فى حيّــــنـــا فــــدائى قــصّة فدائى من جبهة التحرير الإرترية
يحكيها: عبدالفتـــاح ود الخليفة
بورتن- المملكة المتحدة
الحلقة الخــامسة
تحرك الركب من حى عد دبرفى (إيتعبّر) متّجها إتجاه المدينة
لملم العسكر والأوباش أنفسهم وتركو لنا حارتنا بعد أن انتهكو حرمتها لساعات ، ولكن بقى أربعة من رجال البرقيس (البوليس باللباس المدني) أو سميهم المخبرون وهؤلاء كنّا نميّزهم بستائرهم المنتفخة لوجود مسدساتهم فى الخاصرة وتحت السّتائر، بقى هؤلاء للبحث عن أشياء أمرهم بها كبيرهم (أبو مسدّسين)…..
بدأ هؤلاء فى الأنتشـــار فى موقع الحدث وهى المنطقة الممتدة من منزل آل محى الدين وآل أقدوبــاى وقراج العم أبوبكر يــاقوت ومنزل آل يــاقوت ,آل با بندر والخليفة عثـــمان يزيد وآل محمود أحمد ,وآل عــافة بكت, وآل شوم محمد حــامد(عد كفلّيرى) إلى الحــائط المبنى بمــحازات طريق السكك الحديدية(سكة بابور)… هولاء بدأو يبحثون فى أرض المعركة بقــايا الرّصاص الّذى أطلق, وسألو أحدنــا وهو(ع.درار):
سمعو إسكى أنتوم قلعو قلى ترف طيايت آى رخبكمن نــاى زى ونبدى؟؟
(أنتم هــنــاك ألم تعثرو على بواقى طلق هذا المـارق؟) (الخوارجى)
ردّ (ع.حيلا): أنى آى رأخون( أنــا لم أجد شيئا)
إسخــا خى…. وإسّخــا ( أنت… وأنت أيضــا لم تجدو شيئا)
الكل ردّ بأنه لم يرى ولم يجد شيئا….إلا أنــا إنسحبت للخلف بهدوء دون أن أقول شيئا…وبخطوات هــادئة وصلت إلى كوخ الدجــاج… وأنــا أحــادث نفســى مــاذا ترانى فــاعلا,كلّ مــاسمعته من سجون وإعتقــالات مرّ أمــامى كالشريط السينمــائ,وجزمت بأن والدى السجن سوف يدخله بسوء تصرّفى وليس غيره,لحق بى( م. سمرا) بكلمــاته الرّقيقة دائمــا:
عبدوتـــاى قيس ومسلى عليّا بلّوم
(إذهب يــا عبدو وقل أنّ ظروف الطلق كنّ معى )
وهــمّ( م. سمرا) لإخراج ظروف الطّلق من المخبأ فى الكوخ
قلت لـ (م.سمرا): أوع إيتقربّن (لا تقرب)
يقول( م.سمرا) : ومنى ركوبن كلّنــا( كــارشيلى ) إيلنسئونــا!!!!
إن لم يعثرو على الطلق أخــاف يأخذونــا إلى السجن عن بكرة أبينــا!!!
قلت: أنتـا ديبنــا فرّه هليكــا إيتفرهنى هتوم نآيش أجنيت إى سجنونى !!!!
(أنت خــائف لا تخف أنّهم لا يحبسون الصّغــار )
عدنـــا للبرقيس(المخبرون) وهم لا زالو يبحثون!!!!
لاحظ (ع. حيلا) الإنزعــاج فى وجهينا!!!
فاقترب منّى هــامسا: عبدو تذكّر أيّــا لكفكــاهن.. أقيد حزيّن
(هــل تذكر أين رميت ظروف الطّلق,أسرع وأبحث عنهنّ)
يقول( ع. حيلا) : إلّوم يوم إبــا إرإيوم لهليكو..إمبليهن إيلأقبلونى يوم !!!
أظنّهم أنهم اليوم سوف لن يعودو من دون الطّلق!!!!
وحر كلّنــا كــارشيلى إندى نسأونــا كم دقدقونـــا هيّينى أورونــا إقل لأسئل إبّكاتو زمّتكـــا!!!!
