الحاج صالح إندقوا ، الشاعر الوطني المخضرم
بقلم : إسماعيل إبراهيم المختار
كان للشعر الأرتري دور مهم في مسيرة الكفاح الوطني ، وكان الشعراء هم الصوت المعبر عن آمال الشعب ، وتطلعاته ، وطموحاته. وفي كل اللغات الأرترية برز شعراء حملوا هم الوطن ، وساهموا بشعرهم في مسيرة الوطن نحو الحرية والكرامة. ومن هؤلاء الشعراء شاعر باللسان السيهاوي ، تغنى الناس بشعره ، وتناقلوه فيما بينهم ، ذلكم هو الشاعر الحاج صالح إندقوا. والحاج صالح جزء من سلسلة مباركة من شعراء الوطن من أمثال : ياسين باطوق ، أحمد سيد هاشم ، محمد كجراي ، سكاب ، ومدني… وغيرهم ممن كان لشعرهم دوي وأثر بعيد.
ولد الحاج صالح في عام 1932م في الريف الأرتري من بيت عرف بقرض الشعر. تنقل بين المدن الأرترية ، وسافر إلى بلدان مختلفة ، وشاهد عن كثب التحولات التاريخية في أرتريا. إستقر في سنواته الأخيرة في السعودية ، حيث توفي فيها في عام 1992م.
أشعار الحاج صالح كثيرة ، ومواضيعها متنوعة ، وكان يقولها إرتجالا على البديهة ، فيحفظها من سمعها منه ، ثم يتناقلها الناس شفهيا فيما بينهم. وأشعاره كانت على نوعين : نوع جاء ردا لمفاتحة شعرية ، ونوع تلقائي جاء بدون مفاتحة. وقد كانت من عادة القبائل السيهاوية أنهم إذا أرادوا أن يدفعوا الشاعر لقول الشعر أن يفاتحوه بأبيات شعرية ، فيتحتم على الشاعر الرد بالمثل. أشعار الحاج صالح لها خصائص ، منها:
أ – كثرة المفردات العربية : يكثر الحاج صالح من إستعمال المفردات العربية في شعره ، وكان يدمج هذه المفردات دمجا سلسا ، يزيد شعره جمالا وتألقا.
ب – وفرة المصطلحات الإسلامية : تتخلل المصطلحات الإسلامية أشعار الحاج صالح (مثل الجهاد ، والتوبة ، والجنة وغيرها) ، ويحتوي شعره على أدعية يدعوا فيها على الظلمة والمعتدين.
ت – بعد الإمتداد الزمني لأشعاره : ولد الحاج في عصر الإستعمار الإيطالي ، وعاصر فترة الإنتداب البريطاني ومرحلة تقرير المصير ، وشهد عصر الحكم الفيدرالي وعصر الإمبراطور هيلى سلاسى ، وزامن ميلاد جبهة التحرير والكفاح المسلح ، وأدرك دخول جيش التحرير إلى أسمرة وسقوط منقستوا. وشعره يتناول كل هذه المراحل وما كان فيها من تحديات.
ث – غلبة الشعر الوطني: موضوعات شعر الحاج صالح منوعة ، ولكن غلب عليه الشعر الوطني السياسي بكافة مناحيه. وشعره الوطني يدل على روح وطنية أصيلة ، ووعي مبكر بالتحديات المحيطة.
وهذا المقال محاولة متواضعة لتعريف غير الناطقين باللغة السيهاوية بهذا الشاعر المميز. وفيما يلي مختارات من شعر الحاج صالح حاولت جاهدا ترجمتها للعربية. ومن الصعب ترجمة الشعر ، لأن كل لغة لها خصائصها ، ولمساتها الجمالية. ومما يزيد الأمر صعوبة أن الحاج صالح يلتزم بقافية واحدة في أبياته ، والترجمة قد تنقل بعض معاني الشعر ، ولكنها تخل بقافية البيت ، ولاتنقل الجانب الجمالي وما يصحبه من جرس موسيقي. ونظرا للنقل الشفهي لأشعار الحاج صالح ، فإن بعض أشعاره قد إعتورها النقص وعدم الدقة في النقل.
