة الإرترية السياسية الوطنية، خيار الحرب ضد حزب الجبهة الشعبية من أجل معالجة الأزمة السياسية والأخلاقية التي صنع واقعها البئيس حزب الجبهة الشعبية.

إنني آمل أن لا يُنظر إلى هـذا الحوار الفكري بعين التشاؤم، بل بعين العقل من أجل الوصول إلى أفضل علاج لواقع بؤسنا الجمعي، فمن المعلوم بالضرورة أن الهرب من العمل بما يلزم لمعالجة أمراض وعلل مستعصية لا يحول دون وقوعها أو التخفيف من أضرارها، بل يزيدها ويجعلها أقوى وأكثر وأشمل مما كانت عليه حتى تأني إلى ما كان قد بقي.

المبحث الخامس.

ثم أزمة الأمة في بعض مثقفها من الأفراد والتنظيمات.

ليت شعري لو انتهت أزماتنا بين قوانا السياسية المتصارعة.

بينما نجدنا في أحوال لا نحسد عليها مما أصاب وحدتنا من تمزيق وشتات وتباعدٍ وتباغضٍ واضحٍ بلغت أزماته حد الاقتتال بيننا منذ عهد الثورة، وبذلك كنا السبب في إسقاط حقوقنا في وطننا، فأصبح زمام قيادنا قد تولاه الأعادي والخصوم، بينما مازلنا نسير في درب التيه الذي يشبه تيه بني إسرائيل في صحراء سيناء، إذ بعض أبنائنا الذين كنا نرجو منهم أن يضمدوا جراحتنا، إذا بهم يغمضوا خناجر مسمومة في أحشائنا حتى لفظت أقتابها وأقصابها، أي أنها طردت ما كانت قد ضمته وجمعته، فها نحن ذا نزداد تفرقًا بسوء فعالهم.

نعم، إن بعض نخبنا المثقفة والتي يقال عنها كذلك، بعضها من تيار الجماعات الإسلامية المعاصرة قد سقطوا فيما يشبه حمأة موروث قبليٍّ أو صراع طبقيٍّ تجاوزه الـزمان، إذ ها هم يطنطنون بتفيقهٍ حول كلمات التجرى والشماقلى، وهي كلمات ذات بعـدٍ قبليٍّ غـير محمود، بل بعضهم حدد أسماء قبائل أو زعامات بعينها من قبيل قولهم: (بيت أسقدى ونتاب) بصريح المقال في الفضائيات وبالتسجيلات الصوتية، وهي دعوة أبعد ما يكون عنها الجيل الصاعد، إما لجهلهم بها، أو لأنهم استقذروها فزهدوا عنها لما علموا أنها من جهة دين الإسلام مصنفة كونها مراتع نتنٌ نهى عنها رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حيث قال:-عليه الصلاة والسلم-: “ليس منّا من دعا إلى عصبية، أو من قاتل من أجل عصبية، أو من مات من أجل عصبية.”

وقال- صلى الله عليه وسلم- محذراً من العصبية الجاهلية: “دعوها فإنها منتنة.”

وقال- صلى الله عليه وسلم-: “من دعا إلى عصبية فكأنما عض على هن أبيه.”

وقال-صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- “مَنْ دَعَا بِدَعْـوَى جَاهِلِيَّةٍ، فَإِنَّهُ مِنْ جُـثَا جَهَنَّمَ”، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟! قَالَ: “نَعَمْ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، فَادْعُوا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سَمَّاكُمُ اللَّهُ بِهَا: الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ. ” أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وهذا توجيه نبويٌّ ما ينبغي أن يتجاوزه كل امرئ مسلم آمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ بن عبد الله النبي الهاشمي رسول الله وخاتم النبيين والمرسلين-صل الله عليه وسلم-، فمن كان جاهلا لهذه الأحكام، علينا تنبيهه، ومن كان على علم بها لكنه وضعها وراء ظهره واتبع هواه، فمن حقه علينا نُصْححهُ، وأحسب لا أحد من المسلمين سيستكبر على الحق.

إن الدعوة القبلية من خصائصها، أنها ترقق أمر الدين، وتجعل هم الوطن تبعًا لهمها، وأنها تُحي فتنًا نائمة، وجملة هذه المثالب مدمرة للأمة في حاضرها ومستقبلها، خاصة في مثل حالنا الذي يتم فيه إقصاؤنا عن وطننا، ليخلو المُناخُ لصالح الذين غدوا يصنعون مشاهد مستقبله أثناء انشغالنا بهم القبليات وما يسمى بـ: (لغة الأم)، هذا في الوقت الذي تم فيه استيعاب بعضنا في أعمال عبودية السخرة العسكرية في ساوى وغيرها، ومحاصرة بعضنا بوسائل تمكنهم من التحكم علينا، ومن هذه الوسائل:

*- إخضاعنا لسلطهم بآفة تجويعنا /ن أجل تحقيق مقولة، مَن لا يملك قوته لا يملك قراره.