(إذا أخذو الجميع للسجن وضربونــا هنــاك أكيد أحد الأطفــال سوف يبوح بالسر ويا ويلك حينها!!!
قلت: هتوم نآيش أجنيت إي سجنونى( هم لا أظنًهم يعتقلون الصغــار)
هكذ بدا لى لانه أعتقل أفرادا من حيّنــا لم يكن من بينهم أطفــال كلّهم كبــار العم سعيد شــاوش,العم إسمــاعيل محمود سليمــان( أبسلاب) العم محمد بخيت,وخــال أبنــاء الجيران العم الأستــاذ أحمد بلال الرّســـام المشهور,والّذى سجن بسبب رسمة , ورسمة فقط, للملك المفدى ولكن فى محتواهــا رســالة لمن يعى صوّر فيها الملك قــاتل مجرم وعلّقت ليلا فى قلب المدينة( أو فى فنــاء المدرسة) أخذ رجــال المبــاحث الرّسمة وبدأو التّحرّى مع كلّ من له شهرة ومقدرة فى الرّسم ومن ضمنهم الأستـاذ الوطنى المنــاضل, ولكنه أ نكر أن يكون له أى صلة بالرّسمة ولكنّهم إهتدو لطريقة وهى سؤال معلّم أمريكى يدرّس فى كرن من جمــاعة (كتائب السلام) كــان يميل ويحبّ الرّسم ومعجب بالأستاذ….فإذا بالأمريكى يقول أنّ الرّسمة فيهــا ملامح أحمد ….. وليس لنا علم بمجريــات التحقيق..ولكن لم نرى الأستــاذ الرّســـــام البارع أحمد بلال فى زمن طفولتنا أبدا فى حيّنا أو فى منزله عند آل الشيخ (سيدنــا بلال إدريس)…والّذى كنــا نزوره بشكلِ دائم لعلاقة الأسرتين,ولصلة الخلافة الختميّة, ولكن قصته ملأت الحىّ وتكرّر فى كلّ جلسة, ومنــاسبة, ولكنّا فوجئنــا به فى عــام1973 عــائدا من سجن (ألم بقا) فى إثيوبيا سيئ الذكر بعد قضــاء عشرِ من السنون ومعه زوجة وطفلتين أنجبهنّ هــناك, وذهبن حينهــا لحوش ( آل بلال ) لمباركة الخروج من السّجن الّذى فرح به كلّ محبيه وأصدقــاءه وملأو حوش سيدنــا بلال… الكلّ يحيىّ ويسلّم… بدأ بعدهــا الأستــاذ الصّامد فى بيع لوحــاته ليعيش منهــا لأنّه منع من مزاولة أى عمل حكومى,وتسارعت الأحداث,وعندمــا بدأ الكيــان يهتزّ من قــاعدته فى( أديس أببا),لجأ إلى السودان وعمل لفترة غير قصيرة مع قوات التحرير الشعبيّة منــاضلا فى صفوفهــا حتّى إنتقل إلى جوار ربّه رحمه الله رحمة الأبرار.
ونحن نتبــادل أطراف الحديث خرج من منزله (قرى مسقل أخو ِرشــان) جــارنــا
وإنضمّ للشلّة وهو يقول: ميتو لبوليس لطلق لحزو هلّو موش
(الشرطة تبحث عن ظروف الطلق أليس كذالك؟ وهــو ينظر إلىّ
فقلت بعصبية واضحة: إنت مى أتيكــا تم بل( أنت لا شأن لك بالأمر أصمت)
وهبط قرى مسقل(أخو رٍشــان) إلى المنخفض مكـــان مسرح البحث عن الطلق ,وبعدهــا بلحظــات هــبطنــا أنـا و(م,سمرا) لنكون فى الصورة عن تطوّرات الأحداث,فإذا به يصرخ أحد المخبرون (أبوى أسمروم) :
(أنتم قلعو وى إسخوم العيلكمن…وى زى لعلن تفلطلنــا بقولطوف؟؟
(أيهــا الأطفــال أنتم أخذتم ظروف الطّلق.. أو تعرفولنــا بسرعة من الّذى أخذهنّ )؟؟؟
إرتعد جسمى الممتلئ حينهــا(,وقرمسقل أخ رٍشــان ينظر إلىّ وكأنّه يتّهمنى…
إلتزم كلّ الأطفــال الصّمت أكأنّهم منهمكون بالبحث عن هذه الظروف الّتى مصيرهــا أصبح مربوطــا بمصيرنــا,وربّمــا بمصير آبــاءنــا,الخوف دبّ على قلبى وجسدى….ربمــا يعتقد البعض أن هذه القصة ضربـا من الخيــال ولكن هذا هو الواقع الّذى عــايشنـاه فى أيّـام الحــادثة أو العملية الفدائية.والقصد هو فقط إعطـاء صورة عن صيرورة أيام العمليــات الفدائية,وردود الأفعال المعــاشة,من الشرطة, والكمندوس,والطورسراويت,وعـــامة الشعب الإرترى فى المدن, وهذه صورة منهــا فى مدينة كرن.