أ – أبيات نداء للأرتريين بأن يختاروا الحرية:
إختلفت توجهات الأرتريين في فترة تقرير المصير ، بين من يطالب بالإتحاد مع أثيوبيا ، ومن يطالب بالإستقلال الفوري ، ومن يطالب بالتقسيم ، ومن يطالب بوصاية إيطالية يتبعها الإستقلال التام. فكانت هذه المقتطفات من أبيات الحاج صالح ، وفيها يدعوا الأرتريين إلى التمسك بخيار الحرية والإستقلال الناجز:
أيها الأرتريون أطلبوا الحرية
فلا أحد يعيش دوما تحت التبعية
فليست بأرقى منكم أثيوبيا
وإياكم والمناداة بوصاية إيطاليا
ب – أبيات في وصف الحالة المعيشية في أرتريا:
سافر الحاج صالح إلى الصومال ومستقبل أرتريا مهدد بتلاعبات الإمبراطور وأعوانه. في الصومال نزل ضيفا على قريبه المقيم هناك ، ففاتحه مضيفه بأبيات شعرية يسأله عن حال البلاد فأجاب الحاج صالح على الفور:
لتكن معيشة عدوك معيشة وطننا
لقد عجز التاجر عن ممارسة تجارته
وعجز الفلاح عن فلاحة أرضه
ولبست النساء الخرق البالية
يشحت المسلم من المسيحي
ويشحت المسيحي من المسلم
يفعل فيك العسكري ما يحلوا له
ولا يعرف إلى الآن من هو الحاكم
لعل الحاج صالح في بيته الأخير “ولا يعرف إلى الآن من هو الحاكم” ، يشير إلى ما كان عليه الحال من وجود صوري لرئيس تنفيذي منتخب ، مع وجود ممثل الإمبراطور الذي كان من وراء الكواليس هو الحاكم الفعلي للبلد.
ت – أبيات قيلت حين دخول هيلى سلاسى إلى مصوع:
أقام الحاج صالح وأسرته في مصوع فترة من الزمن ، وشهد فيها نزول هيلى سلاسى إلى مصوع عائدا من زيارة خارجية ، إثر قيام إنقلاب عسكري ضده في أديس أبابا في عام 1960م بقيادة الجنرال منجستوا نواي. وفي هذه الأبيات يصف الحاج صالح ما آلت إليه الأمور في عصر هيلى سلاسى:
لقد تحقق ما حذرت منه الرابطة
وصار سليل السوء ظالما وطاغية
والظلم عائد لصاحبه عارية
لقد حل علينا عصره الموشح بالكآبة
أصبحت الأسواق نهبا وسرقة
وأصبح الريف جوعا وفاقة
وأصبح أبناء البلد مهجرون في الغربة
لو طلبت حقك تعرضت لعقوبة
البعض صار مصيره الزنزانة
والبعض صار مصيره المشنقة
وصار نصيبي البكاء وقول الشعر
شبابنا فقدوا الحماسة
مشائخنا حرموا الإجابة
قساوستهم فقدوا الهمة
السفهاء تصدروا كل واد وساحة
والزعماء لبسوا خف المذلة والمهانة
حق علينا أن نعلن الجهاد وسيلة
إما ننتصر وتكون النشوة
وإما نموت فتكون لنا الجنة
ويعود الوطن ليكون للجميع مأوى
لقد صار نزوله عندي في هذه الليلة
وقد أفلت من الإنقلاب على عرشه
ث – أبيات تدعوا إلى الثورة ورفض الإنضمام:
بدأت أثيوبيا في إتخاذ خطوات للقضاء على الإستقلال الفيدرالي لأرتريا ، مستعملة في ذلك عملاءها من أمثال “أسفها ولد ميكائيل” ، رئيس الحكومة الأرترية ؛ و “تدلا عقبيت” ، رئيس البوليس الأرتري ؛ فكانت هذه الأبيات من الحاج صالح ، وفيها يدعو للثورة والعصيان ، ويدعوا على “أسفها” بالحرمان من الذرية ، وعلى “تدلا” بالقتل على يد صاحبه (أثيوبيا):
أرتريا يامهدي الذهبي
أيعقل أن تلحقي بالكيان الأثيوبي؟!