*- إخضاعنا لسلطهم بخلق واقع الرعب من زبانيتهم الذين يخطفون أفرادنا غدرًا من بيوتهم ومن حيث هم ليلا ونهارًا، ثم إنهم ينكرون أنهم فعلوا ذلك.

*- إخضاعنا لسلطهم بكسرهم لشوكتنا بعد قصم ظهرنا باغتيالهم لبعض نشطائنا ومثقفينا.

*- إخضاعنا لسلطهم لتكميم أفواهنا بتغييب الكثير منا في سجونٍ لا نعلم عنهم منذ دخلوها.

*- إخضاعنا لسلطهم بإلهائهم لبعضنا بوسيلة الأغاني بلهجاتهم القبلية، وكذا الفلكلور الشعبي.

إن هذه الإجراءات لا يمكن قراءتها إلا في أبعاد معانِ تحقيق التطهير الثقافي والعرقي الذي فرغ القوم من التخطيط له سلفًا، فها هم اليوم يترجمون ما يرجونه على أرض الواقع، بينما يأتينا مثقف بدعوة فكر القبلية الذي لا يُصلح الأمة في أمر الدين والدنيا، فدعوة القبلية التي غدا يطنطن حولها الدكتور جلال، ما هي إلا دعوة صارفة عن أمهات مطالب الأمة في حاضرها ومستقبلها بوهم تجميع القبائل لتقوم بمواجهة مخطط التطهير الثقافي والعرقي، والحقيقة أنها دعوة في حكم الوفاض الذي يستقبل ما يسقط من الرحى عند الطحن، فكم هي الأفكار والطاقات التي صُرِفتْ في مناقشة هذه الدعوة المنكوسة التي أقحمنا الدكتور جلال.

إن الدكتور جلال بهذه الفعال، وكأني به يخدم إستراتيجيات الأعادي التي من أبرز معالمها العملية المعلومة للجميع، تجرنة إرتريا لصالح لوبي اليوتوب النصراني الإرتري، هذا في الوقت الذي شغلنا فيه الأعادي بما جاء ذكره آنفًا، فبعض هؤلاء المثقفين كأني بهم ينوبون عنه بما يقدموه لنا من السخافات الفكرية المشتتة لوحدتنا والفكر.

لست بهذا أتهمهم أحدًا بالعمالة كما كان بعضنا يقوله ضد البعضٍ الآخر بغرض الإسقاط السياسي والأخلاقي، بكيل تهم ضدهم، بعد أن يسْتخرج سيناريوهاتها الخصوم المبطلون، ويتلقفها الغوغاء والإمعات دون وعيٍ، بل إني أقرأ الأحداث بمنهاج الاستقراء التحليلي الذي أفتخر به منذ وضعته لنفسي بغية حسن قراءة الأحداث بقراءة صانعها في بعده الفكري وموروثه الثقافي والتأريخي.

إذا كانت تلك بعض مآسينا من جهة بعض كوادر الحركة الإسلامية المعاصرة، فثم بعض نخبنا المثقفة أو التي يقال عنها كذلك من كوادر التيار الوطني، قد تيهتنا بين فلسفتي مذهبي المادية الرأسمالية والاشتراكية في فهمها للظواهر وقراءتها للأحداث، ذلك بالتأسيس على إرثها الثقافي الذي شكل فكرها في عهد الثورة الإرترية، فهؤلاء لم يسبروا بعد أغوار طبيعة وحقيقة منطلقات الصراعات التي تدور في ساحاتنا الوطنية، ولهذا ظل تفسيرهم للواقع حائرًا مرتبكًا لما لم يسعهم تجاوز حد النظر إلى الظواهر الماثلة أمامهم، لكونهم فاقدين آلية الحكم على أعمال الناس بقراءتها ضمن أصل البعد الثقافي والتأريخي لصانعيها، وهو بعدٌ تترجمه عادة أقوال وأعمال صانعي الحدث أنفسهم مهما حاولوا التخفي والتنكر.