,فى تلكم اللحظــات ونحن نهيم فى الأرض بحثا عن ظروف الطلق المفقودة,يصرخ المستقيشن(المخبر) ( أبوى أسمروم):
أنتم قلعو ولا حنتى آى رخبكمن( يــا أطفــال ألم تجدو شيئا)
(ع.حيلا) كبيرنــا وكــان أشجعنــا يرد: ولا حنتى آى رخبنان كســاب حجى..(لم نجد شيئ حتى الآن)
ورجع (ع.حيلا) وهمس فى أذنى: يــا خى قيس همطعن وهبو تن وخــارجنــّا!!!
(روح يــا عبدو أحضر الطلق من المخبأ وأخرجنــا من الورطة)
يقول( ع.حيلا): عبدو( م. سمرا) أسألينى حقو إيتمطعن… نوشى إندى قيسكو إقل همطعن تو!!!
(عرفت من (م. سمرا) مكــان مخبئ ظروف الطلق أحضرهــا ولا أذهب أنـا وأحضرهــا!!
هنــا فترت أعصابى وإنتهت مقـــاومتى…قلت له:
يلا طيب مسليى (يلا أذهب معى)
وخطــا معى (ع. حيلا) خطوات حتى وصلنــا طريق السكة الحديدية,قــال لى حينهــا :
يلا أنــا إنسر عقبكـــا هليكو قيس همطعن(يلا أذهب وأحضرهن, أنــا سوف أنتظرك هــنا)
إنطلقت كالصّــاروخ حتّى وصلت منزلنــا, وقفت أمــام كوخ الدّجــاج وتسمّرت دقيقتين وأنــا ألتفت يمينا وشمــالا حتى لا يرانى أحد…..وتوكلت على الله وسحبت ظروف الطّلق من الكوخ ووضعتهــنّ فى جيبى وتممتَ فىالمكــان مسرح العملية…نظرت للجميع الكلّ منهمك فى البحث…وخوفى كلّه أن لا يرانى(قرمسقل أخ رٍشــان) لا أدرى لمــاذا ولكن ذاك الخوف مفسر كــان( قرى مسقل) غريب فى الحى هو وعــائلته ثم ربّمـا يكون له ولعائلته قريب أو صديق شرطة, أو كمندوس,أو (باندا جرقى)… ربّمـا… وهذا الإفتراض لم يكن غريبا فى الواقع المعــاش تلك الأيّام…..هذا هو الإنطباع الّذى كــان ســائدا عند عــامة النّــاس,,عن كلّ غريب وخاصّة إن كــان من أبنــاء المرتفعــات.
إنحنيت على الأرض وكأنّى أبحث معهم….. ثمّ ثوانى …..وصرخت ….
أبوى عبى إنهى لكم رخيبيّن… أبزى الوا… إنّهلكم!!!!!
عمى وجدتهــنّ… أنظر… هنــا
يقول أحدهم: حقو ديو؟؟
هل مــا يقوله صحيح؟؟
نفوع زى ودى هبرم نفوع نــاى بحقى…. يقول أبوى أسمروم
شــاطر يــا إبنى أنت بحق!!!!!!
وأخذ منّى ظروف الطلق ,وقبض على يدى اليمنى بيده اليسرى…وأدخل ظروف الطّلق الخمسة فى جيبه….
