أُمة في مواجهة العواصف
الموت الرخيص يأتي دائماً حين يتصدر المشهد العابثين من الأمم، والمستقبل المظلم يكون سيد الموقف حين يتوارى العقلاء والقادرين على التحليل السليم وقيادة التصرف الواعي خلف أقنعة المثالية والإستخفاف بالعامة، ومن ثم التخندق بعيداً عن واقع أهلهم في قبور الصمت.
أقول هذا ردّا على كمية العبث التي تسوق مجتمعنا إلى الهاوية. ولك أن تلاحظ، عزيزي القارئ، هذا القدر العجيب من واقع مشروع الضياع في مشاهد أربعة:-
المشهد الأول:- “نحن مجتمع لا نمتّ بصلة إلى باقي المكوّنات الإرترية إلا ما فرض علينا المستعمر عبر خريطته المُجحفة التي ربطتنا بالأحباش أصحاب التاريخ الدموي، ولا يحتمل أن نعيش معهم في دولة واحدة، فنحن شعب لنا صلاتنا التاريخية والديمغرافية وهم شعب له صلاته التاريخية والديمغرافية” هكذا تقول بعض الكيانات الإرترية التي وُلدت من بطن الهزيمة الممنهجة التي تعرضت لها جبهة التحرير الإرترية بجيوشها الجرارة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي متناسين أرتال الشهداء الذين سقطوا أمام أعينهم وكان كل حلم هؤلاء الشهداء أن تكون إرتريا بخريطتها التاريخية دولة مستقلة تحمل كلّ قيم الديمقراطية والمساواة والتعايش، إيمانا منهم بأنّ هذه الخريطة لم تأت عبثاً، معتقدين أن ما سجّله التاريخ سلفاً من وحدة الكيان والمصير لا يختلف عمّا يبذلونه هم في حينهم وزمانهم.
المشهد الثاني:- “نحن البجا في أرضنا التاريخية نستحق أن تكون لنا دولتنا المستقلة بعيداً عن حكم دول المنطقة الذي اتسم بإقصاءنا وتهميشنا منهجيّاً في جميعها، وما علينا إلا أن نعلنها صريحة ومدوية، بأنّنا من مصوع وحتى حلايب شعب واحد وأرض واحدة ومصير واحد ومن ثم دولة واحدة، شاء من شاء وأبى من أبى” بهذا المفهوم انطلق مشروع آخر خارقاً كل الأعراف ومتناسيا الواقع الذي شمل كلّ العالم الذي استنكر الدول التي تسعى للقيام على المفهوم العرقي اللهم إلاّ دولة الصهاينة التي تسعى للتأكيد على كيانها تحت هذا المنطق. علماً بأنّ درء المظالم ومقاومة فجور الحكام لم يكن يوماً في اللعب بالمشاعر التي أنهكها الظلم. ولكن يكون بالسعي لترتيب البيت ثم السعي لتحقيق ذلك عبر التمكن من أدواتك وتطويرها حيث أنت. ولا ننس أنّ الهروب لم يكن حلّاً في يوم من الأيام خاصة وأنّه قد جرت العادة وأكدت طبيعة الأشياء أنّ الهروب عادة ما تتبعه الملاحقة. الواجهة حتمية هنا ربما الفرق الوحيد فيها أنّك تخوضها فارّاً مدبراً ولا شك أنّ الخسائر أكثر وأكبر.
المشهد الثالث:- “هؤلاء المسلمين سكان المنخفضات الغربية يستطيعون العيش في السودان فلينضموا إلى السودان أو ليذهبوا إلى أي وجهة يشاؤون ونحن أبناء التقراي نجتمع في دولتنا التاريخية” المؤكد أنّكم أعزائي القراء قد سمعتم هذا الكلمات من عدة مصادر ومررتم عليها مرور الكرام، وكما ترون وتسمعون وتلاحظون في ذواتكم فإنّ التفوّه بذلك ومن ثم الإعتقاد فيه قد أصبح أمراً طبيعياً، وكأنّه قد تم الإتفاق بين أصحابة من دفتى نهر مرب على أمر ما يقول بأنّ إرتريا ككيان بمضامينه الديمغرافية والثقافية ليست واقعاً مطروحاً. وقد كان آخر المحلقين في ذلك المشهد العبثي، وهذه المتاهة التي تغرقنا كلّ يوم، شخص عرف بتوازنه وعلاقاته المتشعبة عبر التاريخ وهو الأستاذ أمانئيل سهلي.