قال الله تبارك وتعالى:

{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} الأعراف. 198

نعم، ليس كل من يرى وينظر أنه يبصر، فالرؤية والنظر ليسا إلا وظائف التعرف على أشكال وأشباح ظاهر الكائنات والأحداث المجردة عن قراءتها في أصل صانعها، أما البصر والتبصر فيعني فهم الكائنات والأحداث بسبر أغوار قراءتها في أصل صانعها، والمراد من صناعتها، وما ينتج عنها في القريب والبعيد، من هذا نعلم يقينًا أن الذين يقرؤون ليسو قليلين في الساحة، بيد أن الذين يحسنون القراءة قليلين ليسو كثيرين في الساحة.

ليس إذًا ما تقوله الشعارات الجميلة التي ترفعها القوى السياسية والفكرية من خلال وسائل إعلامها الببغاوي، هو المعبر عن حقيقة واقع حياة الناس، وبهذا فالأستاذ فتحي عثمان بما جاء في مقاله الذي كان وراء هذه الدراسة البحثية، لم يُوفق لما لم يُحسن قراءة مقاصد الحرب التي تجريها الجبهة الشعبية ضد الشعب الإرتري.

ولم يُحسن أيضًا مخاطبتنا عندما اعتقد أن الحرب التي تجريها الجبهة الشعبية ضد الشعب الإرتري ليست حربًا دينية بحق المسلمين خاصة، بيـد أني خالـفتـه في ذلك فـقلتُ لـه، بلى، إنها حرب دينية بحق المسلمين خاصة، فلا شك إنني في تقديره قد أخطأتُ القراءة الصحيحة، وبالنظر لأنه لم يوفق ثالثة لما لم يقدم لنا القراءة الصحيحة، وقد حصر خطابه في مقاله هذا، بأن الحرب التي يمارسها حزب الجبهة الشعبية إنما تعني المسلمين خاصة، فقد تعرض من أجل تبرير وجهة نظره هذه، إلى مسائل الجهاد والعبادات في دين الإسلام، وهو قول ما كان ينبغي أن يتورط فيه لجهله به، ولا أدري لماذا تعمد هذا الحصر دون سائر فئات المجتمع الإرتري، ثم القول في الدين الإسلامي بغير علم؟

وإذا كانت تلك بعض مآسينا من جهة مثقفي كوادرنا الوطنية من أبناء الأمة، فليست بعض التنظيمات الوطنية العاملة بأحسن من هؤلاء وأولئك، فعند التأمل في كافة التنظيمات الوطنية، نجد أن أعظم ما يشغلها دومًا هو تثبيت وتقوية كافة كياناتها السياسية والعقدية مغلق العضوية، بصرف النظر عما تبديه كون عضويتها مفتوحة، ولهذا تجد هذه المؤسسات تهتم أكثر بسلامة وقوة خاصتها أكثر من انشغالها بالهموم المشتركة مع بقية المكون السياسي والفكري الوطني، لهذا تظل غامضة، وأنها لا يمكن بأي حال أن تتنازل من أجل الصالح العام، فهي لذلك تعمل دومًا من أجل إظهار كيانها السياسي ورموز قيادتها بمظهر الأقوى والأعلم.

ليس ذاك فحسب، بل تعمل حثيثة من أجل تحقيق كسب أكبر قدر من العضوية المؤيدة من المصوتين والمصفقين، وكأنها تستعد لخوض معركة انتخابات تشريعية، أو انتخابات رئاسية، أو انتخابات بلدية، كل ذلك من أجل الفوز بأكثر المقاعد، وأنها لذلك يلزمها توظيف أكبر قدرٍ من الأصوات لضمان نجاحها، علمًا بأن هذه الأعمال لا تمارس ولا تتحقق إلا في عهد دولة قد استقرت شؤونها السياسية والأمنية، ذلك بعد دراستها وإجازتها لدستورها الوطني الذي يمثل كاف فئات المجتمع، من خلال ممثليهم لتلبية مطالب الأمة كافة بحسب أولوياتها.

تلك هي القراءة التي رأيتُ ضرورتها بما أوحاه إلينا أستاذنا الفاضل فتحي عثمان.

وتلك هي بعض قراءات معاناتنا من نخبنا المثقفة أو التي يقال عنها كذلك، ومن بعض تنظيماتنا الوطنية.

وفي الأخير أقول:

إن قدر وعينا، وقدر قوتنا، وقدر عزمنا، وقدر حزمنا، وقدر جزمنا، لمعالجة أخطائنا والمعوقات التي تقف أمام تحقيق أهدافنا، إنما تكمن في تمكننا من النهوض من بعد التعثر، ولكن بقراءة مختلفة تمام الاختلاف لقراءاتنا السابقة، التي من أبرز معالمها، تحديد الأولويات ووسائلها وآلياتها وأدواتها.