وهنــا بدأ الشّك يســاورنى هل سوف يحقق معى عن كيف وجدتهنّ وأين وأربع من المخبرين عجزو عن ذالك!!!!!
ولكنه سألنى:ودى من إخــا( إبن من أنت)
قلت:ودى خليفة وبعد إستفسارات عن والدى وعمله
قــال :فليطيو ألّخو, فليطيو (عرفته,عرفته)
نفوع!! نفوع نــاى بحقى ( أنت شــاطر)
كنت أتوقع أن يــسألنى كيف وجدتهنّ ونحن نبحث ســاعــات ولم نجد أثرا!!!!
ولكنّه أخرج من أصغر جيب من جيوب منطــاله (تـاكسين) خمسا وثلاثون سنتما إثيوبيا!!!!وهو يقول نفوع سلى زخنكــا إزيئن خآ مقشيشكـا إين!!!
(لأنّك شـــاطرهذه لك مكـــافأة)
إستلمت تلك الخمس والثلاثون سنتمــا إثيوبيا و(البرقيس) (أبوى أسمروم) ورفــاقه يتفحّصون ظروف الطّلق الخمسة..وهم يهبطون من حيّنــا إلى المدينة وربّمــا إلى محطّة الشرطة قسم التحقيقــات المشهور (بالكــارشيلى)
وهــنا ظهر (ع. حيلا) يقول لى : مى إقل تودى إبّن تو أزى؟؟
( مــاذا تريد أن تفعل بالمكــافأة)
قلت بكلّ براءة:(حلوات إيلاك ومررو إذابى إقل كلنــا من عمى صالح ومررو من حجّيا مررو)
قلت له إشترى لكم ولى حلوى (إيلاك)( نوعا من الحلوى كـان مشهورا حينها) من عمّى صالح وأيضــا الفول السودانى المغلى من حجّيا مررو….. وكــان الأطفــال يقتنوه من الحــاجّة( حجّية مررو) أمّ التيجــانى.. والّتى كــانت تجلس أمــام روشــان ريبــا الجهة الّتى تقــابل قهوة عمّى عبدالعليم, فى الرّكن الأقرب إلى دكّــان آل بــا خشب.
لا شيئ يخفى على أهل الحىّ إنتشر الخبر: عبدو سلّم ظروف الطّلق وأعطته الشرطة (قرّاب وعسر سنتم)=35 سنتم إثيوبى
تقول الوالدة:( ربّى من شر نفسك لسلمكــا عبدو ولى)…..
(ربّنــا يسلّمك من شر نفسك)…. تقول ذالك ولا تزيد عليه شيئا…
الحبوبة إنتظرتنى وهى واقفة فى منتصف الحوش وهى تقول:
لكفكوّن تبل إيعلكــا من أيــا أمطأكـــاهن أزى؟؟؟
(ألم تقل أنّك القيت بهنّ بعيدا.. من أين أتيت بهنّ الآن.)
وسولدى هى تكبتكــا منّوم إقل مى….. حتّى حتيكــا تـــا قيس مسلوم شقى!!!!
وأخذت أيضا مكــافأة….هيــا إذن تمّ النّــاقصة وإشتغل معهم!!!!
الحبوبة دائما تستعمل (سولدى نؤوش=للخمسة سنتم أو (سولدى عبى=10 سنتم إثيوبى) كلّهــا أسمـاءمحليّة قديمة للوحدات النّقدية الإيطالية والإنجليزية.
إقل مى إتّا قطّوم إيلكفكاهو إقلوم لسولدى عبى لإقلو هبوْكــا!! إى إنسّأ إى تبل!!
تقول الحبوبة الحربية: لماذا لم تلقى (السولدى عبى) الّذى أعطوك فى وجههم, لمــاذا لم تقل إنّنى لا أقبل تلك النّقود!!!
نحن أطفــال لم نفهم الأمور كمــا ينبغى…هى أحــاسيس فقط لم تتبلور بعد.. فى ذاك الزمن ولكن الحبوبة حسّستنى بالذنب…..