لا لا تدعوا هذا الامر يمضي
ولو قاتل في ذلك الإبن أبيه
ليكن “أسفها” مقطوع الذرية
وليكن حتف “تدلا” على يد صاحبه
ولتقم الثورة في هذا البلد
يذكر بعض المتابعين لشعر الحاج صالح أن دعوته على “أسفها” ودعوته على “تدلا” قد تحققت ، وأن الأول مات دون عقب والأخر قتل أنه مات منتحرا بعد ما حاصرته فرقة من 1سقد”على يد الجيش الأثيوبي ، وهو ماتذكره أغلب الروايات ، والذي رجحه المؤرخ “ألم الجيش الأثيوبي.
ج – أبيات في مدح الثورة الأرترية:
دعا الحاج صالح إلي قيام الثورة قبل ميلادها ، وبعد ميلادها تغنى بها ، وأكثر من إطرائها ، وتعداد مميزاتها ، وهذه بعض من أبياته:
ثورتنا ثورة لا نظير لها
لم تخرج وهي تحمل قرشا
ولم تخلف وراءها شيئا
لم تجد دعما من دول
لم تفعل ثورة الجزائر فعلها
ولا ثورة ليبيا كانت مثلها
إقتحمت ساحة السوق في شجاعة
وفرغت شحنات الرصاص في جند عدوها
وفعلت كل ذلك بسلاح غنمته من خصمها
ح – أبيات في رثاء مفتي أرتريا الشيخ إبراهيم المختار
توفي مفتي أرتريا الشيخ إبراهيم المختار في شهر يونيو عام 1969م ، فرثاه جمع من شعراء العربية ، من امثال الأستاذ عبدالقادر ، والأستاذ بارحيم ؛ وعلى غرارهم كانت هذه الأبيات التي قالها الحاج صالح في مجلس العزاء في منزل المفتي:
مختار بمن أشبهه وأصفه
لقد كان والده عالما مثله
لم يكن معهدا ولا مفتيا قبله
لم يطاطئ يوما للملك رأسه
ولم يبع شعبه من أجل منحة
لم يطمع الشيطان في وسوسته
ولم يحرف القرآن ليرضي ال”تواهدوا”
لم ترث “أللفيش” في زمنه
لم يسعى لحضور الولائم
لم يتقاعس الحضارم عن وعظه
وكان الباحبيشي ساعده ورفيقه
والقاضي علي صديقه وصنوه
أفل بريق العلماء في هذا المساء
وعم الشباب الحزن والأسى
وذرفت عيوننا دمعا غزيرا
لا نقل أي ليلة هي هذه الليلة
فقد رحل النبي قبله
لتكن الملائكة في صحبته
وليكن أبناءه ورثة مقامه
ولتناقش مصر بديله
والمقصود ب”التواهدوا” هنا نصارى الأرثوذكس ، و”أللفيش” إسم إمرأة ثار خلاف حول استحقاقها الميراث وبت في حكمها المفتي. ولعل الحاج صالح يقصد من ذكره “الحضارم” الإشارة إلى فصاحة وعظ المفتي بالعربية ، وهم الناطقون بها. والباحبيشي كان من أثرى أثرياء أرتريا ، وساعد المفتي في المشاريع الخيرية والتعليمية ، والقاضي علي عثمان من كبار علماء أرتريا ورفيق درب المفتي. ولعله يقصد ب”مصر” في بيته الأخير الأزهر ، ولعله قال هذا خشية من تدخل الحكومة الأثيوبية في تعيين المفتي.