 

قدمه : أبو أسامة المعلم، 

E.mail: asous.ert@gmail.com

 

والحمد لله رب العالمين

 

أحـداث الـتـأريـخ بـيـن الـحـيـدة عـنهـا وقـراءتها بمـقـاصـدهـا (4-5) »

abu usama

بقلم: أبو أسامة المعلم، E.mail: asous.ert@gmail.com القراءة السابعة، كون الإسلام طرفًا ثانيًا في الصراع. قال أستاذنا: “نعم الصراع في ارتريا ليس طائفيا بين…

يوليو 22 2015 / المزيد 

أحـداث الـتـأريـخ بـيـن الـحـيـدة عـنهـا وقـراءتها بمـقـاصـدهـا (3-5) »

abu usama

بقلم: أبو أسامة المعلم، E.mail: asous.ert@gmail.com القراءة الرابعة، حول ما قاله عن الحياة والحقوق الأساسية فيها. ثم معانٍ أخرى ذات أبعادٍ خطيرة ليس…

يونيو 28 2015 / المزيد 

أحـداث الـتـأريـخ بـيـن الـحـيـدة عـنهـا وقـراءتها بمـقـاصـدهـا (2-5)

abu usama

بقلم: أبو أسامة المعلم،
E.mail: asous.ert@gmail.com
القراءة الثانية، حول ما قاله الأستاذ عن خطأ توصيف الصراع في إرتريا.
نشر | يونيو 20 2015|

أحـداث الـتـأريـخ بـيـن الـحـيـدة عـنهـا وقـراءتها بمـقـاصـدهـا (1-5)

abu usama

بقلم: أبو أسامة المعلم،
E.mail: asous.ert@gmail.com
الجزء الاول
تـمـهـيـد
بين أيدينا دراسـة بـحـثـيـة لأهداف حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة بمنهاج الاستقراء التحليلي للوقائع والأحداث التي يتجلى جلها بالتطبيقات العملية كما ينزلها العاملون على أرض واقع الناس في كافة ميادين الحياة، وكما أن الاستقراء يعني دراسة وتحليل تتابع أزمان الوقائع والأحداث المتصلة ببعضها توافقًا أو تضادًا، كذلك يدرس ويحلل زمان […]

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=34628

نشرت بواسطة في أغسطس 3 2015 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

2 تعليقات لـ “أحـداث الـتـأريـخ بـيـن الـحـيـدة عـنهـا وقـراءتها بمـقـاصـدهـا (5-5)”

  1. وإني لأشكرك عظيم الشكر الأستاذ الفاضل إدريس عبى، لا لأنك أثنيت على الدراسة البحثية التي بين أيدينا، بل لأني ازددتُ بك ثقة تدفعني إلى الأمام لمزيد الكتابة لعلمي بأنك وأمثالك وافقوني فيما ذهبت إليه من فهم وقراءة بمنهاج الاستقراء التحليلي الذي نجدنا دومًا في حاجة إليه.
    أخي الأستاذ إدريس والإخوة والأخوات الكرام في كل مكان، أفيدكم بأني قررتُ إضافة هذه المادة في كتاب لي بعنوان: (إرتريا في قراءات سياسية)، وهي قراءات من هذا القبيل، بيد أني عاجز عن طباعة هذا الكتاب وكتابين آخرين، والسفر من أجل الحصول على فسح بعد أن اعتذرت وزارة الإعلام السعودية، فأتمنى أن تبذلوا جهدكم لدعمي من أجل نشر ما لدينا من مخطوطات قبل الممات، وإني لا أرى بأسًا إذا ما وُجد من يستفيد من عوائد مبيعات الكتب على هيئة ما.

  2. شكرا استاذ ابوأسامة المعلم
    لقد أبليت بلاء حسنا بارك الله في علمك وزادك علما ونفع بك.
    أتمنى من نخبنا ومثقفينا دائما الأبتعاد عن الشخصنة والتبسيط وردود الأفعال وأن يعتمدو مناهج البحث العلمي والأستفادة من أدوات التحليل والأستقراء بهدف تقديم ما يسهم رفع مستوى الوعي لدى قرائهم وتبصيرهم بما يدور وما دار في حاضرهم ومستقبلهم وماضيهم بغية التصدى لما يحاك لهم من وراء كل هذه الأحداث وتحت مختلف المسميات والشعارات التي ترفع إما جهلا وإما عنوة وقصدا.
    شكرا لقد (ناديت لو أسمعت حيا) إلا أن هناك إن شاء الله حيا يسمع من ينادي.

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010