وهى نفس الجدّة التى وبّختنى… يوم سلّمنا أنــا وصديق طفولتى(م.سمرا) على حــاكم إرتريــا (أسرات كــاسا) وقبضنــا منه إثنين بر إثيوبى, وكــان الأمير (أسرات) صهر الملك هيلى سلاسى,جــاء مع الملك عندمــا زارو كرن (1967-1968) وعــاد الملك فى نفس اليوم إلى أسمرا,وبقى الأمير (أسرات) وجــاء اليوم الثّــانى لزيــارة العــائلة الميرغنية,وإستقبله السيد عبدالله إبن السيد بكرى الميرغنى
ودعى السيد عبدالله خلفــائه للتشــاور أو ربّمــا لصرف الأوامر فى مســألة الإستقبال , وإختلف الخلفــاء فى الموضوع ,وسمعت جدلا حــادّا بين الخليفة الجد الكبير, والخليفة الأصغر والدى, والمرأة الحديدية الحبوبة, حول مسألة إستقبــال صهر الملك تلك… إلتقطت الخبرولم أتبيّن من مع الزّيارة ومن ضد من خلفــاء الطّريقة الختمية فى كرن,ولكن فى الحديث كــان يتردد إسم الخليفة العم حسب الله حمّدين بكثرة…..,والخليفة محمود حشفير,والخليفة عثمــان يزيد,والخليفة الشّيخ بلال إدريس.
و ذهبت بالخبر إلى صديق طفولتى…(م. سمرا) وإتّفقنـــا للذهــاب إلى حوش السيّد بكرى المرغنى لمشــاهدة تلك الشخصيّة الأميريّة… وعرفنــا موعد الزّيــارة,وإصطحبنــا معنــا الأعلام الإثيوبية الّتى أعطيت لنــا بالأمس لإستقبــال ملك الملوك( هيلى سلاسى)….وإخترنــا ركنا إستراتيجيا وعندمــا خرج الأمير من حوش السّادة المراغنة لوّحنــا بالأعلام الإثيوبية,فمــا كــان من الأمير إلا أن أوقف الّركب والحرس لا ليحيّنـــا بل ليعطينــا إثنين برّا إثيوبيا واحدا لى والآخر لصديقى (م. سمرا)…..بطريقة عنجهيّة لا سلام ولا كلام فقط مدّ يده بالنقود فهرع أحد الأوغــاد ليطردنــا ولكن الأمير فتح زجاج باب السيّارة,ومدّ يده وفيهــا النّقود وأشار بيده علينا فمــا كــان من الحرس إلا أن يعطى كلّ منّا برّا إثيوبيا مرغمــا ويقول لنا ( هيّا حجّى تأليو كــابزى) يلا أبتعدو من هنــا الآن لو كــان الأمر بيده لضربنا وأخذ النّقود كمــا يفعل أقرانه كلّ يوم وكلّ ســاعة فى المدينة الفــاضلة(كرن) ولكنّه فى تلك الّحظة كــان فى حضرة الأمير الجائر(أسرات) .
وذهب (أبوى أسمروم) بالطّلق الّتى كنت أتبرّك بهنّ ليومين متكــاملين,وبقيت أنــا متردّدا هــل مــا فعلته فيه شيئ من المخاطرة أم أنّه أمر عــادى وعـــابر ولا تتبعه مساءلات وإستفســـارات لى ولأسرتى!!! حتىّ بعد زمن طويل كلّمــا إقتربت من سّن الوعى والفهم, ضميرى كــان يؤنّبنى لأنّى سلّمتُ أمــانة وإستلمت مكــافأة من عدو!!!!,يذكّرنى بهــا أقرانى على مرّ السنين,ويذكّرنى بهــا (أبوى أسمروم ) كنت أقــابله أحيــانا وأنــا ذاهب إلى المدرسة بعد أن إنتقلت مدرسة كرن الإبتدائية للبنين إلى موقعهــا الجديد بالقرب من (كـــامبو بوليس)… والّذى كــان يسكن فيه (أبوى أسمروم)….