المشهد الرابع:- “هؤلاء البني عامر والحباب والبجا ليسوا سودانيين ويمتلكون مفاصل حسّاسة في الدولة ويسكنون في مناطق استراتيجية بما في ذلك تواجدهم الطاغي في الميناء الوحيد في السودان، ومن ثم يتوجب على السودان إعلان قومية الميناء وإعادة السيطرة على إقتصاد الميناء، كما أنّهم يسيطرون على أكبر سوق للغلال في السودان والمنطقة بصفة عامة ومن ثم وجب التصرّف حيال ذلك“ سمعنا ونسمع هذا العبث من بعض المثقفين السودانيين ومتصدري المشاهد الإعلامية وقد أدّت تحريضاتهم بشكل مباشر أو غير مباشر إلى النّزاعات المفتعلة في كل الأزمنة ثم محاولات الإبادة الممنهجة والإرعاب الجماعي التي يشرع بعض المخدوعين في تنفيذه بين الفينة والأخرى كما حدث مؤخراً في كل من القضارف وبورتسودان.
خلاصة هذه المشاهد العبثية:-
- أنّ إرتريا ككيان وخريطة ظلت محفورة في الذاكرة، لم تعد كذلك. وأنّ الخيارات تسير باتجاه صناعة خرائط عرقية غير منطقية، ستتبعها بالضرورة أزمات أكبر من أي توقّع.
- فئة ما من الشعب الإرتري يتم وضعها في زاوية ضيقة بحيث تصارع ذاتها وتتآكل داخليا بحثا عن هوية ووطن بالرغم من كونها الفئة التي استضافت الجميع في هذه المنطقة التي كانت في الأصل بلاد كوش.
- إن لم تتمكن هذه الدعوات من تحقيق هدفها الرئيسي سيكون لها على أقلّ تقدير رواسب سلبية سيدفع المجتمع الإرتري أثمانها باهظة ولن يكون أقلها أزمة الثقة والنظرة القائمة على الريبة وعدم الإطمئنان.
- هذا الشعب الذي يعيش على الحدود المفتوحة والذي عادة ما تكون حياته في الأجواء السليمة هنا وهناك بشكل دائم، فالحدود بالنسبة له خط مرسوم على الأرض فقط ولا يعرقل أي من حركاته سيعاني الأمرين، حيث ستنظر إليه كلّ الدول بعين الريبة ومن ثم لن يتبوأ أي من أفراده مناصب متقدمة وحساسة في اي من البلدان استناداً إلى ما يمكن القول فيه الإقصاء المنطقي. وهذا لا شك ينطبق على الحدود الغربية والجنوبية لإرتريا.
- نظام إساياس الذي يدّعي الوطنية والحفاظ على السيادة وعلى أساس ذلك افتعل أزمات ذهب ضحاياها عشرات الآلاف من أبنائنا نراه قد عمل “أذن من طين وأذن من عجين” وكأنّ ما يحدث في تخوم حدوده وداخلها يحدث في الكاريبي، علماً بأنّ كل هذه المشاهد تتهدّد الوجود الإرتري والنسيج الإجتماعي المكوّن للوطن الإرتري.
- كلما غرق هذا المجتمع في القضايا المفتعلة حوله و الأزمات المنسوجة على مقاسه كلّما تمكن الآخرين والغرباء من أرضه وعرضه.
- المثقفين والنّخب “المغيبين ذاتيّاً” يتحملون كامل المسؤولية في أمر إعادة الترتيب ورصّ الأولويات وتحديد المفاهيم. وهم ملزمون بالتنسيق بينهم والعمل على الوصول بالصورة السليمة إلى الجميع، ولن يغفر لهم التاريخ أو يقبل منهم أي مبررات للتخاذل أو أي أسباب للإنكفاء في أبراجهم العاجية.
—
لقطة أخيرة:- أعتذر لطول الغياب لظروف خارجة عن الإرادة، وأعد بعدم تكراره متى ما قدّر الله ذلك.
الأسبوع القادم، تعليقات مقتضبة على الأحداث التي مرت بها الساحة الإرترية والمنطقة بصفة عامة.
بشرى بركت
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=44096
أحدث النعليقات