الواقع الإرتري وأزمة العمل الإستراتيجي الحلقة الثانية
ي الحلقة الأولى حاولت وبإيجاز شديد الإشارة إلى تداعيات ومخلفات الخطاب السياسي الذي كان يسود حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كمدخل لتوضيح آثار ذلك الخطاب وسلبياته في فترة قيام الدولة الإرترية .
إرتريا الدولة، الإنجازات والإخفاقات
قبل الحديث في صلب هذه التجربة الفتية علينا بالعودة قليلا إلى الفترة التي سبقت رحيل الإحتلال الأجتبي وتحديدا ما بين عام ١٩٨٠ و ١٩٩١
حتى نتمكن وبشكل تسلسلي وموضوعي فهم أسباب الأزمة الراهنة بكل أبعادها وما تم وما كان من المفترض أن لا يكون .
إن جبهة التحرير الإرترية كانت تمثل بالمعايير العسكرية والسياسية الطرف النافذ الذي كانت بحوزته الكثير من عوامل القوة بدءا بالأسبقية في مسيرة الكفاح المسلح وما نتج عن ذلك من تحقيق مكاسب عالية في صفوف الجماهير التي أبدت تعاطفها وتضامنها ودعمها اللا محدود كما ووجدت الجبهة وفي وقت مبكر دعما إقليميا من دول الجوار لعوامل عديدة ومصالح متداخلة مدعومة بروابط الإنتماء الحضاري والثقافي والجيوسياسي. رغم أهمية الحديث عن الإشكاليات التي رافقت مسيرة الجبهة وأهمية ذلك في ربط الأحداث والتطورات اللاحقة سوف أتجاوز التطرق إليها ، أولا لأن المساحة لا تسع لذلك وثانيا لأن خفايا تلك التجربة وما كان يدور في أروقتها أصبح ملك للرأي العام الإرتري بعد التصدع الداخلي الذي تعرض إليه هذا التنظيم والذي إنتهت مسيرته النضالية على ذلك النحو الذي عهدناه في عام ١٩٨١
بعد ذلك الحدث المشؤوم وتلك الفاجعة التأريخية التي ظلت عالقة في ذاكرة الشعب الإرتري ، شهدت الساحة الإرترية محاولات عديدة لإعادة إنتاج الجبهة من جديد وذلك عبر القيام ببعض الإجراءات التي كانت في نظر المتصدرين لتلك المرحلة ربما كافية لعبور مرحلة النكسة والخروج بتنظيم جديد يلبي تطلعات الجماهير المتعطشة لإحياء الجبهة.
اليوم وبعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على تلك الحقبة والتي عاصرت وتابعت معظم أحداثها وتفاصيلها كعضو في إتحاد العام لطلبة رتريا ، فرع كسلا القريب من ساحة الأحداث ، أرى بأن تقييم تلك المرحلة بكل إخفاقاتها سيقودنا إلى فهم جذور وأسباب إختلال موازين القوة في هيكل الدولة وفي سلم النهضة لكافة مكونان المجتمع. إن كل حركة سياسية لا تحسن قراءة واقعها المحلي والإقليمي والدولي وتفوت على نفسها فرصة القيام بالإصلاحات الضرورية واللازمة في هياكلها التنفيذية والإدارية والتنظيمية تجعل نفسها عرضة للفشل ومن ثم الإنهيار. كان على هذه التنظيمات الوقوف على تجربتها وآدائها ونهجها في التنظيم وذلك عبر تبني خطاب سياسي يستهدف إستيعاب القوى الحية والديناميكية من فئة الشباب والطلاب من الجامعات والمعاهد العليا السودانية وتوظيف مقدراتهم الأكاديمية في إستحداث