خ – أبيات قيلت في رثاء شهداء دنكاليا
ومن ذوي السبق في العمل الميداني والعسكري. وقد قتلوا ، 2من قدامى المناضلين ثلة م بمقتل 1978فجعت الساحة الأرترية في عام جميعا غدرا في صحراء دنكاليا على يد أرترية من داخل جبهة التحرير الأرترية. وكانت الجبهة تمر بصراعات داخلية مريرة. وكما هو المتحكم سرا في قيادة جبهة اليساري “حزب العملكان ” ، 3″حوري تدلا بيروا” في مؤلفه القيادي السابق في جبهة التحرير اشارالتحرير آنذاك. وكان يرأس هذه الثلة الاستاذ سعيد حسين ، خريج دار العلوم المصرية ، وعضو المجلس الثوري للجبهة. وجاءت هذه الأبيات من الحاج صالح لرثائهم ، مشنعا فيها على من كان وراء قتلهم ، ومبينا فداحة فقدهم :
لا تقولوا عن هؤلاء أموات
هؤلاء الذين خرجوا للثورة أشبالا
وجاؤا بجنرالات العدو أرتالا
ولم يستاثروا لأنفسهم وقبيلهم مغنما ومكسبا
كانوا في عددهم عشرة وفي شجاعتهم ألفا
لم تبك عليهم دولتهم وحدها
بل بكت عليهم عشر دول أخرى
من يا ترى دبر هذه الجريمة
أعلى كؤوس الخمر وضعت الخطة
قتلتموهم غدرا بعقاقير منومة
لم يقتلوا في معركة
ولم يقدموا لمحاكمة
لقد أنجزتم ما عجزت إنجازه أثيوبيا
ولذلك هللوا لصنيعكم علانية
لقد جئتم بداء لا دواء له
وحملتم دينا لا قضاء له
ولطختم للتاريخ صفحاته
والجبهة من بعدهم مصيرها البوار
ولينل من فعل هذا جزاءه عاجلا
د – أبيات في أثر المال في حياة الناس:
هذه أبيات يحذر فيها الحاج صالح من الإنخداع ببريق المال ، ولعله يستلهم فيها الحديث النبوي الشريف: “تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم..” ، يقول الحاج صالح:
ليكن عدوك عبد الدولار
ترى الذي يملكه يكدح ليستزيد منه
ومن لا يملكه يشقى في تحصيله
ترى العاقل يتلجلج عقله فيه
وترى العالم يزيغ علمه فيه
وبعد كل تكون النهاية الي المقبرة
ر – أبيات في التحذير من الصراعات القبلية
الصراعات القبلية كانت داءا عانت منه المجتمعات الأرترية. وعلى غرار الشاعر الجاهلي ، زهير ابن أبي سلمى ، الذي حذر قبيلتي عبس وذبيان من مغبة الإقتتال بينهما ، حذر الحاج صالح قبيلة “مينفرى” و قبيلة “حزوا” السيهاويتين من عواقب خلاف نشأ بينهما حول قطعة أرض. ولعل الحاج يستلهم في تحذيره الأية القرآنية “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم” ، يقول الحاج صالح:
ليكن ما كان لحزوا لمينفرى
وليكن ما كان لمينفرى لحزوا
وإياكم والتعاند فيما بينكم
حتى لا تكونوا خدما لغيركم
وصلاح الأمر إنما يكون بالتسامح بينكم
أشعار الحاج كثيرة ، وما من حدث سياسي أرتري عاصره إلا وتكلم فيه. وله أشعار ساخرة في التنظيمات الأرترية وصراعاتها ، وأشعار في إنتصارات الجيش الشعبي الأرتري ، وأشعار في النظم السياسية. ولقد غلب على الحاج صالح في أيامه الأخيرة شعر الوعظ ، والتحذير من البدع ، والموالد ، وزيارة القبور. وأشعار الحاج رغم كثرتها لا تزال مبعثرة ، وقليل منها ما تم تدوينه. وقد تم إنشاد بعض أشعاره في أغاني وطنية منها أغنية يمجد فيها المقاتل الحامل للسلاح ، والسائر بالليل ، وهذا مطلعها:
يا صاحب “السنادر”
يا حامل “الأربجي”
يا سائرا في الليل الداجي
ورغم ضياع الكثير من شعر الحاج صالح ، فإنه يظل شاعرا وطنيا أصيلا ، ساهم بشعره في إيقاظ الحس الوطني والقومي. والشعر عند القبائل السيهاوية سجية ، ولذلك يكثر الشعر والشعراء بينهم ، والحاج صالح يعتبر في مقدمة شعراء السيهاوية مع الشاعر محمد فركوبي – توفي تقريبا في عام 1901م – وغيرهم من الشعراء. رحم الله الحاج صالح وأسكنه فسيح جناته.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=44218
أحدث النعليقات