كنت أحسّ بنوع من الخوف عندمــا أقــابل تلك الشخصية, بالرّغم من أنّ الرّجل والحقّ يقــال لم يكن صــارمــا ولا عبوسا,,وأذكر حين شــاهدته آخر مرّة فى كرن عــام 1978 بحــالة يرثى لهــا الفقر واضح قى محياه,وملابسه رثّة شعر رأسه الإنسيــابى إمتلأ شيبا,وإستبدل نظّارته بنظّارة أقوى,ربّمــا مع تقدم العمر,ضعف نظره,بقى فى كرن بالرّغم من أنّ كثيرين من أقرانه,كــانو يذهبون إلى أسمرا سرّا لإستلام معــاشــاتهم الشهرية,ومنهم من بقى فى أسمرا حتّى إنسحــاب الجبهة الشعبية من كرن إلى السّـاحل ,ومنهم من إستلم معــاشه وعــاد إلى كرن وإعتقل من قبل أمن الجبهة الشعبية,ومنهم من لم يرى النّور بعدهــا,أمّــا الرجل كــان بــاقيا فى المدينة حتّى مغــادرتى لهــا فى أغسطس 1978
هذه القصّة وكثير غيرهــا ملأ حياتنا فى كرن و شكّلت حسّنــا الوطنى نحكيها لبعضنــا البعض لزمن طويل مثل قصص الأفلام وتبعتههــا أحداث أخرى هزّت العرش فى أديس أببا مثل:
,شــاب فى مقتبل العمر 17 عــاما القى بقنبلة على (مكتب التحقيقات) نهــارا جهــارا وقطع وسط المدينة جريا إلى جنوبها….وقبض عليه فى (عد تكــارير) وسجن وخرج من السجن عــام 1975 .
× فى حى عد حباب وشت المدعوة( بركــا قندران) بثلاثة من الفدائيين وقبض عليهم فى ذاك الحىّ حىّ الشموخ, والتراث الإرترى بكلّ أطيــافه قبض عليهم فى منزل آل دافر(منزل الشهيدين أحمد, وحسين دافر) وهم فى حــالة إنتظــار أوامر لتنفيذ عمليّة, ألقى بهم فى غيــاهب السّجون وفى عــــام الإنعتـــاق الأكبر حرّرتهم جبهة التّحرير الأرترية عرفنــا أحدهم لقرابة تربطه بأبنــاء الجيران وهو الفدائى… آدم شكّر( يعيش فى ليبيا الآن) وبعد اللّجوء إلى السودان عرفنــا الثانى وهو الفدائى أحمد محمّد عوض( يعيش فى أمريكــا الآن) وبعد التحرير فى أسمرا تعرّفت على الثالث وهو الفدائى الشهيد المشهور حــامد طمبــار كــافح فى إرتريا من أجل ترابه وشعبه, ثمّ بعد الإنعتــاق بدأ الدراسة فى جمهورية سوريا الشقيقة الحبيبة, وأكمل الجــامعة فى كلّية التربية, وعــاد إلى وطنه يعد التحرير وعمل فى جهـــاز التعليم ثمّ مديرا لمدرسة فى كرن وتوفّاه الله قبل زمن قليل رحمه الله رحمة الأبرار.
×فى الصباح الباكر ونحن متّجهون إلى المدرسة شابّين يحملان طبقين (قفف) من الخضار للبيع,يقفـان أمـام قهوة العم عمر أمــان,ليسألا رجلا كــان يجلس فى القهوة , إن كــان له الرّغبة فى الشّّراء,ثوانى أخرج أحدهم مدفعا رشّـاشا وحلبه فى رأس الرّجل, وإنسحب الشّابان إلى إتجاه( سوق برّا) قــاصدين المخرج الشمــالى للمدينة,ولكن فقط للتمويه,ثم عرجا إلى الجنوب ليخفتفيا فى القرى, قيل لنا أستشهدا فى معركة غير متكــافئة مع الكمندوس فى (عيلا برعد) ومن أوقع بهم وأوشى كــان (حدقو عيلا برعد ) ونــال عقــابه فى كرن عــام1975 أمــا الرجل المقتول قيل أنّه كان عميلا وعسكريّا مجرّبا أتعب أهلنــا بالرّيف وخــاصّة حلحل.