إستراتيجية العمل على كل المستويات والجبهات وإرسالهم إلى بعثات خارجية تأهيلية وفق الحاجة وبناءا على دراسات ميدانية ووفق شروط تضبط وتؤمن عودتهم إلى صفوف التنظيم وبالتالي خلق قيادات تتولى قيادة المشروع في المستقبل وخلق قاعدة فاعلة تستجيب لضرورات المرحلة حتى نتجنب ما حدث . في هذا العالم هنالك ثورات مرت بتجارب مماثلة ولكنها أعادت النظر وعلى وجه السرعة في فعالية وجدوى إستراتيجيتها وإن الصين قد تكون في ذلك نموزجا يقتدى به. إن ماو تسي تونغ ، هذا القائد العظيم لجأ إلى الريف الصيني في أوساط الفلاحين عندما تعثرت محاولات الثورة في وسط العمال وقد إستنسخت الصين التجربة الروسية دون الأخذ في الإعتبار خصوصية الصين التي كان فيها نسبة الفلاحين تشكل القوى الضاربة ونتيجة لهذا التوجه الجديد لـ ماو تسي تونغ إستطاعت الصين بالإعتماد على الفلاحين تحقيق أهدافها وهذا يقودنا إلى أهمية دراسة المجتمع والتعرف على جميع شرائحه وطبقاتة ومواطن ضعفها وقوتها. إن فشل المعارضة الإرترية في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي في إستحداث آلياتها وإستراتيجيتها وعجزها في قرآءة واقعها وواقع مجتمعها يعد في نظري أحد أهم أسباب الواقع الراهن بكل تعقيداته. إن الغرض من قرآة الواقع بنظرة نقدية ليس المراد منه توزيع التهم ومحاكمة من شاركوا في تلك المرحلة بقدر ما هو إستبيان للحقائق معتمدين في ذلك ربط الأحداث والتطورات بما آلت إليه الأمور.
في لحظة تأريخية من مسيرة شعبنا المناضل تمكنت الجبهة الشعبية من تحقيق النصر الذي طال إنتظاره وعمت الفرحة جميع أبناء الشعب الإرتري دون إستثناء مع شعور البعض بالمرارة لهذا الإنجاز العظيم الذي كان يأملون المشاركة في صناعته أو الإنفراد به ولكن شاءت الظروف ان يكون الأمر على غير النحو الذي كنا نراهن عليه . إن التوقعات والآمال لدى قطاع كبير من الشعب كانت تميل إلى إمكانية تجاوز جروح الماضي ومخلفاته والدخول في حوار وطني تصالحي يتم بمقتضاه تسوية الخلافات السياسية وتوفير مناخ مناسب لمرحلة ما بعد الثورة ولكن قيادة الجبهة الشعبية إرتأت عدم أهمية ذلك وإنطلقت في مشروع بناء دولة ارتريا وكل شي دون ذلك لم يكن ضمن أوليات المرحلة حسب وجهة نظرها. هذا الموقف وجد بطبيعة الحال رفض من جميع القوى السياسية التي كانت ترغب بالإعتراف بها وإشراكها في مرحلة بناء الدولة. إستمر خطاب التعبئة ضد الجبهة الشعبية بأنها حكومة صليبية ترعى حقوق المسيحيين دون سواهم وتعمل لفرض الهيمنة الثقافية وتقوم بسلب أراضي المسلمين . ما مدى صدقية ذلك وما هي المعايير التي إستندت عليها هذه الإتهامات؟؟؟
هذا السؤال بهذه الصيغة قد يجلب لي بعض المتاعب وقد يذهب البعض إلى توجيه أصابع الإتهام لي ظنا منهم بأني أقر شرعية كل التجاوزات التي حدثت بغض النظر عن طبيعتها ومكان وكيفية حدوثها.