×ونحن جلوس للعشاء مع الوالد بعد الصلاة العشــاء فى مسجد الحىّ,إذا برجل ينــادى على جــارى وعمّى (العم عمر) ويسأل العم عمر قبل فتح الباب من أنت؟؟
يقول المنــادى: أنــاتو نبراى….. لم يسمع الحوار كــاملا لأنّه صوت المدفع والمسدســات سرقت منّا الإنتباه, لم يمت أحد…جاء العسكر والكمندوس,فتّشنــا, وهددْنــا,وسجّل الحــادث ضدّ مجهول, ,ومن ذاك اليوم أصبحنا أنــا وأخى الأصغر نفكّر مرّتين قبل الذّهــاب للمسجد لصلاة العشــاء.
× عـــام بعد هذا الحــادث و فى الصّباح الباكر كنَا نذهب للقرآن فى دار الشيخ (محمد صــالح الحاج حــامد) طيّب الله ثراه والد الدكتور جلال الدين محمد صــالح, وكــان شيخنـــا حينهـــا الشيخ محمد آدم ممّن درسو فى السودان(من عنسبــا- قزقزا) فقط لنكتب حصّتنــا من القرآن, فى هذا الصّبــاح الباكر ولأول مرّة يهبط جــارى وعمّى (العم عمر) لجلب السكر لتناول قهوة الصّباع من حــانوت العم (محمد جبلى),,,وقدره إنتظره على بعد خظوات من منزله ومنزلنا أمّا منفّذى العمليّة,شاهدتهما بالعين المجرّدة وهما يعتليان هضبة حيّنا على حــافة جبل(إيتعبّر) بلا خوف ولا وجل, شابّان ملثّمان, يحملان كلّ العزّة والكرامة,والقنـاعة بمــا فعلا, كلّ منهم كــان يحمل مدفعا وقدرا محتوما , ,أستشهدا بعد أن عبرا حيّنــا بنصف ســاعة تقريبا على مشــارف( شفشفيت),زرفت الدمع مرارا عندمـا سمعت( بنت عمّى عمر تقول للشّــابين:(أبوى إنتم قتلكومو مى وديكم؟؟ هل أنتم الّذين قتلتم أبى لماذا مــاذا فعل لكم؟؟) ذاك اليوم بكى الكلْ فى العائلتين, والحى عــامّة وجرى الدمع جرّارا…..ثمّ بكيت ثــانية عندمــا شــاهدت الفدائيين الإثنين يجرّهمــا الكمندوس ويسحلونهما سحلا,,, والقو بهمــا أمــام القــاصى والدانى بالقرب من جسد عمّى عمر المسجّى على الأرض فى حوش العم (عــافة بكت) …هذه الحــادثة هزّت مشــاعر الصغار والكبار فى الحىّ,وإختلطت عندنــا المفــاهيم,والأحـاسيس,حتّى أيقنت حينها أنّ بين الخير والشرّ خيط رفيع للغاية,شباب الجبهة كــانو مثالا للتضحية والفداء, وكلّ ذالك فى سبيل الوطن .والأعمــام الأحباب كــانو مثــالا للمحنّة والألفة,ليس فقط لأنّنــا ننتظرهم فى المســاء لنأخذ حصّتنــا من ال (فول مررو) أو( حقّ العيد) فى أيام الأعيــاد المباركة,بل لأنهم كــانو أيضا كبار الحىّ وحمـاته,وفى هذه الحــادثة تصادمت الفكرتين,وتصادم النموزجين,فتصادمت عندنـــا الأفكــار والأحــاسيس,وتصادم العقل بالمشــاعر,كتصادم وتلاطم الأمواج…… إنّهــا قصّة الثورة أتركهــا هنــا للتـــأريخ.
×قصّة شهداء حلحل وأجســادهم الطّـــاهرة مسجيّة على الأرض فى ال (جيرا فيّورى) والأوبــاش خلف الأجسا د الطّاهرة,يحرسون وكأنهم يخافون منهم وهم أموات.
ولســان حــالهم يقول كمــا قــال أحد الأوغــاد: تعــالو أنظرو إخوانكم الّذين تطــاولو على ملك الملوك,كيف ذبحنــاهم,وأنتقمنــا منهم(قــوانطــا قيرنــايوم) ( شرائح من لحم) ولكن عندمــا وصلت لمرحلة الفهم والإستيعاب,قلت فى نفسى كم أنت عظيم يــا شعب كرن,لم أجد شــاباّ غيورا ولا كبيرا عجوزا يقف لمشــاهدة أجســاد الشهداء المسجية وكـــأنهم يحتجّون على تلك المعــاملة,أمّــا أنــا ومن فى سنّى لروى شهوة حبّ الإستطلاع فقط, شــاهدنــا المنظر!! لم أرى فى الأفراد القليلة الّتى كــانت تشــاهد الموقف إلاّ الحثالة والنفايات البشرية والمخبولون وسكان قاع المدينة فى كرن (ودى أشبر,حمشو, أبرهــاإنقوو,سولدى عباى,أديس أباباىّ عاشا كشكش)!!
جـاءت بالخبر إلى حيّنـا العتيق أخت من الحىّ تسكن الآن فى المملكة المتّحدة وفى لندن بالتحديد,شــاهدت المنــاضلين الشهداء يلقى بهم من الشّاحنــات على الأرض كالبطيخ تمــاما, أبى أطفــال الحىّ الذهـاب إلى( جيرا فيورى) للمشــاهدة,ولكنّى عزمت بالرّغم من إعتراض العائلة,قطعت المســافة من (إيتعبر) إلى الجيرا فيّورى فى دقائق معدودة,وقفت شــاهدا على حدث لا تصدقه العين, شباب من أحسن خلق الله فى إرتريا الحبيبة,أرواحهم فــارقت أجســادهم,ولكن روح الحدث مـاثلة أمــام الكلْ, عددتهم واحدا واحد حتّى رقم 49 لا أنسى هذا الرّقم أبدا أنــا أحسب … والدمع يجرى مدرارا..أحدهم فى خــاصرته كفوف فــارغة من الرّصاص, والآخر يربط كوب شــاى فــارغ على يمينه,وآخر مجروح فى الرّاس,وآخر مجروح فى الكتف,والضمّاضــات لا زالت جديدة, ومعنى ذالك,أنّهمــا جرحا أولا ثمّ دخلا المعركة ثــانية,( يــا له من ثبات وقوة, وشجاعة نـادرة) وآخر مربوطه على جَنَبه زمزمية مــاء (يحمل الموت والحياة معا)وأحدهم نصف حذاءه خرج من قدمه تمنيت لو أستطيع إعــادته إلى قدمه الطّاهرة,ليراه من يراه كــاملا كالقمر.وليقابل ربّه كــاملا,ولكن الخوف من الأوغــاد الأوباش….عندمــا أجهشت بالبكــاء طردنى احد الأوغــاد (الحرس)قــائلا: كيد رحق كــابزى بوتا( أذهب أبعد من هنــا) ليس للزجر فقط ولكن دمعى الذى أبى إلا أن يجرى مدرارا….حرّك فيه شيئ مـا …. طردنى الوغد…وإنسحبت إلى الخلف قليلا …ولكنّى لم أستطع صرف وجهى وعينى عن هؤلاء أحبــاب الله الشهداء,وعندمــا عــاد إلىّ وعىّ قليلا وجدت جسدى كلّه قد إبتلّ لأنه فى ذالكم اليوم هطلت الأمطــار بغزارة لأنّ الله سبحــانه وتعــالى, أرادغسلهم وتنظّيفهم من رجس الأوغـــاد,وعدت لدارى فى الجبل وأنــا شارد الذهن,أفكّر فى ما معنى أن تحيا ومــا معنى أن تموت وفى سبيل مــاذا؟؟ وحفر هذا اليوم فى ذاكرتى, وسرق طفولتى…إنه يوم شهداء حلحل فى كرن….ولكن والدى بنباهته إكتشف أنّنى كنت هنــاك.. شكّ لوجود رائحة الأدوية الّتى يرشّ بهــا الأوغــاد الشهداء عــادة لئلا تعفّن تلك الأجساد النّقية الطاهرة….. ومــاء المطر الّذى كــان يغسلهم كــان يمرّ تحت رجلىّ إلى البلاعة فــأخذت الرّائحة معى للدار فى حذائى وحتّى فى جزء من ملابسى لم أنتبه للأمر فى حينه لهول الموقف….
عزيزى القارئ لتحــاشى الملل لطول القصّة أكتفى بهذا القدر
وحتّى نلتقى فى الحلقة القادمة أتركك فى رعــاية الله وحفظه
للتواصل
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=3883
أحدث النعليقات