لكن مع محاولة قدر من البحث والتعمق ستتضح الصورة بشكل جلي. إن الإخفاقات التي أرتكبت بحق المهمشين من السبعينات وحتى الإستقلال من قبل أبناء جلدتهم الذين غرقوا في صراعات جانبية من أجل السلطة وفتحوا باب الفتنة أمام النعرات القبلية والجهوية تاركين إدارة توجيه عجلة النهضة بمجتمع تطغوا فيه الأمية ، مجتمع لم يعد تأهيله للإستلام مفاتيح الدولة القادمة والمشاركة في بنائها بغض النظر عن التنظيم الذي على يديه سيكتب النصر ، مجتمع ذات تعبئة سياسية عدائية خاطئة الأمر لذي أدى بطبيعة الحال الى النفور من تجربة الدولة وعدم الإنخراط فيها سلبا أو إيجابا . الدولة والقائمين عليها لم يلزموا أنفسهم عناء المحاولة لإستمالة الجميع إذ أن طرفا هاما من مكونات هذا المجتمع إختار أن يغيب نفسه طواعية خشية من السجون والمعتقلات والوفاء بضريبة الإنتماء إلى هذا لوطن. قد يقول قائل بأن الشعبية أغلقت أمامنا كل السبل من المشاركة حتى يكون لها ما تريد وتخلق لنفسها المناخ اللازم لتنفيذ مشروعها السياسي . قد يكون هذا الإعتقاد مطابقا للحقيقة أو منافيا لها وذلك في ظل عدم توفر دراسات ميدانية إستقصائية هدفها توثيق الحقائق كما هي بعيد عن كل الحسابات السياسية والمؤثرات العاطفية. إن الشعب الإرتري برمته والمهمشين على وجه الخصوص نواجه إشكالية فهم العلاقة بين الحاكم المحكوم، لأننا ببسيط العبارة حديثي العهد بتجربة الدولة ويبدوا اننا نواجه إشكالية القبول بعملية الإمتثال لإرادة الدولة في إدارة شؤون الحياة خلافا لما كنا عليه السابق وهذا بطبيعة الحال سوف يستغرق بعض الوقت وربما أجيال حتى تنتظم العلاقة بين السلطة الشعب . وأنا أقول كل ذلك لا أنفي حجم التجاوزات التي وقعت كما وأقر بالهيمنة على جميع مفاصل الدولة ولكني لا أتفق في إستراتيجية المعالجة والمواجهة عبر التحريض الطائفي ورفع رايات الجهاد لما لها من آثار خطيرة على مسيرة هذه الدولة ومواطنيها وخصوصا من هم خارج المعادلة وذلك خشية على مصالحهم .
الحراك المكاني
هل ما يحدث في ارتريا هو تغيير ديمغرافي.؟
الحراك الإجتماعي في كل بلد يمر بمراحل زمنية مختلفة ترافق حركة المجتمع في التطور والانتاج والحداثة فر كل مناحي الحياة.
في الحراك الإجتماعي هنالك ما يسمى بالحراك المكاني ، أي بعض المواطنين ينتقلون وبشكل طوعي وقرار ذاتي من إقليم إلى إقليم آخر أو من مدينة إلى مدينة بحثا عن فرص أفضل تمكنهم من تحقيق أحلامهم وتطلعاتهم . كنت اود إستكمال هذه الحلقة وتقييم تجربة الدولة ولكن خشية من الإطالة اتوقف هنا.
واقوم بمحاولة الإجابة على هذا السؤال والوقوف على بعض الملفات الهامة والساخنة التقي بكم بعون الله في الحلقة الثالثة وربما الأخيرة . عزيزي القارئ قد تختلف معي في قرآءة المشهد وهذا حق مشروع ولكن ارجو إجتناب الأحكام القطعية وإجراء حوار حضاري يستند إلى المعلومة والتحليل المنهجي بغية الوصول إلى مجتمع ديمقراطي يؤمن بالتنوع في الفهم والرؤى. السياسة عندي ليس كتاب منزل من عند الله وكل إجتهاد بشري يخضع للتعديل والتقويم عند الضرورة وهذا هو من أهم مبادئ وركائز
العمل السياسي . تحياتي. عبدالرحمن بخيت
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=38393
أحدث النعليقات